ادب وفن

أيهما الوطن.. أيهما المنفى؟ / علي أبو عراق

صدر عن دار تموز بدمشق كتاب جديد بعنوان "أيهما الوطن.. أيهما المنفى"؟، من منشورات مكتبة تنوير في البصرة، وهو كتاب حاور فيه الشاعر معتز رشدي الشاعر العراقي الكبير المقيم في لندن حاليا عبد الكريم كاصد، إذ خاض معه عبر كتاب تجاوز 300 صفحة حوارات هامة جدا تتعلق بمنجزه الإبداعي الذي امتد لنحو نصف قرن.
أنتج خلالها ما يقرب من أربعين كتابا في الشعر والترجمة عن الانكليزية والفرنسية والنقد والمسرح والسيرة والحوارات المختلفة، ويتميز هذا الكتاب الجديد في حمله لأكثر أسئلة الثقافة العراقية حيوية ورسوخا وإشكالية أيضا، كعلاقة المثقف العراقي بالثقافة العالمية والحداثة والتجديد والتجريب وعلاقته بالوعي والايدولوجيا واستحقاقات المنافي سلبا وإيجابا وتجربة المنفى ومهام المثقفين الشيوعيين وثورة تموز والديمقراطية وثقافة الاعتذار وغيرها، كما تضمنت الحوارات ردودا بالغة الأهمية على كتاب محمد غازي الأخرس "خريف المثقف"، وردودا أخرى على الشاعر سامي مهدي وكتابه "آرتر رامبو الحقيقة والأسطورة".
وفي مطلع الحوار يسأله المحاور معتز رشدي عن القصيدة والشعر فيقول:"في حديث لي معك، قلت عبارة أجدها خطيرة، وهي: يقول الشاعر في القصيدة ما يريد قوله، أما الشعر فربما يريد قول شيء آخر!، هلا تتفضل بإيضاح العبارة؟
فيجيب كاصد " نعم، قد تقول القصيدة ما لا يريد أن يقوله الشاعر، لأن القصيدة الجيدة لا تخلو من مصادفات سعيدة ومسارات لا يتوقعها الشاعر، بل ومنعطفات حادة، ولو كانت القصيدة إفضاءً فقط لما أراد أن يقوله الشاعر، لما حملت دهشتها معها للشاعر والقارئ معاً. من أين تجيء مُفاجأة الشعر إن كانت القصيدة بسطاً لما هو مطويّ في وعي الشاعر؟
في كل قصيدة جيدة ثمة إشراقات وانبعاثات من ماضٍ سحيقٍ لا يمتدّ في تجربة الشاعر وحده، بل في ما هو أبعد منها: تجربة المجموع. ومن هنا يبدو الشعر العظيم دوماً ذا آفاقٍ تتجاوز الذات المحدودة بهواجسها، وانشغالاتها.
إن وعي الشاعر نفسه في القصيدة مسكون بلاوعيه الذي ينبثق، مثلما تنبثق الأحلام والكوابيس، وكلّ ما هو غائر عميق في ذاته الرحبة التي تتجاوز خصوصيتها".
وعن سامي مهدي وكتاب "أرتور رامبو.. الحقيقة والأسطورة": يقول "وإذا ما رجعنا إلى ملاحظات ستاركي فإن ما ذكرناه ليس غريباً عليها، فقد سبق في كتابها هذا أن أشاعت أن رامبو تاجرَ بالعبيد في أفريقيا، ثم اعتذرت عن ذلك في طبعة لاحقة من كتابها بعد أن كشفت الوقائع افتراء مثل هذه الدعوى. وما نستغرب له هو إصرار سامي مهدي على الاستشهاد بزعم ستاركي رغم تبرئها منه، ورغم اطلاعه على ترجمة الشاعر كاظم جهاد وتعليقاته الواضحة: "تجمع التواريخ والوثائق والشهادات على أن تجارة الرقّ كانت يومذاك حكراً على عشيرة آل أبي بكر الحبشية المسلمة، التي كان أفرادها يعاقبون كلّ أوربيّ يدنو من تجارتهم هذه، وذلك بإخصائه أوّلاً، وبقتله إذا ما عاود الكرّة بعد ذلك، "رامبو، الآثار الكاملة ص115".
