ادب وفن

بساطة الشعر وصنعته الماهرة* / عبد الكريم كاصد

لا يمكنني، حتى هذه اللحظة، أن أتخيّل مهدي غائباً، وقد أحتاج إلى زمنٍ لأقتنع أن رحلة مهدي هذه هي الرحلة الأخيرة.
قبل أسبوع فقط من رحيله، اتصلتُ به، فكلّمني دون أن يبدو عليه أبداً أنه سيشرع برحلة على الأرض، أوفي السماء، فلا صوتُهُ نمّ ولا ألفاظُهُ، أنه سيغادرني إلى الأبد.
بضعة أيام هي، ويدخل مهدي الأبدية.. تلك الأبدية التي كان يمرّ بها في شعره، فيمسها مسّاً رفيقاً وهو يبتسم أو يضحك .. مهدي الذي يخشى المغامرة ويدخلها مغامراً، لا يفارقه الهدوء أبداً.
في الصحراء، في رحلتنا على الجمل، لم ينقطع مهدي عن طرائفه .. ما أكثرَها!
طرائفهُ هذه لم تغادرْهُ حتى وهو في أصعب المواقف، ولعلّها هي ما يجعلني شديد الانتباه لجِدِّهِ أيضاً.
مرّة، في زيارتي الأولى لدمشق، بعد رحيلي عنها، كنّا في سهرة وكان مهدي مبتهجاً، يتحسّس كأسه، بين آونةٍ وأخرى منتشياً، دون أن يمزج خمرته بالماء عملاً، ربما، بقول أبي نواس الذي أحببناه معاً:
لا تجعل الماء لها قاهراً ولا تسلّطها على مائها غير أن بعض الجالسين لم يستسغْ ذلك، فهمس في أذني مستغرباً رغم أن مهدي لم يبدُ عليه ما هو غير مألوف في جلسته، ولا في حديثه: يظهر أنّ صاحبك .... إلخ؟
في اليوم التالي قلتُ له، هو الذي أوثره على نفسي:
يا مهدي ألا تريد أن تستمتع بشربك؟
قال: طبعاً.
قلتُ له: لماذا تجعل الآخرين يتطلعون إليك فيفسدون متعتك بعرقك الحبيب. قطرة ماء ويستحيل شرابك أبيض، فتشربه هانئاً بلا رقيب.
قال لي: ما قلته صحيح.
وضحك.
وحين التقيتهُ في حلب للمرة الثانية، قبل سنتين أخذني إلى مطعمٍ، وطلبنا مع الطعام شراباً فقلت له: ما رأيك هل نطلب عرقاً؟
قال لي: لا.. لقد تركت العرق.
فكان ذلك مدعاة لفرحي.
قلت له مازحاً: يا مهدي هذه خطوة تستحق أن نشرب من أجلها العرق.
لكنه أضاف : لقد استبدلتُ "الجنّ" به.
فضحكتُ وقلتُ له: وأنا الأنسيّ سأشرب معك الجنّ .
ورغم أخوّتنا الطويلة، لم اسأله حين التقينا عن هذه اللحية التي تزيده عمراً، وتحجب أجمل ما في وجهه، من ملامح طفوليةٍ رقيقةٍ لا تُخفيها حتى الشيخوخة .. ملامح طالما أحببتها، وقد لا يراها غيري، ولكنْ ثمة حذرٌ يوقفني عما ينبغي أن أُفضي به حتى لأحبائي، لا سيما إنني أسرفت في عتابي له لعدم تواصله مع النشر، أو لعدم استخدامه الإنترنت، أو لعزلته، أو.... وغير ذلك من أمور كم تبدو صغيرة الآن، أمام هول الموت.
مع ذلك كنت أُكبر في مهدي صفاءَ روحه، وحصافته التي لم تغادرْهُ يوماً، حتى وهو في أشدّ ظروفه تعاسة، أو في أشدّ مقاماته انتشاءً، بل وألفيتني أستأنس بعاداته، وطقوسه التي تتوسطها دوماً كأسُه البيضاء ،عندما كنا جارين في دمشق، وكأنّ كأسَه هذه الفنار الذي يرشد سفنه المبحرة، وهو يقرأ أو يكتب. ولا أخفي القارئ أنني وودتُ لو أنني شعرتُ بجزء صغير من متعة طقوسه، فلياليّ ولياليه تخلو من المتعة تماماً، نقضيها في الترجمة والكتابة، والعمل المأجور، ولعلّ ساعاته كانت أكثر جفافاً، فهو يبيع ما يكتب بالقطعة ليعيش، وما أكثر المقا?ات التي نشرت له بدون اسمه، والمقاولون الذين باعوا مقالاته للصحف كثر وهم بارعون في تسويق بضائعهم أوفضائلهم، ويساريّون أيضاً.
لن أتحدث عن الكتب التي ظهرتْ بأسماء أخرى.
لا أدري كيف يمكن الإبحار في مستنقع كبير كهذا بدون أشرعة، لا تمنحها غيرُهذه الكأس. يشربها البعض لينسى، ولكن مهدي يشربها ليستيقظ .. ليتذكر .. أو ليحتال على فكره المشاع. وهذا ما كنتُ افتقده، لذلك تبدو لياليّ أشدّ جفافا ومقتاً (من منّا تُرى لياليه أشدّ جفافا؟). وحين يلتقي السكران والصاحي، عند منتصف الليل، وقد احدودب ظهراهما لا تميز أحدهما عن الآخر. فأنا سكران أيضاً من همّ الكتابة، وبؤس الترجمة. ومع ذلك فما أشقى الأيام التي عشناها في دمشق. وما أقسى المقاولين الذين كثيراً ما يتعمدون الخطأ في عدّ الصفحات، ليقلّ ا?دفع، وحين نذكّرهم بأرقّ الألفاظ أنّ ثمة خطأ في العد يعدّون الصفحات مسرعين، لينشطر الخطأ نصفين: جنيّ ويابس – ما أجملك يا أبا نواس- وهكذا يرضى الطرفان: المعوز والمقاول اليساريّ المتخم صاحب المؤسسة الكبيرة الممتدة الأطراف إلى أصغر جريدة خليجية أو مؤسسةٍ مشتراة.
إنّه الجليس بحق، النديم بحق، والشاعر بحق، وما يهمني الآن لا الحديث عنه جليساً، أو نديماً، حتى ولا صديقاً حميماً، وقد عشتُ معه جلّ سنوات حياتي في البصرة، وعدن، ودمشق، وكتبت عنه صفحات عديدة من قبل، وسأكتب عنه ربما صفحات عديدة، وإنما عن شعره إن كان ثمة مسافة بينه وبين شعره، وهذا محال.
كم يبدو شعره بسيطاً، ولكن ثمة صنعة خفية.. صنعة ماهرة لم تفارقه قطّ حتى في آخر دواوينه، بل إنها أضحتْ أشدّ إحكاماً في بعض قصائده الأخيرة، ولا سيما القصيرة منها. ولكي لا يبدو هذا الرأي وكأنه رأيٌ أملاه الموت، أو تقديم هذه المختارات، فإنني سألحق بهذه المختارات، مقالة كتبتها عن شعره، قبل ما يقرب من ثلاثين عاماً، ليتضح للقارئ أنه أمام شاعر هو من بين أجمل شعرائنا. لم يستطع نقدنا القاصر اكتشاف عالمه الغنيّ، لانشغاله بما هو خارج الشعر، لكننني قبل أن أورد مقالتي هذه التي سألحقها بالمختارات، سأشير إلى بعض قصائده الأ?يرة التي غفل عنها هذا النقد، مثلما غفل عن غيرها من قصائد.
خذوا هذا المقطع الذي لا يمكن أن يكتبه إلا من خبر اللغة والشعر طويلا، لما فيه من حركة وإيجاز ودقة في اللفظ، ومهارة في اللغة، ولما فيه أيضاً من بساطة وشعبية نادرتين!
جيدُها الضوء
وجنتُها جمرةٌ
شعرُها
ظلّها
ها.. هها
ها..هها
ها..هها
خطوُها
مايزال!

