ادب وفن

حكايات أربيليا البليغة / جاسم عاصي

ممكنات عامة

تميّز القاص عبد الستار إبراهيم منذ قصصه الأولى بكتابة نص قصصي له خصائصه الذاتية. وأعني هنا الخصائص الموضوعية والفنية. فلا يغلّب جانب على آخر، بحيث يخلق تغريبا ً واضحا ً بين ثنائية متلازمة، يستجيب كل منهما للآخر، أو يخضعان سوية للسببية أو جدلية توحدهما. لذا فأن ما يميّز نصه في مجموعة "أربيليا" هو بناء الشخصية. فقد أخضعها لرؤى دقيقة، تأخذ بالحسبان تشكيلها والمؤثرات التي خلقت مزاجها النفسي وتأثيرها في ما حولها. والاهتمام بالفعل ورد الفعل ضمن العلاقات الإنسانية. كذلك اللغة التي تتناسب مع وعي الشخصية، ثم الإطار الذي تتحرك فيه، أي التركيبة الفنية، التي تُسهم في تحريك وجود النماذج، وهي في معظمها أمكنة استثنائية، ذات بُعد تاريخي وتراثي، تُحيي وجهات النظر، وتساهم في تصعيد الأفكار حول هذا أو ذاك.
ولعل التفاصيل في سرد الموضوع القصصي أهم ما يشكّل نصه. فهو سرد متوال، يلاحق فعلا ً أو فكرة منتظرة، يستعين بما حوله ، وبالوسائل الممكنة للتنفيذ. فهي في خلاصتها نوع من الأحلام التي تفرضها اليقظة في تصورات فائضة، تجنح إلى خوض التجربة في أشد خطرها. وهنا يلعب الخيال دورا ً واضحا ً في صياغة مستلزمات نمو الشخصية وتطور الأحداث. لكنه خيال يتوسل بالممكنات وليس اليوتيبيا المفرطة بالخيال. فالمكان على سبيل المثال، نجده مجسّدا ً بكل أبعاده، سواء كان قلعة أم كهفا ً أم مكانا ً آثاريا ً أم مكانا ً غامضا ً يتطلب فك لغزه. المهم في كل هذا عنايته بالفعل ورد الفعل. لاسيّما أن نموذجه على امتداد النصوص يخوض تجربة غامضة، محفوفة بالهلاك والموت. لكنه يدفع به نحو كشف المسكوت عنه . إن نموذجه منبهر من المكان. إذ يبدو له أنه يدخل إليه لأول مرة، أو هو حديث السكن في حاراته. لذا نجده مندهشا ً من مشاهدة ما يراه، مندفعا ً لزيادة معرفته بأسرار الأمكنة وكشف ما هو داخلي فيها. البحث في تاريخها وتاريخ رموزها ودورهم في الماضي. تقصّي جمالية الأمكنة وسحرها الأخّاذ. إن الأمكنة بالنسبة لنموذج "إبراهيم" في نصوصه جاذبة وليست طاردة. إذاً فكشف المستور فيها يشكّل لذة ذاتية، ويُسكت أسئلة ملّحة تواجه نموذجه وهو يطالع الأمكنة يوميا ً ،ويلاحق الأجوبة التي تخلقها أسئلة الملاحظة. وهي هنا نوع من التشكيلة النفسية التي عليها الشخصية. ويأتي الاهتمام بها من باب دراسة الشخصية، ومعرفة سر وجودها وهي على هذه الحالة أو تلك. من هذا نلمس تلقائية الدرس القصصي في المجموعة في كونه يساير البنية التوفيقية التي تجمع بين البناء الكلاسيكي للنص، والحداثوي له، في تركيبة متوازنة لا شائبة فيها. وهذا ــ كما نعتقد ــ منبثق من حرص القاص على البنية النفسية للنموذج كما ذكرنا. من هذا وظف كل ممكنات النص من أجل تحقيق مثل هذا التوازن.

