ادب وفن

الأبوذية والعتابة... وما يجمعهما / لفته عبد النبي الخزرجي

من الوان الأدب الشعبي المعروفة... ألأبوذية.. والعتابة، وكل منهما له بيئته الخــــاصة وآليات نظمه وغنائه..ففي الجنوب.. كان الفلاح يردد الأبوذية بصوته الذي يمثل أصالة أبناء الأهوار وعمق ارتباطهم بالأرض وإنشدادهم الحميم لجذورهم السومرية..وهم يعتلون صهوة المشاحيف.. ويمخرون عباب الشواطي ويمشطون غابات القصب والبردي بألحانهم وأغــانيهم و يترنمون بأطوار ألأبوذية بأنواعها المعروفة (المحمداوي، المجراوي، ألفراتي، اللامي، الشطراوي والغافلي) وغيرها من أنواع ألأبوذية التي اشتهرت بها أهوار الجنوب وبساتين الفرات وشط العرب والتي كان يرددها صياد? ألأسماك في الأهوار.. والمزارعون في مشاتل الشلب في الشامية والمشخاب وغيرها من المواقع.
ترف بهواك من مثلي وله دوم
بثناياها الخلل بين والهدوم
أمل الفرس لو كبرت والهدوم
شبصرك بردعة النامت عليه

وفي الحماسة والشجاعة والفروسية:
أنه صابر ونار إعداي تاره
وأريد إعيون كل الخلگ تاره
مثل السيف أخش بالغمد تاره
وتاره أنسل وأراويهم منيه

وفي الغرب والشمال الغربي من بلادنا.. يردد الفلاحون وأبناء البادية.. إغاني العتابة.. والعتابة نتاج البادية.. وهي فن اصيل ومعبر عن المعاناة التي يستشعرها إبن البادية.. وهو يقود قطيع ألأغنام في الفيافي والقفار بحثا عن الماء والكلأ.
سريت بليل..والراچد علاماي
بلاهه وشحت الصمل علاماي
شبيه أرميم خلـــــوني علاماي
خطيف ودوم يطـرد بالسراب
األأبوذية والعتابة.. من ألألوان ألأدبية التي يعتز بها شعبنا لأنها تنطق بمعاناته..وتعطينا صورة صادقة عن الهم الشعبي وألأزمة ألإجتماعية التي كانت وما زالت إشكالية لهذا التفاوت الطبقي.. ومن خلال هذه الألوان الادبية الشعبية إستطاع ألإنسان أن ينشر معاناته ويكشف المرارة والحرمان والوجع ألإنساني.. وهي مشتركات تعيشها الشرائح والطبقات ألإجتماعية.. ولها إمتدادات في الموروث.. فالمرأة تقبع في ثنايا الدار ملفعة بالسواد.. ممنوعة من معاينة ألآخرين.. والشبيبة موزعون بين هموم لا نهاية لها.. تبدأ بالحرمان والعوز ولا تنتهي ب?لإنطواء والعزلة والكبت.. والفلاح تعصره عوامل الفقر والعوز والظلم.. وتسحقه آلة القهر التي فصلها الحاكم على مقاساته..
كل هذه العوامل كانت المهماز الذي رفعته تلك الشرائح ألإجتماعية لأيصال صوتها المغمس بألأنين واللوعة والمحرومية..وليس كما يقول الباحث السيد عامر رشيد السامرائي أن ألأبوذية تمثل " النفس المسحوقة المستطيبة للذلة وألأذى "(1).
إجعوده فوگ متنه الترف شرهه
عرابيد وسرت يچفيك شرهه
يگلي ليش عينك علي شرهه
تريد تشمت الـــعدوان بيه

هذا في الغزل.. وهو غزل شفيف.. يرسم صورة مجسمة.. حيث أن الشاعر الشعبي إعتاد أن يتغزل بالمذكر،كما في البيت إعلاه , لأن الغزل المكشوف محرم في البيئة الريفية.. وهي البيئة التي إحتضنت الشعراء الذين تغنوا بالأبوذية..
حنين النيب يا مدلول حنيت
من دمي عليك إچفوف حنيت
على فرگاك يا مدلول حنيت
إضلوعي ولا بگت عندي وعيه