قصيدة (عابرة)

أو هذا المقطع الجرئ النابض بالحياة:
أيّذاك الغلام البهيج
أيّتلك العيون الضحوكة
باللمعان
أّيّتلك الخدود
أيّذاك الأنَيْف الوسيم
أيّذاك الحُنَيكْ
أيّذاك الغلام
كما درّةٍ
في ثيابٍ معفّرةٍ
كيف تمضي خطاك إليكْ؟!

قصيدة (نرسيس المايكروباص)

أو هذه القصيدة الذكية بالتقاطاتها،وتفاصيلها المشبعة بحب الناس:
عائدون إلى البيت
عند الغروب
قبيل الفطور:
مشوقٌ إلى الله يمشي الهوينى
وشيخٌ يعود بباقة فجلٍ على عجلٍ
ثم سيّدةٌ أوصلت بعضَ فطرتها للذي يستحقّ
وآخر يلهث، وهو يقودُ
- على حرّ تموز-
درّاجة
حملتهُ، وثلجاً على ردفها
وصغيراً تشبّث
وهو يتابع أنفاسَ والدهِ
يترقّب أن يسمع الطوب
يرفع صوتَ المدينة
ثم المآذن ترفع صوت الأذان
الملاعق تسمع رنّتها
يفطر الصائمون
يغيبون في خدرٍ
ثمّ ينتظرون، على النار،
وسوسة الشاي بعد الفطور
تصحصحهم للتراويح
بعد صلاة العشاء!

قصيدة (لحظة رمضان2)

لعلّ ما قلته عن مجموعة مهدي الأولى (رحيل عام 1978) ينطبق على شعره اللاحق في مجموعاته الأخرى، ولاسيما في قصائده التي اخترت منها.
هذه المقالة وضعتها مقدّمة لمختارات شعره التي ستصدر قريباً والتي تحتوي على ما يقرب من سبعين قصيدة أغلبها قصار. كذلك ألحقت المختارات بدراسة طويلة عن ديوانه الأول (رحيل 78) يكاد ينطبق ما جاء فيها على معظم شعره اللاحق.
ــــــــــــــــــــ
*ننشر هذا المقال في مناسبة الذكرى السنوية الثانية لرحيل العزيز الشاعر مهدي محمد علي، التي مرت اخيراً