وعن رامبو والكومونة يقول الشاعر عبد الكريم كاصد " قد تكون هناك اختلافات حول التواريخ وبعض التفصيلات ولكن ما تؤكده أغلب هذه السير والدراسات هي أن رامبو كان موجودا في باريس أيام الكومونة، وقد جاءت في رسالته المؤرخة في منتصف مايو، إلى بول دوميني، إشارة إلى أنه سيكون في باريس خلال ثمانية أيام. أي أن هناك اختلافاً في التواريخ، ولكن هذا لا ينفي وجوده هناك أيام الكومونة. وحتى لو لم يكن هناك فهذا لا يغير أبداً من فهمنا لموقف رامبو". الواضح من الكومونة، وتأثيرها العميق في حياته وشعره، ولكن من الصعب فهم قصائده التي يسميها غراهام روب بـ"الكولاج"، لأنها وليدة مشاهدات حسية واضحة. لقد ظلت الكومونة هاجسه طوال حياته، مثلما ظلت هاجس بول فرلين الذي كان من بين مشاريعه أن يكتب كتاباً عن الكومونة يكرس له سنتين لانجازه في مكان معزول في كاليدونيا الجديدة حيث يقيم هناك بعض أصدقائه من المنفيّين".
وعن تجربة المنفى: يقول ". إنّ تجربة المنفيّ أصلاً هي تجربة فرد، قبل أن تكون تجربة جماعةٍ، حتى وإن كانت هجرة المنفيّ ذات طابع جماعيّ. قد تكون ذلك في البدء ولكنها تتخذ دوماً، فيما بعد، منحىً فردياً خالصاً يبدو الخروج منه والعودة ثانية إلى المجموع ليس عملية سهلة، حتى وإن تجاوزها المنفيّ على مستوى آخر هو المستوى الإبداعي، غير أنّ هذا التجاوز لن يحدث إلاّ في أحوالٍ نادرة يصبح فيها "فردان" أفقاً تتردّد فيه أصوات الخارج، دون أن يغادر عزلته، وقد يستعيد فيها ذاكرته، فينبعث ما انطمس منها دون أن يتعرف على آثارها".
ويوضح " من جهة أخرى ثمة اندماج مع الجماعة، في هامش هذه التجربة، اندماج زائف لا يحقق صيغة للفرد أبداً على المستويين الفردي والجماعي معاً.. اندماج زائل لا ينتهي إلى أيّ طرفٍ في ثنائية الوطن والمنفى. ذلك هو الاندماج السياسيّ غير المعنيّ بأية صيغة. تحركه غريزة واحدة هي غريزة التملك المفقود التي تتحول إلى غريزة النهب الشائعة الآن في العراق في أوساط الأطراف السياسية المختلفة".
ويضيف الشاعر "من ربحوا المنفى وخسروا أنفسهم.. أثمة من ربح المنفى؟ ربما، ولكن ما يبعث على الغرابة هو أن من ربحوه لم يخسروا الوطن وحده، وإنما خسروا أنفسهم أيضاً.. الوطن الذي نعرفه نحن، لا الوطن الذي يعرفه هؤلاء. لقد كان ربحهم في خسارة الوطن.. هذه الخسارة التي لن يدركوا فداحتها أبداً، لأنهم الرابحون المسرورون دوماً بمقاولاتهم وعقودهم، وأسفارهم الدائمة، ومشاركتهم في الخراب الذي سيقود وطننا بأجمعه، لا مواطنيه وحدهم، إلى المنفى إن لم نقل إلى الهاوية. هؤلاء لم يكونوا في سلطة حين كتبتُ الشذرة، وحين أصبحوا في السلطة كانت أرباحهم تتضاعف ولكنها أرباح الخسارة .. أرباح الناس الناجين لسفينة غرقى.. أرباح الأميين الذين لم تعد عقودهم في هذا العالم المتسارع تتقدم خطوة واحدة في مسيرة العصر. إنهم نكبة الوطن، وعار المنفى".