هذا الحزن الشفيف.. وهذه المفردات التي تقطر أسى.. وهذا الهاجس ألإنساني المشبع بألألم والحسرة واللوعة... وهذه المشاعر المكرسة للحنان الطفولي.. ليست إلا إنعكاسا ومرآة لحالة الحرمان والكبت والوجع ألإنساني.. وهي إشارات لا تدل على الحزن غير الصانع للرجال.. او الحزن الذي يستطيب الذل والخنوع.. إنه الحزن المغمس بمفردات مشفرة.. تحكي لوعة ألإنسان، وتنقل معاناته وآلامه وإنكساراته.. وليست حزنا مستطيبا للذلة والاذى.. وليس فيها ما يشير الى الخنوع.. نعم ألأبوذية تمثل النفس المسحوقة.. المهمشة.. والمحرومة.. ولكن ليس فيها ما?يؤكد ألإستسلام او التراجع عن ألإستمرار في هذا النفس الذي يكرس هذا الحزن المفروض على ألإنسان بقوة التقاليد والأعراف والواقع المتردي.
إسيوفك حيل وشرهه وحدهه
وروحي تشاجف إرماحك وحدهه
أريد أركب ضعون أهلي وحدهه
وأفوت على الزمان الخان بيه

إن ألأبوذية والعتابة وغيرها من ألوان ألأدب الشعبي إنما تمثل إنزياحات وخواطر وإشارات لحياة الناس والظلم الذي يقع عليهم والقهر الذي يسحقهم.. والقوانين التي تكرس التفاوت وتدافع عن ألإنقسام الطبقي وتعتبره نازلا من السماء..
لذلك كانت ألأبوذية هي المطرقة التي رفعتها الطبقة التي وقع عليها الظلم والتي عاشت وما زالت تعيش في ظل التهميش وسوء ألإدارة العامة للبلاد وهدر الأموال وحرمان ألأغلبية من التمتع بثرواتها.
يگلبي من الهموم إعليك ينزار
إنفتك جرحي وبعد هيهات ينزار
إمام الــما يشور عيب ينزار
ولا نـرجه من إنزوره سجيه

يقول السيد عامر رشيد السامرائي (أنه رغم التشابه الظاهري بين ألأبوذية والعتابة، فإن بينهما فرقا كبيرا، ذلك هو أن ألأبوذية في صياغتها والحانها لا تمثل الحزن الصانع للرجال، بل تمثل النفس المسحوقة المستطيبة للمذلة وألأذى...بينما تمثل العتابة الشعر الرجولي،إنها تمثل الفخر والمدح المشهورين عند البدو، وتمثل الحزن الذي يفتح أمام ألإنسان آفاق الحياة ويملؤ النفس طموحا وشوقا الى المضي في طريقها بإعتداد وزهو)(2).
إن هذا الطرح فيه الكثير من عدم ألإنصاف والتعصب للعتابة التي ينتمي لها السيد الباحث.. مع علمنا تماما أن ألأبوذية والعتابة من فنون الأدب الشعبي التي تميزت بها بلادنا من شمالها الى جنوبها.. وهي من التراث الشعبي ألأصيل لشعبنا والتي تمثل روح التمرد على أبجديات الواقع المتردي وما يعيشه ألإنسان وما يستشعره وما يواجهه في حياته اليومية المغمسة بالتعب والجهد والمشقة والمحرومية والظلم والقهر والكبت.
الدنيا مالها صاحب ولا جار
ودهرك لا تون منه ولو جار
إمشي وماطل الدنيه ولو جر
ولا راسك يدنــج للرديه

أما أن تكون ألعتابة مقرونة بالمدح والفخر.. فهذا جزء من تراث شعبنا الذي عانى من الغزو والحروب والإقتتال.. والمدح لايمثل شعرا رجوليا بقدر ما يمثل ألإستجداء من القوي وإظهار محاسنه في القوة والتسلط والظلم. ونحن لا نريد أن نميز بين ألأبوذية والعتابة، لأنها من إبداع شعبنا ومن تراثنا الشعبي.. ومن ألفنون التي يفخر بها شعبنا وتمثل قمة عطاءه وإبداعه.
هلي ما لبسوا خادم سملهم
وبچبود العدا بايت سم إلهم
إنچان أهلك نجم أهلي سما الهم
وچثير من النجم علا وغاب
هذه واحدة من أبيات العتابة وهي من باب الفخر وألإعتداد بالنفس.
أنه المسلول سيفي من گــــرابه
ولا أرجه معونه من گرابه
إمن أريد أنشر عتابي من گرابه
من يسمع ومن يلتفت ليه

