ادب وفن

قصتي مع الروائية الخيالية غيل غودوين / ترجمة: علي سيف الرواحي

قلت لا على الفور. أحد المحررين كان قد أتصل بـ «جون»، وكيلي الأدبي ليعرض عليه فكرة أن أكتب كتابا عن القلب والطرق المختلفة التي تخيلنا فيها القلب عبر الزمن وعما تخبرنا به صوره العديدة عن الحالة البشرية. وكأنَّ هذا المحرر يريد «جرعة مفوّهة بالتفاصيل داخل قوسٍ سرديّ يطوق زواياه» كما قال لي جون. شخصيا أود قراءة كتاب عن هذا الموضوع، أجبته، لكن ليس بمقدوري كتابته؛ فأنا كاتبة قصص وروايات خيالية. رغم ذلك فإن الأمر برمته استولى على تفكيري ومخيلتي، لذلك قدمت بعض الاقتراحات بما يجب على الكتاب أن يحويه.
أولا يجب الابتعاد عن طريقة البحث الأكاديمي الجافة. بل حبذا أن يكون الأمر كرحلة حميمية مضيافة بمرافقة دليل عارف بمسالك الطريق والذي سيجعل الرحلة ممتعة عن طريق تخطيطه الجيد، والذي يترك بعض النهايات مفتوحة لتلج منها المفاجآت.
«يجب أن ينبع الكتاب من قلب كاتبه، كائنًا من يكون»، أخبرت جون.
قبل أن أغلق الخط كنت قد أعطيت نبذة لا بأس بها عن الكتاب الذي رفضت كتابته. «على أية حال دعني أبيت على الفكرة»، قلت في نهاية المطاف.
لم يكن هنالك ما أنام أو أبيت عليه، ففي قرارة نفسي كنت قد وافقت على القيام بما كنت أبطنُ النية على التفكير في القيام به.
في كتابي القيم «الدليل إلى الأدب» عرّفت الكتابة الخيالية بـ «كتابة سردية تخلق من مخيلة المؤلف عوضا عن الأحداث التاريخية والوقائع» على الرغم من أن هنالك روايات تاريخية وروايات تتناول سيرة شخصية بصورة خيالية، وأصناف تروي التاريخ من وجهة نظر شخص يروي قصة حياته فيها، وروايات تحكي وقائع حقيقية مغلفة بسرد خيالي. على الجانب الآخر ليس هنالك مدخل تعريفي أو تصنيفي واضح للكتابة الواقعية لكن قاموس «راندم هاوس» «١٩٨٧» عرف الكتابة الواقعية بـ «سرد نثري يتعامل مع وقائع وحقائق أو يقدم وصفا لها أو رأيا فيها». ومصطلح الكتابة الواقعية تم استخدامه عندما تم البدء في تصنيف الكتب في بدايات القرن العشرين.
أول فرق اختبرته عندما عبرت الضفة من الكتابة الخيالية إلى الكتابة الواقعية هو رغبة الناشر في إبرام عقد أو صفقة يضع فيها اقتراحاته والخطوط العامة للكتاب والتي قد لا تكون موفقة. تعودت ككاتبة روايات خيالية أن أٌطلع أحدهم على صفحات منتهية من رواية قيد الكتابة لآخذ رأيًا أوليًا عنها، مع أنه لاحقا، بعد أن تمكنت من اللعبة وبعد أن نشرت خمس أو ست روايات كنت أتحفظ على أعمالي وأكتفي فقط بذكر عنوانها المؤقت وموضوع الرواية. وكنت أرى أن السبيل إلى «مخطوطة مقبولة» يشترط بوضوح أن الصيغة النهائية للرواية يجب أن «تتوافق مع المعايير الأدبية والحرفية» لرواية كنت قد نشرتها سابقا.