وعن تموز: يقول كاصد" هل هناك أشدّ التباساً من ثورة تموز منذ صراعاتها الأولى بين عسكرييها من جهةٍ وأحزابها من جهةٍ أخرى، بين امتدادها الشعبي الهائل وانحسارها، بين زعيمها الزاهد والدكتاتور في آن واحد، بين منجزاتها وإخفاقاتها الكثيرة. لاشكّ أن من الصعب تجاوز انجازاتها الكبيرة، ولكن من الصعب أيضا البقاء في حدود هذه الإنجازات الكبيرة، من دون النظر إلى التناقضات التي حملتها معها وتعمقت فيما بعد".
وكمناضل في صفوف الحزب الشيوعي في الوطن والمنفى يتحدث عن مهمة المثقفين الشيوعيين بكل صدق ودراية فيقول: "كانت مهمة المثقفين الشيوعيين، خاصة، في غاية الصعوبة إزاء ظرفٍ شديد التعقيد، وتهديد مباشر، وسياسية تبدو واقعية في ظاهرها، ولكنها أبعد ما تكون عن الواقع، رغم أنهم كانوا جزءاً منها، ولو اتخذ الحزب موقفا آخر من السلطة الفاشية آنذاك لوفرّ الكثير على رفاقه وأصدقائه، من عذابات قادمة، وهجرة شبيهة بهجرات التاريخ، ومنافٍ لم يألفوها من قبل، وعداءٍ متأخرٍ لرفاق قدامى، ولكان ثمة فسحة للناس للتكيف مع المرحلة، بشكل أفضل في مواجهتها، أو التخلص من ظرفها الصعب بالبقاء أو الهجرة، أو في إيجاد الحيل والمناورات الخاصة التي اعتاد إنساننا العراقيّ على التفنن بها إزاء همجية الأنظمة المتعاقبة، وإنْ كان حزب البعث أكثر هذه الأنظمة شراسة أو على الأقل لتردّد الناس في الانتماء إلى الحزب الشيوعي، ولأصبحت قراراتهم أكثر وعياً وواقعية، ولامتنع الحزب عن قبول أعضائه بتلك السهولة التي أضرّتْ بالحزب كثيراً، وساعدتْ على اختراقه أمنياً، وهذا ما حصل حتى في المنفى، وقد شاءت الصدفة أن تجمعني بأكثر من جاسوس في تنظيم واحد".
وعن الحالة الراهنة يقول:"الحالة الراهنة، كلّ شيء شكل، ولكنه شكل يقرب من اللاشكل، فالقصيدة التي خرجت على الشكل القديم عادت لا شكل لها في مهرجانات ضاجة، هي مآتم للشعر، والسياسة التي خرجت على أشكال التنظيم السابقة هي بلا شكل أو هوية، لأنّ الطائفية ليست هوية، والمجتمع الذي يرتدي الحجاب وينزعه ليتطابق مع هذه المرحلة، أو تلك، لا شكل له، وفرسان الفكر الليبرالي الذين يدّعون الحداثة ويتوسطون رجال العشائر، لا وجوه لهم؟ من نحن؟ وإلى أين نسير؟ نتبجّح بمضاميننا ونحن مجرد شكل.. نتبجح بأشكالنا ونحن بلا هوية؟ أما الديمقراطية فهي الأكذوبة الكبرى؟ كيف يمكن إقامة ديمقراطية بالمؤسسات القديمة ذاتها، وعبر أحزاب حاكمة جديدة أشدّ تخلفاً من سابقاتها؟ في بيئة مجتمع يشهد تفاوتاً كبيراً في الحقوق، اجتماعيةً واقتصاديةً".
