ادب وفن

«الذباب والزمرد».. عوالم لا يتوقف فيها النشيج (1-2) / جواد وادي

لماذا الذباب والزمرد وليست ثنائية أخرى، قد تقترب وقد تبتعد بقصدية أو دونها عن المألوف؟ دونما حصول جفوة في الحمولة والشساعة في المعنى وضبط إيقاع العمل المرتكن على حدود قد تكون متأرجحة من القبول.
لخلق نوع من المصالحة بين ما للعنوان من وظيفة تخدم العمل، وما تكتنزه الرواية من عوالم لا يعرفها القارئ الذي لا يملك أدنى بيّنة عن الكاتب، أو عوالم الحدث، ليؤسس منحى تراتبيا، تختنق من خلالها الأسئلة في دواخل المتلقي، ليكتشف ما لهذا الاختيار من مرجعية تخص الكاتب وحده دون سواه، ولكن لا بمعنى الحرية غير المؤسسة على نوايا احتفالية، تعتمد على السرد فقط، وتنتصب داخل العمل على أسس رصينة، بثلاثية السرد والسارد والمسرود له، وقد نقحم ركنا رابعا وهو المسرود عنه، زمنا ومكانا وشخوصا وأحداثا، كلها تختلط في فضاءات لعلها ليست وحدها من إبداع مخيلة الكاتب، ولكن العصيان المعيشي، ولفحة الضيم، ورهبة الخوف، وبعض الاشراقات الحياتية، التي سرعان ما تخبو إزاء المحن، وما سواها من محفزات للعمل، كلها تشكل الدافع لعملية الخلق والبناء الروائي، وتؤسس لوشائج تربك القارئ وتدفع به للتساؤل بندية معرفية، إن كان الروائي، وهو بهذا القدر من امتلاك ناصية العمل، لأحداث لا يمكن مطاولتها أو الاقتراب منها، لما تعج به عوالم الرواية من الغرائبية، لكنها ليست دون حالات قائمة يمتزج فيها الواقع، بقدرة الكاتب على الخلق حين يجمع كل هذه العناصر المكونة للعمل، ليخلق لقارئه ثيمة يختزل فيها جهدا، قد يتوزع على بياض لا يمكن أن تنهيه قراءة واحدة في جلسات من المؤانسة السوداء، لأن القارئ أمام عمل لا يمكّنه من امتلاك قدرة القرار والانصهار داخل تسلسل الأحداث، وهو ممسك بتلابيب هذا المنتج المتفرد لروائي موهوب، مثل «عبد الكريم العبيدي»، الذي أعترف بريادته للعمل، أنا كقارئ لأعمال قد تتوزع في كل تفاصيل القراءة العاشقة، من أمكنة وأزمنة وحالات وحراك وانتقالات، وأحيانا كثيرة من انكفاء على الذات التي لا تريد أن تكون جزءا من سوداوية الأحداث هذه، لئلا تعتريه «أي القارئ» حالة هستيرية من الخوف، مثلما أسميتها مؤانسة سوداء، فهل يجوز لنا هذا التوصيف ونحن ننتقل من حالة رثة إلى أخرى أكثر عطنا، وبؤسا، وروائح تغم النفس، لأمكنة وحالات محايثة مع الأنساق السيكولائية، صراعا ووعيا اجتماعيا واهنا؟، وكأن للروائي نوايا مبيتة لتصفية حسابات مع قارئه، فهل هناك أكثر من أن يتبرز المرء على نفسه مثلا؟، ما أن يداهمه القتلة بالسياط، وهو يعرف بأنه ذاهب لرحلة لا عودة منها، فلا يتمالك نفسه، فيعملها وسط ثلة الجلادين وداخل عربتهم، وهو بهذا الإحساس المفرط من الضيم، يتحول في نظر «الرفاق البعثيين»، إلى كونه مجرد عفونة لا أكثر، فكيف تمت المقارنة، ليتحول النقاء إلى مزبلة، والمزابل إلى ضوع مغشوش، هكذا كان الظلم الذي لحق بأوسم، الوديع والمثقف، الأمر الذي ظل هذا الحدث الممض يلازمه، ليسبب له حالة من انفصام الشخصية وسوداوية قاتلة، لا خيار أمامه إلا أن ينتهي به الأمر إلى الانتحار، إنقاذا لماضيه وتخلصا من الذنب الذي بقي يلاحقه حتى ينهي حياته بتلك الطريقة المأساوية، والتي ذبحت أمه قهرا، وخلخلت دواخل صديقه الكاتب، ليستسلم للآتي من المحو كيفما كان، بعد أن خسر كل الطيبين من الأصدقاء والأحبة، بشير، داوود، أزيريه، الشماس، وغيرهم، مرورا بالذين علقوا على أعواد المشانق من الأبرياء، وسط خيانات وضعة البعض، وحتى الأمكنة لا تختلف عن أقبية ودهاليز موت، بانتظار الأجل المحتوم، كانوا موزعين بين الشقق الرثة، والمقابر اليهودية المهجورة، والقفار المظلمة، وأرصفة الشوارع الحزينة وغيرها.
