ادب وفن

زمن الأسئلة.. المسرح بوصفه متحفاً / د. محمد أبو خضير

بداهة، للاتجاهات المسرحية حضورها الذائقي عبر جدلية التعبير عن قضايا الإنسان المعاصر وحراك الفكر الجمالي ومعمليته. فما دشنته درامات الأغارقة تخطته طروحات التذويت الرومانسي وما اعتدت به خطابات "مننكن" الإخراجية سوغته بيانات الحداثة المسرحية من عقود عتبات القرن العشرين أيقونات دالة على لحظة تاريخية احتكمت إلى مقولات فكرية وسوسيو- ثقافية.

وفي عقود الستينيات أشاعت خطابات المسرح السياسي ظهور حركات التحرر الوطني والأيديولوجيات القومية واليسارية، نمط تعبير يساير تحولات/ انقلابات الأحوال السياسية والفكرية، فكانت تجارب "بسكاتور/ بريخت/ فايس" نماذج لمسارح الأفكار المستجدة ومعالجاتها لقضايا الفئات المهمشة ومشاكلها الاقتصادية والاجتماعية ليكون لتك التجارب توصلات في مسارح العالم الثالث من وثباته في وجه الهيمنة الكولونيالية.
وأسهمت طروحات بعض المؤلفين والمخرجين العرب آنذاك في مسايريه وتناصات تلك الطروحات. ففي مشهدية المسرح العراقي السبعينية في ظروف ذات أهداف سياسية/ تعبوية وإنتاجها لخطابات موجهة نحو قضايا الوجود العربي. لتأتي تلك العروض مستعينة بتوليفات نصية متنوعة في مرجعياتها التجنيسية من "قصة/ مقالة/ لافتة/ مسرحية/ قصيدة/ سيرة/ وثيقة" وأتاح الفضاء السياسي تثميراً لبعض نصوص شعراء المقاومة الفلسطينية "سميح القاسم/ محممود درويش" وبعض شعراء اليسار العربي والعالمي.
ولم يشهد المسرح السياسي ذات الأداء في عقود الستينيات والسبعينيات في فضاء المسرحي العراقي لانشغال الكثرة من العروض في أداء ومعالجات ثيمات الحرب والثمانينيات والتسعينيات ليدخل هذا النمط في ريبرتورات المسرح العراقي والقائم على الاستعادة والتوثيق وأتت تجربة الممثل/ المخرج/ المعد "علي محمد إبراهيم" لتكون في تواصل لأحياء نمط مسرح التعبئة السياسية في مزاج وحاضنة ذوقية استقبالية مختلفة في تعاطيها ومسوغاتها وظروف مسرح سياسي له مواكبته وأحداث "الساعة" العراقية والعربية والعالمية.
فالتحديات التي شهدتها عقود التسعينيات وصولاً إلى حواف الربع الأول في الألفية الثالثة لم يتح لها تماساتها وقضايا أفكارها لتوسيع إعادة تكرير لمفهوم المسرح السياسي حتى باتت مجمل النظريات الجمالية والفنية في موضع تعليق ذوقي في أداءها وتأجيل لدورها الذوقي والانتاجي.