لو كنت كاتبةً متحققة في الكتابة الواقعية وأردت أن أقدم روايتي الخيالية الأولى، هل سيكون التوقيع على نشر «عمل من الخيال» أكثر مجازفة من عمل «مبني على حقائق واقعية»؟ كيف يمكننا أن نرسم الحدود الفاصلة بين هذين النوعين من النثر؟
أثناء تأليفي لكتاب «الفؤاد» لم أبرح أكتشف أن تلك الخطوط متماهية ومتداخلة. فدرجة توظيف الخيال في العمل الواقعي عالية جدا. على سبيل المثال، خذ الجمل الافتتاحية لكتاب «هنري آدم» رحلاته وتجربته الروحية المعنون بـ جبل القديس ميشال وشارتر: «لقد كان الملاك المجنح يحب الارتفاعات. قاعدا على قمة البرج المتوج لكنيسته، ناشرا جناحيه، رافعا سيفه، بينما الشيطان يزحف ذليلا تحت قدميه».
ألا يبدو ذلك كأنه مفتتح لقصة أو أمثولة خيالية؟ حيث أننا نجد أنفسنا داخل رأس وأفكار الملاك المجنح. لكن لا، المؤلف كان يصف برجًا حقيقيًا لكنيسة موجودة على أرض الواقع.
أحب أن أتطرق في الحديث عن تجربتي في أخذ آراء الناس في الكتب التي تكون قيد الكتابة لدي. لم يكن لدي مطلقا القلق من نضوب معين إلهامي حين أعرض كتاباتي غير المنتهية على الملأ، وهي التي يمكن أن تنضب تحت هوسي الشديد بالتدقيق. وهذا العرض قد يسلط الضوء ويريني بوضوح الطريق الذي أسلكه. ولكن عندما كنت أناقش رواية أنا في صدد كتابتها فإن المستمع يدلي بملاحظة غاية في اللياقة. قد يقول بعضهم عندما يتحمسون لشيء في منهجي لكتابة الرواية «حدسك الخفي يصيبني بالقشعريرة» أو قد يتساءلون كيف تغلبت على صعوبة فنية وتقنية معينة، لكنهم يمتنعون عن إبداء اقتراحات في محتوى الرواية نفسها.
لكن ذلك لا ينطبق على كتابي الواقعي «الفؤاد». الكل كان لديه ما يقترح أن أضمنه في الكتاب. «سأبعث لك بعض المواد عن مفهوم القلب في الحياة الآخرة لدى الفراعنة»، قال لي أحد الأصدقاء بينما كنا نتمشى ذات يوم «لقد بهرتني هذه الكتابات حين كنت أعيش في القاهرة».
مدربي الرياضي قال لي أيضا «احرصي على أن تذكري العلاج الصيني، فإنه مليء بالعجائب فيما يتعلق بمفاهيم القلب». يرجع هذا التدافع لتقديم الاقتراحات والآراء إلى أن بعض الناس يشعرون عند تأليف أحدهم لكتاب يعتمد على التاريخ والثقافة المشتركة بين الإنسانية أن عليهم أن يقدموا مصادرهم الخاصة للمعلومات.
الفرق الذي تفاجأت به عند كتابة «الفؤاد» هو أن الكتابة الواقعية تطلبت بحثا أقل من كتابة الروايات. عندما انتهيت من توظيب عامين من البحث لإحدى رواياتي، المواد من الأبحاث الورقية ملأت صندوقين فارغين من صناديق الشمبانيا. وتضمن ذلك البحث عدة أرطال من البيانات عن السجون العسكرية في الحرب العالمية الثانية ونسخ لكتب نفدت طباعتها عن عجائب تلك الألفية ومسودات فلمية عن ملاجئ الأيتام في الولايات المتحدة وملفات ضخمة عن مكافحة الحرائق، والأضرار على الرئتين، ومعلومات عن كيفية تصميم البروج التي تحمل الأجراس ومراسم تنصيب الرهبان. بالإضافة إلى الاستعانة بمكتبة كاملة في الكتب الدينية واللاهوتية. بينما في المقابل فإن البحث الذي أجريته عن كتابي الواقعي الأول «الفؤاد» بالكاد يملأ صندوقا واحدا لحفظ الشمبانيا، والكتب التي استعنت بها قليلة جدا.