«إن الصعوبة لا اثر لها في سجل رجل دائم الهزائم مثلي، رجل بائس، بارع في النكسات والمحن».
هذه هي حال الراوي التي لا تسر صديقا ولا حبيبا. لتنسحب كلها على بقية شخوص الرواية، قدر لعين يلاحقهم في كل تفاصيل حياتهم، وخوف دائم من الآتي من المفاجئات، حتى اضحى المرء، لا يملك قرار عيشه، وبأن الموت يزحف نحوه في كل لحظة.
«نحن نعوم يا أزيريه في منهول مستهلك... نمضي نحن بخفة نحو ظلمات العصور الوسطى».
هكذا بلغت بالعراقيين الأوضاع وهم يعانون كل أنواع المهانة من أنصاف البشر والقتلة العتاة الذين صادروا إنسانية الناس وحولوهم إلى مخلوقات، تعيش وتتنفس وتتحرك وتمارس الحياة بإشارة من مجرمين قتلة بمسميات الوطنية والحفاظ على كرامة الأمة.
«شهور عصية مرّت على غصة الغزو، ثم تبعتها سكرات الهزيمة الخانقة وأنفاس الانتفاضة ونهارات القمع».
صور ممزوجة بالمكابدات والأذى والحسرات لانتكاسة الأمل من نجاح انتفاضة العراقيين الأحرار التي كانت بمثابة التصويت المباشر لرفض نظام الفاشست القمعي، وما تبع ذلك من فصول إبادة مخيفة.
إن الروائي بهذا التناول يبحث عن متابع من نوع خاص، قارئ بضوابط صارمة، تخضع لمسارات غير مألوفة، بمثابة عربة بلغ بها العمر عتيا، لتأخذك قسرا ودون سابق انذار لعوالم يختارها هو، ويقتص منك بمحبة الباحث عن أنيس يخفف عنه تعب اللحظة الولودة، إن كانت تلك العوالم تعنيك، وتريد أن تقترب منها وأنت المحمل بفضول الراهن المقيت بكل بلاءاته ومآسيه المرعبة، ما كان يحدث في زمن مظالم أفلتّ منها بقدرة قادر، لتعرف ما الذي حدث للبشر هناك، وكيف مرت المحن، والقسوة البهيمية، والموت المجاني، وانتهاك حرمة الجسد، واعتبار الإنسان في تلك المرحلة المخيفة، مجرد ذبابة، يمكن سحقها في أية لحظة، ولكي يوثق الكاتب هذه الأجواء المرعبة، خارج حدود المنطق للحدث، يوزع الشخوص بمهنية الناقل الذكي بعين راصدة لمسلسل الأحداث بحساسية شديدة الدقة، وبحسابات قد تكون موضوعة على طاولة التناول، بنية توثيقية لمن يريد أن يدون حدثا بأمانة وحرص شديدين، ولكن برداء إبداعي محكم الأدوات، وكأنه أمام مهمة مقدسة لا يريد أن تفلت منه التفاصيل، لأن توثيقها يعتبر إدانة للقتلة، ووفاء للصحاب، وتكريما لذويهم، لتصبح تأريخا للاجيال القادمة، وهنا بظني يكون الكاتب قد تفوق حتى على الأكثر حرفية من سارقي اللحظات النادرة، لتدوين ما حصل، لندرجه نحن المستفيدين من الاطلاع على تفاصيل الصورة بكل بلاويها وقتامتها، ضمن محترفي الفن السابع، في خلق لقطات تسجيلية حية وليس فيلما واحدا بثيمة يتيمة، ولكن بطبق شهي تزينه الموضوعات المختلفة، ليخرج لنا حالات