ادب وفن

نجاة عبد الله : ما زلت أحبو في سماء الشعر / حوار: علي كاظم خليفة

تمتلك لغة صادمة ولغة أليمة فيها نواح عميق، لكنها تجد نفسها أنها ما زالت ترى الأشياء مختلفة، وأنها ما زلت صغيرة تحبو في سماء الشعر.. سرقتها الدراسة والعمل بعيدا عن مدينتها الأثيرة "العمارة"، فذهبت إلى بغداد لتكمل تحصيلها الجامعي، ثم غادرت إلى عمان فالقاهرة ومن هناك دارت في عواصم ومدن عديدة لتعود من جديد ضيفة على مدينتها الأم.
إنها الشاعرة المبدعة نجاة عبد الله، وحوار معها لا ينتهي.

ما هي سيرتك الذاتية واهم المحطات فيها؟

توقفت سهوا في محطات لم أفقه منها شيئا، غير أنها كانت تشير لي بأصبع مدمى بالحياة، فقدمت طفلة كئيبة تجلس وحدها في زاوية من زويا الساحة المدرسية المليئة بالطين، تتأمل بريبة رحلة حياة شائكة ستقع في حبالها آجلا، ثم شابة بضفائر جنوبية داكنة تدلف إلى الجامعة مختنقة بالحنين، وكانت أولى محطات المنفى بالنسبة لي، ثم عمان هربا من الضير الذي تعرضت له في عملي الصحفي وعيون الرقيب عام 2000، بعدها الغربة الحقيقية وأنا ابتعد حائرة جذلى إلى نيوزلندا حيث المطر والجبال المتواترة والحدائق الغناء والبحر الذي كان يخيفني لشدة ابتعاده عن دجلة قرب بيتنا في ميسان، ثم عودة لبغداد وأنا أشهد العديد من الأحداث الأليمة وأتأملها بصمت من لا يمتلك حيلة، وبعدها الذهاب إلى القاهرة حيث الحياة السخية بأدبها وفنها وتراثها وتاريخها العريق.

حدثينا عن تجربتك الشعرية في ميسان ومن هو صاحب الفضل عليك ؟

كتبت الشعر وأنا صغيرة غضة.. كان الشعر بالنسبة لي هذا العالم الأخاذ الذي يحيطني بحياة مختلفة، ويجعلني أهيم بتفاصيل الحياة وأغرق في جديدها ومفآجأتها الكثيرة.. كتبت الشعر في الصف الأول من المرحلة المتوسطة وكنت أريه لمدرستي "ليلى السوداني"، وكانت تشجعني على الكتابة.. بعد ذلك أخي عبد الكريم رحمه الله الذي كان يكتب الشعر أيضا ولديه مكتبة كبيرة كنت أدلف إلى غرفته أتصفح الجواهري والمتنبي والسياب والبياتي ونازك الملائكة وحسب الشيخ جعفر وبابلو نيرودا واليوت وجاك بريفير ورامبو.. أمضي الصيف القائض والشتاء المكتظ بالمطر بالقراءة والاطلاع، إضافة إلى قراءاتي المتعددة لكبار المتصوفة الذين سحروني مبكرا، ابن عربي والحلاج ورابعة العدوية.. أقرأ في الفلك وأكره الجغرافيا بكل تفاصيلها.

من جعل من نجاة عبد الله شاعرة ومهتمة في الأدب والثقافة؟
إنها تجربة الحياة التي أحالتني إلى الشعر.. كنت وما زلت أرى الأشياء مختلفة وأحدس ثمة وجع يوزع طقوسه اليومية من بيتنا حتى دجلة، وهذا الأمر لا يأتي إختيارا، إنما هناك من يناديك فتذهب إليه.. لكني في كل هذا خذلت أمي التي كانت تتمنى أن تراني امرأة تشبه شقيقاتي الأربع.

لك تصريح قلت فيه، إن الشعراء الآن يسعون لخلق أسمائهم بدلا من قصائدهم، ماذا تقصدين بذلك؟

نعم البعض من الشعراء الشباب والبعض الآخر، ممن تجاوز فترة الشباب يسعى للشهرة من خلال فعلهم الحياتي وليس الشعري.. يثابرون على الظهور في الفضائيات والصحف والمواقع الاجتماعية وكثرة التصريحات واللقاءات لإثبات حضور ثقافي، وأظن أن هذا من حقهم.. لكن قبل ذلك يجب أن يوازي هذا نتاجهم ويقينهم الشعري.