وشهدت تجربة الفنان "علي محمد إبراهيم" إصراراً "استعادياً" بتنصيصاته لمتون الكثرة من الشعراء المعاصرين والذي يتقدم عنده الشاعر العراقي "أحمد مطر" بنصوصه ولافتاته السبعة الشهيرة. المحتشدة بالهجاء السياسي ودبابيس النقد النافذ. وتجربة "علي محمد إبراهيم" رغم قطعها لمراحل تاريخية في مشهد المسرح "الحلي" على الأقل وبما يتجاوز الثلاثة عقود لم تكرس أبعاداً أسلوبية أو بنائية ومستويات التلقي. لتمكث أسيرة الفضاء والارتجال والمناسباتية والمهيمنات الشعرية والأداء التمثيلي وتفعيل اللفظة بأنساق الشفاهية توصلاً مع المتلقي لتشح منظومة اللغة المسرحية بكل عدتها البشرية والتقانية. فالعرض المسرحي عند الفنان علي محمد إبراهيم هو (سكيتش) مسرحي يتفاعل مع المتلقي بحدود زمنية لا تتجاوز الخمس عشرة دقيقة يعلو بها الملفوظ على البصري والصوت على التجسيد في وقت اشترطت بيانات المسرح السياسي تكاملية فنية من العناصر السينغرافية الشاملة، ويظل الفنان علي محمد إبراهيم في تنميطته تلك شغوفاً بالشفاهية واللحن والنبر الكلامي دون إنتاج لتشكيلات الصور ومديات التشفير مسترشداً بالصور اللفظية والمجازية والكنائية والبوحية.
ويفعل الفنان نصوصه الشعرية بالحركات والإشارات والتموضع داخل فضاء متقشف في عدته السينغرافية ليكون صوت الممثل/ بديلاً مختزلاً لمنظومة وشعرية خطاب العرض بعموميته.
وفي تجربته الأخيرة التي شهدها ملتقى الشهيد قاسم عبد الأمير عجام والمعنونة بـ زمن الأسئلة أعتمد الفنان علي محمد إبراهيم مع فريق عمله تناصات مباشرة ومتوقعة لنصوص رهط من الشعراء المعاصرين من أسس لفعالية ثبات "أفق توقع" المتلقي فأسلوبية الشاعر موفق محمد لها مدياتها في الاستجابة ومخاطبة الذات العراقية في محنتها بعد 2003. وكذلك شأن نصوص الشاعر مظفر النواب وهجاءه السياسي الراشح في ستينيات القرن العشرين وظروف الذات العربية آنذاك. وللشاعر (بدر شاكر السياب) أيقونات سياسية وصورية باتت موضع تداول أيقوني لدى الذات العراقية.
ولا يحفل علي محمد إبراهيم معداً/ مخرجاً/ ممثلاً وفق رهانه التعبوي واشتراطات التواصلية والتحريفية بنصوص ذات سمات ومحمولات تقع موضع التأويل أو التشفير أو القراءة الاختلافية. فهي في مجاورة وعتاد المتلقي الشفاهي/ السمعي والانفعالي. ومسوغ هذا خلق انحناءات خطاب العرض المسرحي وفتح تذليلات استقبالية مسهلة لفعل التلقي ذاته إزاء قضية أو فكرة بذاتها يراد في كل السبل التعبيرية إيصالها وذلك ما كشف آليات الأعداد المسرحي التي تشترط نصوصاً بميزات خاصة.
ولعل الميزة الأحدث في عرض (زمن الأسئلة) تأثيث فضاء العرض بعلامات وإشغاله بكتل ديكورية ودلالات فنية مثل جهاز (البيانو) والذي لم يأتي بنتاج سيميائي منتهياً إلى إشغال للفراغ وأتى الخطاب الموسيقي سيميائية تواصلية تتناوب وفعالية الكلمة الشعرية. فالأداء الصوتي للفنان سعد العواد ألفته استقبالات المتلقي ولم يتح لذاته مغادرة التواصل الوجداني والشجني والكثافة الطربية إلى تموضعات العرض المسرحي وماهيته في البناء والتعبير والتواصل واللعب.
ولـ "العواد" في تناصية نمطية وطبيعة الحوار الملفوظ والأداء التمثيلي. فالحوار يأخذ لديه جملة غنائية حيثما ترد في حوار الممثلين. فإيراد دلالة "طين" في حواريات/ نصوص الممثلين ترتحل لدى العواد إلى لحن سمعي يتزامن مع حركات وإشارات وعلامات يؤديها الممثلون أنفسهم برفع الأذرع وفتحها وعلامة/ فعل رفع التابوت أنموذجاً لذلك. وكذلك في دلالة "حرق في الشارع" التي تتوزع بين النص الأدائي والنص الشعري والنص الموسيقي ما مهر المشهد بنمطية وأيقونية حركية موحدة.
