ادب وفن

حكايتي مع "طريق الشعب" / وديع شامخ

مقطع أول

في محلة الجمهورية، في محافظة البصرة، يومَ كنتُ طفلا أداعب إسفلت المدينة الجديد بـ «عربانة» خشبية تؤطرها رؤوس عجلات حديدية صغيرة « بولبيرينات»، حيث مدينة الجمهورية تكتسي بسواد أسفلت الشوارع مرّة أخرى، والصبح العراقي مُعلّق في عنق زجاجة.
هناك كان أخي الشيوعي «صبري شامخ» الممنوع من « شيوعيته « لأنه كان جنديا يخدم في مختبرات «مستشفى البصرة العسكري»، يأمرني بشراء جريدة «طريق الشعب»، يدس في يدي خمسة وعشرين فلسا.. قطعة معدنية مدهشة في خفتها ومثقلة في قيمتها.. فضية تشبه الصمت أيضا.
كان في أحايين كثيرة يدس في يدي عملة أكبر قيمة «درهما «وهو لا يقل فضية ً عن تلك من ناحية المعدن، ولكن بـ «الدرهم» يمكن شراء «جريدة الثورة « أيضا، لصاحبها حزب البعث المنحل!
كنت أنا رسولا فقط، أثبْت القطعة النقدية المعدنية في يدي (درهما أو نصفه) لكي أصل إلى مكتبة «مهدي» لأشتري الجريدتين مع ضمان وصول البضاعة من التلف الى يد أخي الشيوعي «الممنوع من التصرف»!
كانت لعبتي المفضلة أن انتظر أخي « المُجَمدة شيوعيته «في براد الجبهة الوطنية» لأواصل لعبتي المفضلة دون اعتراض من أحد،
لعبة من بياض الطفولة وبراءتها على أسفلت أسود.
هكذا تنسمت «طريق الشعب» منشورا علنياً ومتاحا للطفولة في زمن «جبهة وطنية» جائرة الوطنية، غائمة المعالم، أراد البعث منها مشاركة «نفعية» للخروج من طوق الأزمة، و شهادة براءة من اليسار العراقي والعربي والعالمي أيضا لمرور القطار البعثي على «سكة وإسفلت البلاد معا «.
كان ذاك بعيدا جدا في سبعينيات القرن العشرين الفائت بكل خيباتها.. حيث غادرت « طريق الشعب « إلى جبال العراق وأهواره، وبقي الحبر ماثلا في القلوب.. والعيون تتشوق إلى رؤية الطريق المعبد بالحرية ونهوض الكائن.

صورة أخرى

بعد انتفاضة العراق الكبرى في تسعينيات القرن المنصرم. عادت «الطريق» إلى ذاكرتي ومعها «مجلة الثقافة الجديدة» حين عاودت تتسرب إلينا في البصرة، منشورات سرية نتداولها بحذر وربما.. ببطر. لم يستمر هذا الترف كثيرا حيث عادت غربان البعث، وأشجارها السوداء تعشش على بقايا الوفاء..
وكلما تنتهي دورة « إسفلت « على شوارع العراق... لابد أن تبدأ «دورة» تبييض الأرواح من بياضها..
لذا كانت «طريق الشعب» عنقاء من ورق.. كنت أتصفح المنشور السري جدا وأدسّ عملة ورقية في ثناياه بخوف شديد وحب معا.

نيجاتيف

لا ظل بلا ضوء، ولا نهار بلا شمس.
يبدو أن الطريق للشعب لا بد أن يدون بسيرة الباذلين، وهكذا عُدت إلى «طريق الشعب» ليس كابن ضال، ولا طفل بريء..
لكني لم أزل أحمل يدي المعروقة وهي تقبض على «الدرهم» العراقي المسكوك من معدن القول.
الآن أريد الكتابة في «طريق الشعب»
مفارقات لا تنتهي..
ولكن الطريق ليس واحدا، والشعب ارتدى أقنعة الوقاية من سموم الحقيقة.. سينهض لرؤية الحلم الأحمر جديدا.
طريق الشعب «وطن حر وشعب سعيد»
أيّة حياة يبعثها الفينيق الشيوعي؟
هنا ليس لي غير «درهم العراق».. ووجهه الأملس بلا ملامح.. لولا ملامحنا، وبلا قيمة.. لولا قيمتنا.. وبلا سوق لولا بضاعتنا.
...
اليوم أعود إلى «الضوء» حاملا قناديل العراق، أعود إلى الطريق مُحملّا برغبة عارمة في كسر فناجين الحظ وأبراج العرافين.
جئت إلى «الطريق» لكي أفتح كوة من بنفسج القول لرائحة الأمل..
لكي نكون أولا.. جديرين بوطن خالٍ من مما يلوث الروح الوطنية الاصيلة ولي فيها مآرب أخرى.