تحدثت الشاعرة د. سلامة الصالحي فقالت:
نجاة صوت شعري عراقي راقٍ جداً ومهم جداً في الشعرية العراقية. تمتلك لغة صادمة ولغة أليمة فيها نواح عميق, لماذا هذه اللغة الأليمة والنواح؟

دكتورة سلامه الصالحي إنسانة ومثقفة كبيرة وشاعرة مهمة.. ورأيها اعتز به كثيرا وأقول لكل إنسان شخصية تختلف عن الأخرى.. هناك من يتعامل مع الفرح كونه مشروعاً إنسانياً ويستثمر حياته على هذا المنوال.. وهناك من يتخلل الحزن إلى روحه ويندلق في كل تفاصيله، وهذا يتأتى من كثرة الصدمات التي تعرضت لها في حياتي الشائكة والغريبة، أضف إليها الاغتراب النفسي الذي أعانيه منذ ولادتي والغربة التي وقعت في حبائلها مبكرا حتى افقدني القدرة على التواؤم مع مكان ما والعيش فيه بشكل نهائي.

عرفت نجاة عبد الله شاعرة ولكن لك تجربة مع كتابة القصة؟، اين تجدين نفسك؟

أجد نفسي مع الشعر بالتأكيد، لكنني شعرت بحاجة لكتابة القصة وشعرت ان ما اكتبه لا يستوعبه الشعر، كذلك لدي رواية كتبتها منذ عشر سنوات وفي كل مرة أتريث في طباعتها اشعر أنها تحتمل المزيد من التفاصيل.

هل أثرت الغربة سلبا أو إيجابا في شعر نجاة عبد الله؟

نعم أثرت كثيرا، بل اشعر باني ولدت بثياب الغربة، وغربة النفس اشد وطأة من غربة المكان.. كتبت مجموعة شعرية كاملة، كانت ملامح الغربة واضحة فيها وهي "حين عبث الطيف بالطين"، وربما زحف هذا التأثير إلى تفاصيل حياتي وقدرتي على مقاومة الألم.

عدّك أحد النقاد أهم شاعرة في الوقت الذي نفى فيه وجود شاعرات في العراق، ما هو ردك؟

لا ليس صحيحا، ذكر الناقد علي جعفر العلاق بمقالة عنوانها:"هل هناك شاعرات في العراق"؟. بما معناه انه كان ينفى وجود شاعرة عراقية لها بصمة واضحة في الشعر العراقي الآن لكنه لم ينكر وجودهن ، والغريب ان ذات الناقد هو من كتب على غلاف مجموعتي الشعرية "مناجم الأرق" التي فازت بجائزة برلين شرق غرب كلمة تعطي مجموعتي جواز المرور للفوز، واستطاع الناقد الدكتور حسين سرمك ان يبين حقيقة الأمر وأنصف العديد من الأصوات الشعرية النسوية "مع اني ضد هذه التسمية" اقصد الشعر الذي تكتبه الشاعرات، وكنت انا من ضمنهن.

ماذا تعني لك ميسان؟

ميسان أمي والدمعة العالقة في عيني.. اشعر بحنين جارف لها، ولا تفارقني طفولتي هناك، تعني لي دجلة والنخيل المشرئب حول ضفافها، مدرستي ومعلماتي وصديقات الطفولة وعائلتي الحميمة وطقوس الشتاء اللذيذة وأحاديث أبي الشيقة.

هل لك طقوس خاصة لميلاد القصيدة؟

لا طقوس لي ولا أخطط لكتابة قصيدة لكنها تداهمني هكذا دون استئذان.

هل أنصفك النقاد؟، ومن تناول أعمالك الشعرية منهم؟

نعم اعتقد ان النقاد أنصفوني وأشادوا بشاعريتي مبكرا، وهذا ما وهبني المداومة على كتابة القصيدة.. بشر بي منذ ولادة أولى مجاميعي "قيامة استفهام" الشاعر الكبير عبد الرزاق عبد الواحد والناقد المبدع محمد الجزائري ود حسين سرمك والبروفيسور عبد الرضا علي والناقد الكبير ناجح المعموري والشاعر الكبير محمد حسين ال يسين ونقاد آخرون والكثير من الشعراء والنقاد الشباب.

ماذا نحتاج للمشهد الثقافي العراقي حتى نصل إلى النجاح؟

المشهد الشعري العراقي.. واضح الملامح ولا نحتاج الى ما يوصله الى مرحلة النجاح فقد كون له بصمته الخاصة والواضحة منذ عقود طويلة .. ما نحتاج له الآن هو التفاعل الثقافي مع البلدان العربية والعالمية والاطلاع على تجاربهم. ووضع انطلوجيات شعرية دون تجاهل اسم له حضور واضح في الشعرية العراقية.. حتى يكون مرجعا حقيقيا للدارس.

الجميع متفق على شاعرية نجاة عبد الله الكبيرة هل اخذتِ حقك أم تشعرين بالغبن في الاحتفاءات والمهرجات في الداخل والخارج وهل قيمت تجربتك كما يجب؟

أخذت حقي بما يكفي ولم أشعر بالغبن أبدا والدليل هو ترشيحي لأمثل العراق في مهرجان شعري عالمي أقيم في فرنسا في تموز الماضي مثله كبار الشعراء في العالم والوطن العربي ومنهم ادونيس وعباس بيضون وصلاح ستيتيه وقاسم حداد وعبد الزهرة زكي ومحسن اطيمش واسماء شعرية كبيرة عديدة.. الترشيح جاءني من مؤسسة المهرجان في فرنسا عبر النت، كذلك اعتقد بان تجربتي قيّمت بما استحق. .