ممكنات خاصة

في نص "الظهور الذهبي لذي القرنين" لم يأخذه سحر التاريخ وسحر الشخصية، وتركيبتها الخيالية كالقرنين مثلا ً. لكنه نموذج انساق خلف البحث عن سحر الرمز الذي هو تمثال صغير يجسّد رأس الاسكندر فحسب. أما التاريخ القريب فللسرد الذي يخضع إلى الذاكرة المعرفية يشتغل بشكل طرح شذرات منه. هذا من جهة ومن جهة أخرى، كان الاهتمام بما ينتاب الشخصية من ردود أفعال لأفعال تصدر من الآخرين، ويتوقع تأثيرها المباشر فيه. لذا فدفاعاته لا تتعدى الدهشة والانبهار والـتأني لمعرفة النتائج. يمتزج في هذا مناخ يقترب من تاريخ التراث كمشاهدة القلعة يوميا، وتأثير "الباشندر" عليه في اقتناء النادر من التُحف. هذه المؤثرات خلقت لديه تصورات حاول أن يبني عليها ممكناته في التنفيذ بعد ملاحقة ما يُستجد في تجربته المحفوفة بالمخاطر. إن النص مبني موضوعيا ً على الدهشة، وحرارة التجربة ورسوخ صور الرموز في التاريخ. فدوافع الشخصية هي في جملتها دوافع تخضع مرة للاستجابة لطلبات "الباشندر" ومرة لرغبته الذاتية في الكشف. ذلك لأن ديدن البحث عن النادر أصبح ضمن سلوكه وفضوله اليومي. في النص عمل القاص على كسر تسلسل الزمن، للاستعانة بمتغيرات المشاهد والأمكنة. أي أن الزمن كان متواريا ً وراء الفعل. وتلك خاصية فنية عمل على تجسيدها على طول النص، بحيث جعل الزمن هلاميا ً يدخله النموذج دون طرق الأبواب.
ويتجسّد البناء النفسي كثيرا ً في نص "حمامة سيتاقان" وذلك بإضفاء ألوان من التصوّرات والشكوك والضغوط النفسية التي تتعرض إليها الفتاة. وهي في جملتها مجموعة الأفعال تؤشر إليها الإيماءات من قبل الشاب الذي يلاحق الفتاة، وردود أفعال الفتاة وهي تتزاحم عليها الملاحقة برصدها. هذا المجال الحيوي هو الذي دفع القاص لملاحقته بنيويا ً، مما خلق منه عالماً تحتشد فيه المتناقضات الحسية لدى الفتاة. وتضيق تصوراتها على بعض ما يبديه الشاب، وتكبت رغبتها بمثل هذا الشعور الذي تتعطش إليه، باعتباره يُعطي قيمة جمالية إليها، لكنها مأخوذة بالعرف الأسري والاجتماعي. هذه المكوّنات في الحدث، هي التي خلقت مثل هذا المناخ القصصي، الذي طوره القاص من خلال ما توفر عليه من إمكانيات النهوض بالحدث البسيط إلى مصاف الحدث الكبير.
ويحاول أنسنة عالم الحيوّان في قصة "كرنفال لطائر المنارة" وهي حكاية طائر اللقلق الذي يعود إلى عشه في أعلى المنارة ضمن موسم الهجرة. وبين اللقلق هذا والفتى تكمن علاقة طويلة من عمر الفتى وهو يعي مشهده سنويا ً. حيث تجري الأحداث من لحظة حضور الطائر، وردود أفعال الفتى لمثل هذا الحدث. لكن براعة القاص، دفعت النص للامتداد إلى ما هو خارج وجود الطائر وداخله في آن واحد. فالطائر في الُعليّات "المنارة" وهي أمكنة تتواصل مع السماء وبالتالي مع الرب. وهو معتقد تأسس من بعد أن كانت قمم الجبال والزقورات هي المنائر "المآذن" وهي أمكنة للعبادة وأداء الطقوس. لذا فاختيار المكان ومحايثته لوعي الفتى فيه شيء من خلق الوعي وتأسيس المعتقد. هذا في جانب خفايا النص التي توحي بها تحركات الفتى ولهفته للعُلّيات. صحيح أنه يلاحق وجود الطائر، لكنه لا ينفصل عن ظاهره، ففيه محايثة موضوعية تُشير إليها اللهفة في استقبال الصاعد هناك. وهي حفريات نفسية جينية واضحة. غير أن النص تمتع بخصائص موضوعية، لاسيّما في تلوين سير الأزمنة، وقوة الملاحقة وما تُحدثه مع ما هو حول الفتى.
ولعل التعلق بالمكان في قصة "الحلم الأخير في قلعة أربل إيلو" أي التعلق ببيت الرب المتمثل بالاسم القديم. والقلعة تمتعت بأسماء عديدة، وهي في مجملها مشتقة من أسماء الآلهة. والنص يمنحنا فرصة التطلع في حياة المرأة العجوز "الجدّة" وهي في حالة مغادرة القلعة مع كل من يغادرها بسبب الترميم. والقصة مبنية أساسا ً على فكرة وتصوّر الجدّة المركزة على عدم مغادرتها القلعة إلا محمولة على محفة. لكنها لم تُظهر مثل هذا الشعور والإحساس. فقط نوه عنه السرد والوصف لمكوّنات الجدّة الحسّية. والقصة تراوح بين هذا التطور في الحدث أو ذاك من أجل أن تضعنا أمام حقيقة لا مفّر منها، وهي مغادرة الجدّة، ولكن محمولة على تابوت. لذا كانت النهاية محققة لحلم الجدّة في عدم مغادرة القلعة، أي التمسك بالمكان. وهي صفة إنسانية عالجتها القصة العراقية كثيرا ً، ولكن بأوجه مختلفة.
