ادب وفن

كاريزما كائنات القطراني / حيدر الاسدي

"متحف منتصف الليل" للقاص باسم القطراني، رواية قصيرة تقع ب (99 صفحة) ولكنها كبيرة المحتوى والمعنى، فأول وهلة قراءة العنوان حتما جرني إلى رواية تتخذ سمة التجريب إطارا لاشتغالها السردي.
ولكن عند قراءة أول صفحتين ستقع بفخ "الاستهلال/ بؤرة انطلاق الراوي" إذ يتضح لأي قارئ ومن اللغة البسيطة "السهل الممتنع" وبتحديد الزمان والمكان يتضح لك كقارئ بأنك ستخوض في غمار رواية "واقعية" على غرار الروايات الواقعية التي تبدأ وتنتهي بايقاع واقعي بكافة تمفصلاته، ولكن ما ان تسرقك الرواية في عالمها ستجد انها مغايرة تماما وأسلوب السرد مختلف تماما ولا أبالغ إذا قلت انه أخاذ جاذب لقارئ الأسطر الأولى فعندما حدد باسم القطراني الزمان والمكان "ليلة 28/3/2005 في قرية مجنون" اتضح لي ان الرواية تستند بكافة صيرورتها الى المنهج "الواقعي" مع استخدام لغة السهل الممتنع الا ان استمرار التعايش مع كائنات القطراني فسر لي منحى آخر من الفهم. فدلالة الجمل كانت بالغة القصدية حتى اختيار المسميات في الرواية جاء بقصدية عالية "صابر فياض/ مدرسة الاجيال/ قرية مجنون/ رابحة زوجة صابر" يقول القطراني في روايته "اكتفى بالنظر من خلال فتحة القفل فرأى أمرا عجيبا يحدث، كائنات بحجم قبضة اليد تتسلسل من بين طيات الكتب المرصوفة في المكتبة" فكائنات الورق هي ليست لعباً، هي احياء نابضة، على الكاتب عدم قتلها وتسييرها بصورة لا منطقية...؟، أراد القطراني خلال روايته ان يؤكد على رؤية واحدة للقدر والنهايات، وان الفرد هو من يختار قدره بذاته، وان اختلف أسلوب حياته حيث نظر الراوي إلى شخصياته وفق "الرؤية مع" حسب "جان بويون". يقول القطراني بذات الرواية "كيف نسي مخطوطة روايته التي أنجزها عام 2003 وقد ركنها في احد الرفوف ولم يجرؤ على دفعها للطبع، كان دائما يعتقد ان العمل الروائي مغامرة كبيرة ربما خلفت مخلوقا مشوها عاد الى المكتبة مرة اخرى بحثا عنها وبعد جهد وجدها، وبخيبة تصفحها فكانت هي الأخرى نهبا لقسوة التمرد في الليلة الماضية، فراغات قاتلة خلفها هروب شخصياتها الرئيسية الثلاث، فرهاد محمد خان، حردان زاجي، وسميرة هارون" تصور؟ ماذا يحصل أن هرب أبطال روايتك؟ وعادوا يطرقون الباب عليك هاتفين "نحن أبطال روايتك الهاربون" كائنات بحجم قبضة اليد! ماذا يعني ان يطالبك! ابطال مخطوطتك الروائية بتغيير مصائرهم؟ أليست ثمة آفاقاً لأسئلة وجودية يطرحها "مؤلف الرواية" اذ جاء في الرواية مقطع مهم جدا "انتم تكتبون قصصا وروايات كما تشاؤون غير آبهين بمشاعر كائناتكم ونفاياتكم الورقية".