معظم الكتب التي احتجتها لكتابة «فؤاد» كانت من بين مقتنياتي. كتب فلاسفة وعلماء نفس، فنانين وشعراء، كتب دينية متعددة، اشتريت «الأوبانيشاد» من الكتب الهندوسية المقدسة والقرآن، كتب الأساطير، كتب تاريخ، روايات ودواوين شعر، كتب عن حياة القديسين والمتصوفة. وكنت أعرف كيف أجد ما أريده من تلك الكتب. والقواسم المشتركة التي تجمع الكثير من الكتب تظهر بعد سنوات من القراءة والبحث وتظل تلك القواسم تنتظر من يجمع بينها ويضعها في إطار منظم ومنطقي.
ما أدركته حينما أكتب أعمالي الخيالية هو أنني لا ألجأ كثيرا إلى البحث لأنني أخترع عالمًا متكاملًا وأجبر نفسي على الاعتقاد بأنني أعرف كل ما يدور في ذلك العالم وأعلم كل شيء يتعلق بالشخصيات، رغم أني لا أضع كل ما أعرفه في الرواية. عندما كان الأخ توني يروي قصة حياته في روايتي «ايفين سونج» لم أستخدم جل المعلومات التي جمعتها عن السجون، لكن ما قرأته عنها ساعدني في جعل توني يتخيل شكل السجن، حتى أغرب التفاصيل التي أضافت نوعًا من المصداقية والواقعية لما كان يصفه.
أما فيما يتعلق بكتابة «فؤاد» وأقصد هنا التركيب النصي من حيث وضع الكلمات والمفردات وما يختص بكبح الآراء الشخصية والتأملات الداخلية التي تراوغ للخروج إلى السطح، وكيف كنت أتصارع مع خلايا دماغي لتذكر كلمة كنت قد حفظتها بالأمس، كيف تختلف عملية كتابتي للواقعي عن الخيالي؟ في الحقيقة لم تكن تختلف البتة، فأسلوبي الشخصي واختياري للكلمات والترتيب العام للأفكار بقي على حاله.
صوت الكاتب في داخلي حاضر في كل صفحة أكتبها، لا يهم إن كانت امرأة من صنع خيالي تتذكر بلسانها الخاص كيف طلبت من رجل أن يقص شعرها كي يتسنى له طلب يدها، أو سرد تاريخي يحكي كيف أن الفراعنة كانوا يحذرون أن «يأكل أحدهم قلبه»، بمعنى أن يغضب بشدة، وكيف نحتنا من ذلك إحدى مقولاتنا الشائعة وهي «أكل قلبه حرقة». وأي صفحة من أي كتاب لي لن يظنها أحدهم أنها من كتب «جاين أوستن»، أو «ايلمور لينورد»، أو «مارجريت أتوود»، مهما كنت معجبا بأسلوب وكتابات هؤلاء.
لكن الذي اكتشفته على أية حال عندما جلست لأكتب كتابي الواقعي الأول هو تكوّن ناقد جديد في داخلي، فرضه أسلوب الكتابة المختلف. وهذا الناقد لديه موانعه ومحاذيره الخاصة به، ولديه أيضا أسلوبه الجاف في تحطيم متعتي في الكتابة. في المقابل فإنني أتمتع بعلاقة قديمة مع ناقدي الذاتي في الكتابة الخيالية وهذا الناقد أنيق ومغرور صعب الإرضاء، ترتسم عليه ابتسامة توحي بالخبث والتواضع في آن واحد. «في إحدى نوبات الجنون المتكلفة حاولت رسم صورته». عمله الأساسي تحريك يده آمرا حينما يشعر بالخوف من عدم تمكني من الإبهار. تعلمت مع مرور الزمن كيفية التعايش معه، لكن مع الناقد الجديد ليس بعد.