معاشة، بلمسات العارف بطريقة الاقتناص لهذه الصور المتحركة أمامك بكل بشاعتها وتقززها، ليسقط عليها موهبة في غاية الحرفية والتفنن في تراتبية الحدث والدخول في عوالمه من منافذ عصية على كشف أفعال لرفاق «هكذا كانوا يطلقون عليهم»، مبتذلين، من جلادين ورجال أمن قساة، وفاسدين قيما وتكوينا، رعاع لا يعرفون الرحمة، رفاق فيما بينهم، وأعداء لسواهم، ولكن بإنتهازية إنتماء، سرعان ما يتركون كل متاعهم على الأرض وفي أقبية الموت وسعير المحارق التي خلقوها هم، وينتزعون جلودهم ليستعيروا جلودا أخرى، ما أن يهددهم زلزال أو هزة تمسحهم مسحا، هكذا هم الطغاة والجلادون في كل تاريخهم الممتد من التراب إلى التراب، نسميهم نحن العراقيين، (خنيثين خبيثين)، ولنا في رئيسهم الذي ظل يلعلع صوته لعقود متبجحا بشتى صيغ الوطنية والبطولات القومية الجوفاء، ليتحول بين ليلة وضحاها إلى فأرة قذرة، ديست بالأحذية المتربة، وتم رميها في مزبلة الأوباش.
فلماذا كل هذا القتل؟ وهذا التعذيب؟ وتلك الملاحقات؟ والمقابر الجماعية؟ وإنهاء حياة الأبرياء بالكيمياوي؟ والجعجعة الفارغة؟ والحروب الحمقاء؟ والمقامرة بمصير وطن؟ وقهر شعب لا يستحق كل هذه المحن والعذابات؟ وأنهار الدماء البريئة، وأخيرا فروا مثل أفواج الجرذان النتنة، إزاء أول امتحان لهم؟.
«أنظروا إلى صورته، التفتوا وأمعنوا النظر إلى صورة سيدكم يا معشر عبيد نيرون، إنه يبتسم، أتدرون لماذا؟، لأنه يراكم ذبابا، ولأنه يثق بما تعكسه بلورة الزمرد.
هكذا يتكرر ذات المشهد حين كان نيرون يشاهد مصارعة عبيده من خلال بلورة الزمرد، ليصبح طاغية العراق نيرون العصر وهو يتلذذ بقتل العراقيين من هنا جاء توظيف العنوان ليخدم العمل الروائي، ويحل اللغز المحير في اختيار العنوان، بأبعاد وإحالات وأوجه متعددة.
إنها «سيمفونية الغروب» حيث يساق المحكوم عليهم بالإعدام كل غروب للمقاصل، لإعدامهم، ولا نعرف لماذا الغروب تحديدا؟.
«كانت تلك هي مهمة الفريق الطبي الخاص، قلع عيون المحكومين بالإعدام حال تنفيذ العقوبة بهم ونقلها إلى بنك العيون في مستشفى إبن الهيثم، حفلات سرية لا يعلم بها المعدومون الحالمون بدفئهم من قبل ذويهم... ولم يخطر ببالهم أن جثثهم تدفن بلا عيون، أو أن عيونهم ستباع بصفقات سرية تعقد بين أطباء العيون والمرضى من عراقيين وعرب ليصل سعر العين الواحدة إلى مائتين وخمسين ألف دينار...».
أي هول هذا؟ تاجروا بكل شيء، الوطن والأرض والناس والأعضاء البشرية، وتأريخ بلد، لم يتركوا وراءهم غير أرض محروقة وشعب ثلثاه مقهور، وثلث مشرد في أصقاع الله الفسيحة، كما توعد يوما طاغية العراق بهذا، وأوفى بوعده.