وهذه ألأبوذية لا ارى فيها شيئا من الذلة والمسكنة وإستطابة الخنوع..إنها شكوى مفتوحة.. حيث تسير ألأمور بطريقة عشوائية... لا يلتفت السلطان لمظلومية الناس.. ولا يعبأ بمعاناتهم..
إن هذا الطرح الذي قرأناه للباحث عامر رشيد السامرائي.. والتصنيف المنفصل عن حيثيات الواقع.. إنما يعكس رأيا يعود لقناعة الباحث بما توصل اليه.. وهو أمر نعتبره انتقاصا من إبداع الشاعر وجهده.. ولان ألأبوذية خالية من المديح والاستجداء.. ونابضة بالحب والشكوى واللوعة وألألم.. فهي بحسب السيد السامرائي" رمزا للذل وألإنسحاق والتلذذ بالألم، إنها حافلة بالبكاء والشكوى بصورة تدل على أن أصحابها ممن يستكينون الى الذل ويستطيبونه "(3)
إن اي لون من الوان ألأدب لابد يحتوي الكثير من الصور التي تعبر عن جهد قائلها.. وهي صور متفاوته بحسب موقف الشاعر ونظرته، وهي ليست عيبا وليست منقصة.. كما انها لا تحسب مثلبة على الشاعر.. لأن الشعراء يتوسلون بما يختزنون من مفردات شعرية.. ويسكبونها ليصوغوا هذا اللون من الأدب الشعبي المتميز..
نويت أمحيك من بالي وهملاك
دليلي بعد ما رف لك وهملاك
چنت سابج أنوحن لك وهملاك
تركتك من شفت ذاتــــك رديه
هذه النفس المعبئة بالمشاعر والتي ترفض ألإنصياع لما هو رديء.. إن هذا بحد ذاته يعد تجسيدا للنظرة الموضوعية.. النظرة الفاحصة.. التي تميز بين الغث والسمين.. بين الحسن والقبيح.. بين الخطأ والصواب.
عجب خلخال ساگك ما يرنش
چبح ودموع عينك ما يرنش
يرن منك مصايب ما يرنش
أكرهك لو حيــاة تصير ليه
وعن هذا البيت، يقول الباحث الدكتور هاشم الفريجي " والشاعر هنا يحتكم الى عقله ولا يستسلم لعواطفه.. فهو برغم كلفه وإعجابه بجمال الحبيب إلا أنه يرفضه حتى لو كان هو الحياة،ويفضل الموت على وصاله "(4)
سجني لا على مطلب وداعي
بليل ولا سنه لحالي وداعي
يحگلي لسرف إرداني وداعي
بحگي وخل تلوم الناس بيه(5)

لا ارى في هذه اللون من الأبوذية إنسحاقا أو مذلة، او قبولا بالخنوع والإستسلام لمعطيات الواقع السيء.. إنه ثورة واضحة على من يريد إذلال الشاعر او تقييد حريته..
وندعوك لقراءة هذا البيت من الأبوذية لكي تحكم على عمق المعاناة التي يعيشها الشاعر في ظل هذا الواقع المأزوم..
زماني داف الي حنظل وصابار
وطگني إبسهم بالهامه وصابار
لمن صرت أعتصم بالله وصابار
المصايب ضيعن صبري عليه(6)

ـــــــــــــــــ
المصادر :
1- إسطورة عبد الله الفاضل ومقالات أخرى.. عامر رشيد السامرائي
2- نفس المصدر السابق
3- نفس المصدر السابق
4- نقد الشعر الشعبي العراقي /الابوذية اولا...د. هاشم الفريجي
5- الشاعر ابو معيشي / من سيرته وشعره : فرقد الحسيني
6- المصدر السابق