ويوضح "إنها ديمقراطية شكلية قاصرة على الانتخابات، وهي لا تتعدى هذا الحقّ الشكلي الذي يمكن أن يرسخ بشكلانيته هذه المضامين السابقة المتوارثة من الأنظمة السابقة، عبر التيارات الصاعدة في الانتخابات، والتي لا تختلف عمّا سبقها من تأدية ادوار لا معنىً لها" متسائلا " أية ديمقراطية هذه التي لا تحتمل فيها طائفةٌ طائفةً أخرى؟ وحتى لو تحملت الطوائف بعضها بعضاً فإن أيّ حماس مبالغ فيه لأية طائفةٍ، في تأدية طقوسها هو إثارة للطائفة الأخرى".
وعن الأخرس في كتابه "خريف المثقف" يرى الشاعر عبد الكريم كاصد: "تقرأ الكتاب وكأنّ ثمة مؤلفين عديدين ينقضّ بعضهم على بعض، فمن الإعلان عن موت الثقافة العراقية، إلى الإعلان مباشرة بعد صفحتين أو ثلاث عمّا هو نقيض التصريح السابق، عند حديثه عن انقسام الثقافة العراقية إلى ثقافتين:" واحدة في المنفى، وأخرى داخل العراق، الأولى يسارية متفتحة وذات أفق، بينما الأخرى قومية متحجرة وذات اتجاه واحد ووحيد." من نصدق إذن؟ أما الصفحات الخاصة بجيلي الثمانينيّات والتسعينيّات وما يرافقها من فوضى في الأحكام والاستنتاجات فهي وحدها تستدعي صفحات وصفحات لتبيان اعوجاجها وتهافتها"
وعن ثقافة الاعتذار يقول كاصد مستدركا "كيف تفسر عدم اعتذار مثقفي البعث لأبناء شعبهم! - ليس الاعتذار مألوفاً في ثقافتنا ويكاد يكون مفقوداً، وإن وجد فمبعثه ليس الذات بعذابها وأرقها ومحاكمتها، بل بما هو خارجها من خوف وتوجس، وهؤلاء الذين عاشوا هذه الثقافة عاشوا أيضاً ما هو أسوأ منها بكثير: ثقافة البعث القائمة على العنف، فكيف تطلب من هؤلاء اعتذاراً لم يعرفوه؟".
ويضيف: "من جهة أخرى فإن الاعتذار يستدعي مفهوماً آخر هو التسامح، غير أن من الصعب الركون إلى هذين المفهومين بمعزل عن اشتراطاتهما الأخرى، في مجتمع تشوّه خلال فترة طويلة، في ظلّ نظام همجيّ هو من أعنف الأنظمة في التاريخ.. أي أنّ من الصعب النظر إليهما باعتبارهما مفهومين أخلاقيين حسب، ما لم يرافقهما تشريع أيضاً، يضمن تطبيق هذين المفهومين بشكل حضاريّ وليس ثأرياً، فالبعثيون ليس كلهم متساوين في المسؤولية، خاصة وإن بعضهم أرغم على الانتساب إلى الحزب".
ويستطرد "يضاف إلى ذلك ما حدث من اختلاط في القيم وتداخل في المفاهيم. من هم الأولى بالاعتذار نجدهم الآن في البرلمان والمؤسسات الحكومية وفي الجوامع، وربما في منظمات المجتمع المدني. يروي لي صديق فنان تشكيليّ يعيش في لندن أنّ أخته أخبرته، عبر الهاتف، أنّ أحد الجلادين البعثيين عاد إلى محلته، بعد اختفاء طويل بلحية ومسبحة غير نادم، يتوعد الآخرين بالثأر.. أي أن الأمر بات معكوساً تماما؟".