ان هذا المقطع تتم قراءته عبر بنى عميقة وسطحية، فهو يرمز لدلالات تأخذنا الى المعنى أولها السطحية، ان ثمة شفرة موجهة للمؤلفين الساردين.. ان الكائن الروائي يجب ان يعامل وفق التعامل البشري لان "المشاعر سيان في الرواية والحياة" والبنى العميقة لهذا المقطع ابعد بكثير عن هذا المعنى حيث يجرنا الروائي في أسئلة وجودية واعتراضية، لأولئك الذين يتحكمون بمصائر أناس ويحركونهم كبيادق غير أبهين لمشاعرهم وتطلعاتهم الذاتية مثل ما فعل "الأمير في رواية القطراني!" بصراحة الرواية حوت على أسلوب مميز في السرد، ويمكن ان ندعوه "برواية داخل رواية" على غرار مسرح داخل مسرح، وبناء الرواية جاء بصورة جمالية على طريقة "المونتاج الدرامي، الفيلمي" "اللقطة" مما ساعد على شد القارئ بتعاضد هذا البناء مع طريقة السرد "رواية داخل رواية" أسلوب جميل ومعبر قرأته في رواية جاسم الرصيف "خط احمر" فرغم ان القطراني حافظ على رسم شخصيات روايته وفق البناء الكلاسيكي للرواية "البعد الجسماني / المنغولي وعد والرجل الاشرم"، "البعد النفسي/ الشخصية المركبة: سميرة وحردان" إلا أنها تمثل أسلوب ما بعد الحداثة في السرد كما أن أبطاله كانوا صانعي الحديث الروائي، من خلال بعض الشخصيات الثانوية التي صنعها الحدث مع هذا كانت ذات طابع تأثيري وكاريزما واضحة على متلقي الرواية خصوصا في شخصيتي "وعد والطبيب البيطري اسعد". فالقطراني يطرح الخطاب بصورة مغايرة بهذه الرواية وتعتبر الرواية نقلة مهمة في الرواية العراقية من حيث الأسلوب المتابع في السرد. وقصة الرواية تذكرني بالفيلم الأجنبي "ليلة في المتحف" الذي أخرجه الكندي شون ليفي وهو قصة رجل يعمل حارس بمتحف تاريخ الطبيعة في نيويورك وفي اول ليلة له يفاجأ بان كل الحيوانات في متحف الطبيعة تعود للحياة! فرواية القطراني فيها ما يميزها من حيث الأسلوب المتبع في ضخ الحيوية بشخصيات روايته، فما معنى ان يزور السارد العليم أبطاله؟ داخل الرواية؟ يطمئن عليهم؟ يحذرهم؟ ثمة اسئلة تطرحها الرواية للقارئ أسئلة مفتوحة لا يملك جوابا لها سوى القارئ نفسه!، وأعود وأسال هل كان المنغولي "وعد" نتاج العلاقة المشوهة لسميرة؟ اذن لماذا نتعاطف معه كقراء حينما نتتبع أثره في الرواية؟ وهل مصير وعد مقنع للقارئ العادي؟ شخصية المنغولي لم ولن تقنع القارئ العادي (نهايتها) ومن يقتنع بالنهاية التي رسمتها الرواية هو القارئ (المنتج) وحده. إذن الرواية تدعو لمشاركة المتلقي. في الرواية ثيمة واضحة تهيمن على المتلقي... وهي تطرح كذلك تساؤلاً "هل أراد الراوي أن يقول إن القدر واحد وان تعددت أساليب الحياة وطرقها؟".
يقول القطراني في رواية (متحف منتصف الليل) (سنوات مفعمة بالخيبة تجرعت فيها سميرة مرارات سحق جمالها الآسر وأنوثتها المميزة كانت هي الشاهدة الوحيدة على ذبول أوراق حياتها الواحدة تلو الأخرى على يد حردان غير الآبه سوى بالمزيد من الاستمتاعات خمرا ونساء)، فسميرة كانت شاهدة على ذبول اوراق حياتها (وحيدة) فهي شهدت احتراق جمالها ونتيجة إذعانها وذبول جمالها، كانت شاهدة على كل تفاصيل حياتها وصولا الى نهايتها! بصراحة شخصيات الرواية تجعلك كقارئ تتعالق وتتعاطف معها انها ذات كاريزما خاصة رسمها الراوي بعناية سردية فائقة، انها لعنة تطارد من يتفحص مصائرها، ومن يتعرف عليها .... كما ان أسلوب المفارقة اعتمد بصورة جمالية عالية ومنطقية تكسر افق توقع القارئ خصوصا في لقاء (حردان وفرهاد) وقصة إمساك عشيق سميرة (كمال) مع العصابة التي خطفت ابنها المنغولي. وفي مشهد قتل المنغولي ربما ترى المتلقي ينفصل عن الرواية .. نتيجة غير متوقعة وكسر جديد لأفق توقع القارئ .. فعل القتل لهذا البريء الذي تعاطفنا معه طيلة قراءتنا الرواية لم يأت عبثا واعتباطا ... (توقفت وتوقف معها كل شيء الشظية التي اخترقت الزجاجة الأمامية استقرت في رأس المنغولي فغفا على أثرها إغفاءته الأبدية تجمع العشرات حول السيارة فشاهدوا الام وهي تضع يدها تحت رأس الصبي وهو ينزف دما وراحت تضحك وهي ترقب شمعتها الخافتة تذوي)، مفارقة غريبة الطفل مات بحادث غريب ولم يمت بحادثة اختطافه؟ فما دامت سميرة قررت غلق صفحة الكآبة والقسوة فهي لم تعد تتحمل المزيد وبذلك قررت السفر لامها؛ وهذا يعني ان سميرة عقدت النية على انهاء صفحة آثامها، حتى انها كانت مستعدة لإفشاء سر عشيقها لزوجها! فكان لابد من ازالة (مشروع خيبتها / المنغولي) فجاء فعل القتل صادما للمتلقي! وفي نهاية الرواية تتضح جليا ثيمة الرواية من خلال المقطع التالي (لا أدري اهو ذنبي او ذنبكم صدقيني لم يكن لي ان افعل شيئا حيالكم انها الأقدار تفعل ما تشتهي دائما) فقادت الأقدار شخصيات الرواية الى مصير محتوم، اسمه (القدر) وان كانت طرق حياتهم الأولى التي اعترضوا عليها مغايرة لما رسم في التغيير. انها الأقدار التي لا تغير. الرواية ممتعة وفيها من المفارقات التي تجعل القارئ يعيش أدق تفاصيلها السردية.