فطوبى لهذه الأمة بهذا الفصيل القومي الذي لا زال هناك من بعض العراقيين وكثير من العرب من يصفق له ويترحم على قتلاه من الأوباش.
«حاول الانفلات من ذاتيته المغلقة وشرع بمطالعة وجوه مصفّرة وعيون غائرة لكائنات حلّت بها لعنة الملاحقة والاضطهاد، وغدت خائنة وعميلة ومجرمة بسبب طنين ذبابة واحدة دنت من هالة الزمرد».
هنا يتضح كيف للعنوان أن يشي بالكثير من المعاني، وما آلت إليه حياة العراقيين من وجوه دائمة الاصفرار خوفا ورهبة من يد الجلاد الزاحفة نحوهم، دونما ذنب ارتكبوه، وهم بهذه العيون الغائرة رعبا وهلعا، فهل هناك أمض وأمر من هذه الحالات لتغييب الناس لأتفه الأسباب، لمجرد أنهم محض ذباب يسهل عفسه كما يريد القتلة، بعد أن تعكس حالاتهم المرتعبة، هالة الزمرد بيد الطاغية.
للأنثى حضورها القوي في الأحداث: ليديا حبيبة أوسم، بلقيس، فيفيان، جانيت وغيرهن، إضافة إلى مطربين بصراويين لم نكن نعرف عنهم شيئا، ويعرّج الكاتب على فنون الموسيقى العالمية وأنواع الرقص العالمي، مما يدلل على موسوعية الكاتب ودرايته بشتى أنواع الفن والموسيقى ليعطي للرواية نكهة خاصة وقيمة إبداعية كبيرة، وهو بهذا التوظيف البهي يسقط هذا التناول على مرارة اللحظة التي يعيشها هو وأقرانه، ليمنّي النفس بالبحث عن منافذ للخلاص من هذه المحنة المتعاظمة.
عنوان الرواية «الذباب والزمرد» بهذه الثنائية المتنافرة، بحد ذاتها تشكل للقارئ إشكالية أولى وحيرة، لأنه يحمل أوجه إحالات كثيرة، فكان الروائي عبد الكريم العبيدي موفقا حقا بذات الاختيار، ليخرج عن المألوف القائل: «أن الكتاب من عنوانه» والعنوان هنا يتأرجح بين هذا المعنى وذاك، بثنائية ذكية الاختيار.
يرى دي سوسير «أن النظام اللغوي هو نسق إثاري على علاقة الإختلاف بين الثنائيات المتعارضة)»
وهذه الثنائيات تمنح النص تحليلا لغويا أو بصريا بإحالات دلالية: فالعنوان الذي أمامنا يقارن بين الذباب لما له من صفات ذميمة ومقززة، والزمرد لما له من قيمة وحظوة وأهمية كبيرة.
إنما حين نلج متون العمل نرى أن التوظيف الفطن هذا له معنى مغاير تماما للمألوف، ليفتح الروائي منافذ كثيرة وذات صيغ متعددة لهاتين المفردتين المتنافرتين، لا كمن يقارن بين الحياة والموت، ولا بين القبح والجمال، ولا بين الخيانة والوفاء، وهلم جرا، لأنه ببساطة يعرف جيدا حين إختار هاتين الكلمتين المتناقضتين معنى وقيمة، أن الاشتغال على العمل من هذا الطراز والذي، اعتبره أنا شخصيا أمانة كبيرة ومسؤولية إبداعية وأخلاقية لا تخلو من المغامرة، ليتحمل عبئا إضافيا يتطلب حرصا شديدا في مواءمة النص مع عنوانه.
ولعل قارئا فطنا يسأل لماذا هذه المقارنة بين ذباب وزمرد؟ وما القصد من هذا الاختيار؟ وكيف تناهى لفكره هذا التوصيف النبه؟ وهل أن الكاتب يشاكس القارئ بهذا العنوان؟ أم أنه يريد وبطيبة المبدع الرصين، إشراك متلقيه بخلق عوالم هذا العنوان الملتبس نسبيا؟.