أتخيل الناقد الجديد كامرأة جميلة باردة المشاعر تلبس رداءً هنديًا، أتخيلها كطيف أستاذتي في الجامعة التي قالت لي في إحدى المرات بلهجتها الانجليزية التي تنتمي إلى الأساتذة المرموقين أن أكتب أطروحة «حقيقة» مبنية على الحقائق لا كتلك التي يدخل فيها الخيال وتشكلها الكتابة الإبداعية، مع أن برنامج الدكتوراه في جامعة أيوا كان يسمح بذلك. لم آخذ باقتراح الأستاذة، حيث قبل قسم اللغة الانجليزية بالجامعة روايتي الأولى التي نشرتها لاحقا كإطروحة دكتوراه. لكن بعد ذلك أهملت شهادتي للدكتواره لسنوات عدة في إحدى الأدراج ولم أضعها في إطار أو أعلقها على الجدار بسبب عدم شعوري بأصالتها. ونوعية الكتابة التي كانت لتجعلها أصيلة هي نفسها التي يلح علي الناقد الجديد أن أستخدمها بما أنني في صدد كتابة مؤلف واقعي.
أستطيع القول بأنني قد استفدت كثيرا من تجليات الناقد الجديد. فعندما تكتب كتابًا مبنيًا على «الوقائع والحقائق» يجب عليك أن تكون على قدر كبير من المسؤولية. لأن عليك أولاً - أن تذكر مراجعك ومصادرك بشكل علمي ودقيق. ولا تستطيع أن تأخذ من جهود الآخرين ولا تعطيهم حقهم من الذكر. ولكن من الناحية السلبية، ظل الناقد الجديد يأمرني في صوته المتسلط ويقول «ضعي نفسك خارج النص يا غيل. بإمكانك أن تشرحي ما عناه الفراعنة بقولهم «يأكل أحدهم قلبه» «مع التأكيد على ذكر السيد «واليس بدج» كمرجع لهذه المعلومة»، وبإمكانك أن تسمحي لنفسك بمقارنة ذلك مع المفاهيم العصرية للتعاويذ. وبإمكانك أيضا أن تكتبي بأسلوبك وصوتك الخاص، وذلك هو أقصى درجات حضورك الشخصي في النص الذي يجب أن يكون خاليا حتى من تجاربك الشخصية». وقد نجح ناقدي الجديد، أو ناقدتي، في الفوز على ذاتي المبدعة إلى الحد الذي جعلني أسلم المخطوطة التي ظننتها منتهية فور انتهائي من كتابتها، ليرسل إلي المحرر بكل احترام اثنتي عشرة ورقة ملئت باقتراحات وتعديلات يخبرني فيها بضرورة إضافة رأيي الشخصي ولمستي الخاصة. «هل بإمكانك إخبارنا بكل استفاضة عن العلاقة بين الأساطير القديمة وفهمك الخاص لما يعنيه القلب؟» «هل لديك قصص شخصية أو معاصرة بإمكانك ربطها بمواضيع الكتاب؟» «هل بمقدورك أن تفتح قلبك أكثر لنعرف رأيك عن قرب؟»
وهكذا أخذ الأمر مني شهرين آخرين حتى أضع نفسي أكثر في «الفؤاد: رحلة شخصية في أساطيره ومعانيها». بعد كل هذا كيف يمكنني تعريف النثر؟ ولن أدخل في متاهات التصنيفات والتقسيمات هنا. أجدني سعيدة وراضية بتعريفه بـ « عمل شخصي معقد ومركب من مخيلة مكثفة وعميقة».
ــــــــــــــــــــــــــــ
موقع آراء- عن «النيويورك تايمز».