وتظل بنية القصائد لشتات مرجعياتها واختلاف أسلوبية ورؤية كل شاعر/ أو/ نص عن الآخر بدون رابط أو قرين درامي/ بنائي/ أو قصوي، فالمتلقي يفتقد علاقة بين ما يفترضه العرض في الشكل والنمط الاجتماعي والنفسي فليس ثمة روابط إتلافية أو تناقضية بين "الأصوات" الأربعة إلاّ في مواقف عشوائية فكل صوت هو في تهيكل شعري سابق على تشكلاته في منظومة خطاب العرض المسرحي.
ولكل/ صوت/ انفراديته داخل الأداء الجمعي فليس ثمة تواؤمات جامعة للأصوات في "بوليفونية" أدائية إذ يشط كل "صوت" ليكون "Solo" انفرادي بذاته.
وتنقسم الشخوص أو/ والأصوات إلى ثنائيات زوجية تنميطية مثل علاقة "المعلم/ الطالب" وعلاقة "الدكتور/ المريض" وهما مدلولات يمكن الدخول عليهما لكشف ملامح الشخوص/ الأصوات التي حجبتها الكثافة الشعرية والمجازية والغنائية ما دفع بالأداء التمثيلي إلى أدنى مستوياته مقارنة وبالأداء للنصوص الشعرية رغم شحوب وعطب منظومة الصوت لدى "الممثلين".
وتفاوت الأداء التمثيلي بعدة الصوت والجسد والارتكاس في لذائذ المنطوق الشعري. فالممثل علي محمد إبراهيم له تجاربه التمثيلية التي تصل إلى احتراف النمط المونودرامي إلاّ أنه عادة ما يعتصم ببعض الأيقونات اللفظية/ في مرسلات الجسد وتعابير الوجه. وفي عرض (زمن الأسئلة) تمكن من محو وعزل بعض أيقونياته وتنميطاته عبر الحركة والتشكيل الثنائي. أما الممثل "أحمد عباس" فإن انقطاعه القسري تبدى جلياً. فلم ينتج ما أدخره من خزانة تجاربه السابقة التي شرع بها في السبعينيات فكان له شحوبه الصوتي والجسدية وتوترات إشارية و"كلائش" وخاصة في حواره مع التاجر وأفعاله الدالة على النفاق والإتباع والأنموذج الأكثر إجهاراً في الاستعانة بالايقونات الأدائية ولم يرسل أداء الفنان "علي حمزة الباقري" أية جدة تمثيلية لتستقر رشاقته الجسدية في محدودية التواصل الطبيعي والعفوية الماقبل فنية.
أما الممثل "علي التويجري" فإنه في مسايرة وممثلي العرض بانشغاله بالأداء وتقنية الإلقاء الشعري والحركي مما يلحقه برهط ممثلي العرض باعتدادهم بالموجات الصوتية دون كشف لأعماق ذواتهم.