وتعالج قصة "امرأة في قصاصات ورق" حالات متغيرة في حياة امرأة عانس، ومعاناتها اليومية عبر قصاصات ورق متولية تكشف حالات المرأة، كما وأن النص يُحدث مماثلة وتطابقاً بين حياة المرأة والطائر في عشه، متوحدا ً. والقصة تندرج بقوة إلى البناء النفسي للشخصية، وهي في حالة صعبة ومفجعة بالنسبة للكائن الأنثوي "وقد دهشت عندما انتبهت إلى أنها كانت تعمل دون شريك، تحوك نسيج عشها" وكأنها تؤكد حقيقة مفروضة عليها، وهي العيش مع وحدتها ، لكنها تؤثث حياتها.
ولعل المفارقة التي تكشف تردي ما ينسجه البعض لعالم نقي معتمدين على خلق عالم يوتيبي، يخلو من أي تأثير خارجي. أي العيش بمعزل عن حراك الإنسانية. والقاص اختار المفارقة بالاسم في قصة "لعنة جيفارا" مما اضطر النموذج للرضوخ إلى حكم المؤسسين لعالمهم اليوتيبي، مرميا ً خارج عالمهم. وهي قصة ذات مغزى سياسي واضح، لكن الكاتب لم يبح به مباشرة، بل استثمر دلالات خلق عالم خاص يستطيع من خلاله عكس فكرته، كما فعل في القصص الأخرى.
ويستثمر أحداث التاريخ في قصة "أحلام الباشندر الملوّنة" ليعكس فكرة الوطن المضيّع كفلسطين، وغرناطة، بصياغات نثرية جميلة. لقد ارتقى بالسرد باتجاه إشاراته المتمكنة من وضع بصمات واضحة على بنية التاريخ، مستثمرا ً وصول رفات القائد "صلاح الدين الأيوبي" إلى مطار أربيل، مكثفا ً تصوّرات نموذجه إلى مشهد كهذا، بشكل وبنية أكدت مثل فرادة هذا الحلم المتحقق. غير أن تذكره العبارة التي قالتها أم عبد الله الصغير، أثار في نفسه الخيبة، وهي القائلة "ابك يا ولدي، مُلكا ً مضاعا ً لم تحافظ عليه مثل الرجال".
ويعود في قصة "الدليل السياحي القادم من كاريز" إلى عوالم الانغمار في لجة الماضي، وعالم التنقيبات الأثرية، وضمن طقسية مكثفة، تخللها طقس الشعر، وترديد قصيدة مطولة من قبل الدليل السياحي الذي رافق النموذج في النص. لقد منح القاص للنص الأثري سلطة مؤثرة ومفجعة، بما يوازي نمط القول والإيحاء الأسطوري السحري "خطف خاطر سريع خلال ذهني المضطرب: يا الهي هل ثمة لغز في الأمر؟، وهل ثمة تعويذة لعنة ضد من يجرؤ على الاقتراب من جدار اللوح ؟ وما لبث أن تطور الأمر لما هو أسوأ.. إذ جعل يزعق الآن بغضب وبأعصاب منفلتة: لنخرج من هذا المكان اللعين.. لنخرج بسرعة.. بسر".
إن إضفاء مثل هذه السحرية للمكان، القصد منها منحه هالة من التبجيل والحرمة والقدسية، بما يوازي سحر لعنة الأسطورة المتمثلة في ظَلال رموزها المحكية في التاريخ الأثري. بمعنى وضع الكاتب لنصه عوالم متخيلة، هي جزء من المخيّال السردي. إن القاص مسكون بالعوالم السحرية. فهو ما انفك يعالج مفرداتها بصوّر مختلفة، كما في قصص مثل "انتقام متأخر، رقصة الكوبرا" هذه العوالم تجذبه وتثير عالم خياله، بما يُساعده على تشكيل عوالم مثيرة وذات نكهة خاصة. إن إحالة الواقع إلى خيال ثم إعادته كدرس إلى الواقع ، ليس بالأمر السهل، بل يتطلب الأمر الإمساك بكل مفردات تشكيل هذا العالم، وعدم التفريط بالبنية الفنية على حساب تحقيق البنية الموضوعية. إن ما نقصده هنا هو التحكم بمفتاح المخيلة لحساب بناء النص على أسس مقنعة ، حتى لو كانت بنيته خيالية. إذ أن هنالك أسسا تتحكم في كل آليات الكتابة بهذا المضمار من الاستثمار.
إن عالم القاص "عبد الستار إبراهيم" متنوع، وتؤكد نصوصه على ثيمات أساسية في الحياة، ومعالجتها بأساليب تقترب من القارئ. كما لاحظنا في معالجته لعالم الفنان المغترب، الذي ركّز على شيئين في النص هما "لحافه وقدره التيفال" وكأنه يؤكد على وقايته وديمومته في الحياة. غير أن هذا أسفر في قصة "لحاف جارد.. وقِدر مسوّد!" عن خيبة إزاء ما كان يدعيه صديقه الفنان.