ادب وفن

قصة الخراب العراقي / وديع شامخ

الشعوب الحيّة تنهض دائما كـ"العنقاء"، تزيح رماد الحرائق وترتدي حلّة الزمن الجديد، ولقد قيض للعراق أن يكون بيضة الذهب في عيون الأهل والجيران والحاسدين والطامعين من كل طائفة وملّة وصوب.. العراق الذي أبتلى بتاريخه وحاضره .. فمنذ حقب التأسيس الأولى كان فندقا بخمس نجوم لشعوب تعيش على أرضه وتنتج وتبدع وتندثر لتقوم أخرى في سلسلة حضارات النشوء الأولى من «السومريين، البابليين، الأكديين، الآشوريين» ، بناة العراق وأهل « ميزو بوتاميا « فصار هذا الثراء الحضاري والمدني ببعديه الروحي والمادي مصدر نقمة علينا إذ تناهبت هذا البلد الأفاعي برؤوس على عدد الجهات. لذا لم يبق من تراث الأمة العراقية الخصيب سوى مواد «متحفية» تاجر فيها العالم كثيرا وجنينا منها مرض « التضخم الأنوي « الذي سيكون منشارا حادا بيد العراقيين أنفسهم للتنابز والتقاتل والفرقة والتشرذم.
صار العراق وطنا للغزاة بعد أن كان مهدا للحضارات، فجاءت الأقوام لتوقّع بحوافر خيولها على جبين العراق. وترك كلّ منهم بصمة في حياة العراقيين ستكون نذير شؤم وبضاعة للذين يريدون العراق عمارة بلا بواب.
في العصر الحديث قامت المملكة العراقية عام 1921 بشروط المنتصرين في الحرب العالمية ووفقا لمقصات « سايكس بيكو»، فكان من سخريات القدر أن يجلب لنا» سادتنا» ملكا من غير العراقيين.. وهذا برأيي ناتج إلى الفترة الطويلة التي قضاها العراقيون تحت هيمنة الخارجي فلم يعد لديهم القدرة على إنجاب قادة لهم، أي أنهم كانوا « قاصرين»!.
وكان هذا خير علاج «لقصورنا ومراهقتنا».. وهكذا جاءنا الملك الهاشمي فيصل الأول بمشروع وحدة وطنية، لم يستطع من فرضها واختلف العراقيون من «غطاء الرأس» حتى «أخمص القدم».. لأننا مجيرون الى أهواء الملل والنحل والديانات والفرق، وأحزاب لها مآربها وأجنداتها.. فمات ملكنا الاول بحسرته، وقُتل خليفته « غازي» بعمود كهرباء ملتبس تماما! حتى جاء الملك الصغير ليموت ميتة شنعاء على يد بعض ثوار الجمهورية الأولى..
وتوالت الجمهوريات ولا أثر لطيف «الأمة العراقية» في الإنبعاث من جديد.. سوى إشراقة هنا وفلتة هناك.. وإذا كان يحق لنا أن نشير الى نقطة ضوء بيضاء في هذا الخانق الجمهوري فسيكون الزعيم «عبد الكريم قاسم» هو المثال للإبن البار للعراق.. ولكن التركة الثقيلة وقطار المؤامرات قد كانا أسبق في قتل حلم عراقي..
وذهب قاسم بلا قبر ولا شاهدة ليكون جزاءَ وطنيته وعراقيته وإنسانيته وكأنه « جزاء سنمار». على يد خفافيش الإنقلاب الدموي عام 1963 ويدخل العراق ثانية وثالثة في حسابات المصالح الدولية ليجيء الإنقلابيون» البعثيون « ثانية عام 1968 وتبدأ حقبة « الهدنة» أو التواطؤ.. ليسير العراق على طريق الشوك والورود معا..
...
الخراب بيد وطنية جدا

إذا كـانَ مـا تَـنويهِ فِعلاً مُضارِعاً
مَـضى قَـبلَ أَن تُلقى عَلَيهِ الجَوازِمُ

الشاعر ابو الطيب المتنبي

لقد قُدّم العراق للبعثيين على طبق من ذهب، ولكنهم سارعوا إلى الخراب بكل ما أوتوا من قوة وبأس.. كان المشروع البعثي مشروعاً شيطانياً بإمتياز يدس العسل والسم معا في قارورة واحدة.. يشربون نخب الرفاق في العلن وينصبون المشانق في الخفاء.. لقد قدّم الدرس البعثي للعراقيين سبورة سوداء لقراءة تاريخهم بعيون معصوبة تماما..
لم يشهد التاريخ العراقي حملة تبرع بتاريخه وثرواته مثلما حصل في زمن البعث، فلقد تحول العراق من « فندق بخمس نجوم « لبناة الحضارة والمدنية الى مستنقع آسن لعفونات الأمة العربية وأمراضها.. وكأني بالبعث يعيد العراق الى برج نحسه، غراب ينعب على حياة العراقيين.. حاربوا الجهات الأربع. لم يبق لنا جار صديق ولا نثار عطر نرشه على غريب..
قاتلنا الخميني دفاعا عن «البوابة الشرقية للأمة العربية»، ومنعنا تصدير «الثورة الشيعية» الى الأمة العربية «السنيّة»، ثم قمنا بإحتلال الكويت لنكمل حديث الخراب، وحين تكون لنا هدنة نتحارب مع بعضنا كأننا كلاب مسعورة. ..
هكذا نحر « البعث» العراق الى أشلاء.. فغدا الشمال موطنا للخونة والإنفصاليين/ وصار الجنوب بطن العراق الرخو وموطن المؤامرات على النظام.. وبغداد بلا بوابات.. ثمة غيوم صفراء تمطر لقحط النفوس وتنبت سيوفا لجزّ رقاب العراقيين..
هكذا تحوّل العراق الى «حقل دم» وكأن يهوذا يستعيد مكانه ويؤسس لثقافة الوشاية والخراب والدم..
البعثيون ومن معهم ومن جلبهم ومن خلفهم ومن أمامهم. مهدوا لخراب عراقي مديد..