وتبنت "المسرحية" شكلها الدائري بدءاً بإعلان وثيقة رسمية تعلن عن مولد الناقد الشهيد قاسم عبد الأمير عجام ولتعلن ولادته بدخول الطفل في نهاية العرض وهي إشارة مستنفذة في الكثرة من النصوص والعروض المسرحية. ولتستقر النهاية في حدود الوعظية حيال اللغة والصور الشعرية المحلقة. وأنتجت المسرحية نمطاً متوقعاً في جميع كسر الأشياء المبعثرة من مزهريات وعلامات تخص الطفولة لتعود الحياة بعد استشهاد "قاسم" إلى ديمومة التواصل الحياتي الصاخب بالنتاج الثقافي والفكري ولم تحفل السينوغرافيا إلاّ بدلالة لفظية مدونة في فضاء ورقي "بوركرام" دون تفعيل في فضاء العرض الركحي، فليس ثمة أداء ما يؤشر حراكاً لأية كتلة في الفضاء حيث أشغل الفنان "نصر حنون" عمق المسرح بكتلة ثابتة تمثل علامة "الثور المجنح" لم يتح لها تعزيزاً حركياً قبالة واجهة الفنان "سعد العواد" في عزفه وهو في وضع ينغلق على الرؤية اتجاه المتلقين وكان للرؤية الإخراجية اختزال حضور سعد العواد دون خلخلة جمالية، واستجاب (العواد) للكثير من الطبقات الصوتية المعهودة لدى المتلقي في متن خطاب عرض له محمولاته الفكرية والفلسفية عبر عنوان/ إشكالي مثل "زمن الأسئلة"!
ونجد في عرض المسرحية مفارقة أدائية. فيما يعنى بالخبرة المسرحية التي يحملها فريق العمل عموماً فالممثلون وبعض الفنيين في مستويات الخبرة التي يتوقع منها إنتاج أداءً في تماس وحواف التجريب المسرحي. أما ما هو ناجز فإنه في حدود التكلف الانفعالي والملاحظ أن المسرحية التي لا يتجاوز وقتها نصف ساعة حملت رؤية إخراجية جماعية تجسدت في مسمى "هيئة الإخراج" المؤلفة من الفنانين "علي محمد إبراهيم/ عامر رحيم/ مهند ناهض" وتلك إشارة لم يألفها المسرح العراقي وإن أتت فإنها في نتاج مسرحي له طبائعه الملحمية ففي عرض مسرحية "كلكامش" إخراج الفنان سامي عبد الحميد والتي حملت طاقماً تمثيلاً تجاوز الأربعين ممثلاً لم يعتمد المخرج إلاّ على مساعدين هما مقداد مسلم ورياض السالم!، وفي تقليب المتلقي لـ هيئة الإخراج المؤتلفة على جيلين من الرؤية والخبرة للمخرجين الثلاثة. نسجل عدم تكافل تلك المتجاورات في إنتاج منظومة خطاب عرض ذي بعد رؤيوي حاملاً مديات وتخطيات إخراجية لـ هيئة الإخراج إذ احتفظت منظومة العرض بأختام وذائقة خطاب الفنان علي محمد إبراهيم ما أفقدها مستوياتها التجريبية التي حملتها عروض المخرج مهند ناهض وأداءات الممثل عامر رحيم وذائقته الصورية.
أما عنوان المسرحية فإنه يشير لأول وهلة إلى حزمة أسئلة ذات بعد إشكالي تنهض مجريات الحدث بطرحها الإجابة عنها. إلاّ أن العرض اكتفى بإعلان أسئلة وترديدها بصيغ الشخصنة والبداهات الحياتية في لحظة تاريخية هازة للبنى الاجتماعية والاقتصادية والفكرية مثل اغتيال المثقف والعنف الاجتماعي والسياسي. وهو شأن توافرت بعض إشاراته لدى متلقي العرض ومعايشته لظروف عنيفة وعصيبة.
وثمة إشكالية حملها عرض مسرحية زمن الأسئلة عن قدرات النص الشعري بكل أنساقه الغنائية والاستعارية في تبني محمولات ابستمولوجية/ معرفية. خاصة وإن النصوص المنتجة لم تنتج لنسق درامي أو فكري بذاته، وذلك ما لم تفطن إليه هيئة الإخراج والمعد النصي علي محمد إبراهيم.
وفي كل ما تقدم، فإن غاية الخطاب الجمالي يظل خارج مديات النوايا الحسنة والانتماء إلى فضاء المسرح وشجونه فالعرض آلية إشهارية وإعلانية اتجاه المتلقين تنحل به الذوات في خطابها الموضوعي.