حدثينا اذن عن مشاركتك الأخيرة في مهرجان الشعر العالمي "أصوات حية) الذي أقيم في مدينة سيت الفرنسية؟

كانت أياماً جميلة بحق حافلة بالشعر والندوات الثقافية المثمرة عشنا حياة شعرية وكانت لنا فرصة للالتقاء بكبار الشعراء من العالم والوطن العربي والاطلاع على تجاربهم الشعرية.. وتبادل الحوارات، إضافة إلى الطقوس التي تم احياء الشعر فيها فقد نزل منزلة الملائكة في النفوس .. احتضننا البحر بكل محبة والسفن الشراعية والكنائس والمتاحف وعلقت قصائدنا في يافطات كبيرة في ازقة فرنسا بلغة كل شاعر مع ترجمة لها بالفرنسية ، مع الاحتفاء الكبير بنا من قبل القائمين على المهرجان وجمهور الشعر الفرنسي الذي كان ينصت الى ما نقرأ وكانه ينصت لنص مقدس يطالبوننا باعادة القراءة ويتفاعلون مع ما نقرأ .. يسألوننا كثيرا عن الشعر بكوا حين غادرناهم فقد تركنا وتركوا في نفوسنا شأنا كبيرا .

ما هو تقييمك لمهرجان الكميت الثالث في ميسان الذي شاركت فيه مؤخرا؟

مهرجان الكميت .. من اجمل المهرجانات المحلية التي اقيمت .. احتفاء ومحبة بالمبدع العراقي .. وجدناه من قبل القائمين عليه وهذا ليس غريبا عليهم فهم اسماء شعرية لها باع طويل في العمل الثقافي والادبي .. ولكني كنت اتمنى ان تتم دعوة اسماء لشعراء تعود اصولهم الى العمارة (وسبق وان تكلمت مع الشاعر رعد زامل بهذا الخصوص) امثال الشاعر حسب الشيخ جعفر والشاعر عيسى الياسري والشاعرة لميعة عباس عمارة وشعراء آخرين لكن يبدو ان ميزانية المهرجان لم تسمح بذلك ..كذلك لم ننس هذا النبل والكرم الميساني وحفاوة اللقاء.

ما هو رأيك في الجيل الشعري النسوي الحالي في العراق؟ ومن ترى فيهن الشاعرة نجاة عبد الله رفعت لؤاء الشعرية العراقية؟

لم أجد تجربة واضحة الملامح فيما يخص الجيل الجديد من الشاعرات الشابات مع اعجابي وتثميني للمبدعات منهن على قلتهن وهن يسعين للاتيان بجديد .. أما فيما يخص جيلنا والجيل الذي سبقه هناك أسماء شعرية راسخة قيمها كبار النقاد لا يختلف عليها إثنان .. وانا لست الحكم بكل تأكيد لمنح لواء الشعرية لشاعرة معينة .. اذ ان كل شاعرة تكتب بطريقة تختلف عن الاخرى وكل لديها ابداع متميز وطريقة خاصة في الكتابة وكلهن مبدعات وكبيرات .

ما هو رأيك في المشهد الشعري والنقدي في مدينتك العمارة حاليا؟

العمارة تحفل بالشعر والأدب منذ بداية تكوينها .. هي مدينة شعرية بامتياز بكل ما تحمل من نخيل وتراث وحياة وأدباء كبار على مر العصور .. لدينا شعراء كبار ونقاد كبار منهم ما زال يسكنها ومنهم من غادرها الى المنافي طوعا او هجرة وهم اسماء معروفة للقاصي والداني.

أمنياتك التي لم تتحقق. شخصيا وفي الأدب؟

كنت اتمنى ان لا اغادر العراق ابدا وان اعيش فيه بقية حياتي .. لكن "تقدرون وتضحك الأقدار" أما على صعيد الكتابة فقد كانت لدي مشاريع أدبية كثيرة بعضها ما زال قيد الانجاز لكن كثرة الهموم والنكبات التي تعرضت لها في حياتي أحالني لوقت طويل إلى نفسي بدل أن يحيلني الى الشعر.. ولكني ملزمة بتحقيقها وفاء لهذا الطريق الصعب الذي مضيت فيه وتثمينا لكل من بشر بي وكتب عني.

كلمة للعراق

العراق الذي تناجيه روحي ليل نهار .. أقول له اتمنى ان ترجع كالسابق بنخيلك وهدوئك .. ان يرجع عراق السبعينات الذي عشته وانا طفلة دون حروب او مآسي أو خدوش .. أن يلمنا جميعا في خيمته الواسعة مثل أطفال ويهدئ من روع ما تعرضنا له في تلك السنين العجاف.