ادب وفن

«الذباب والزمرد»..عوالم لا يتوقف فيها النشيج (2-2) / جواد وادي

مجموعة من الإشكالات يسببها الكاتب، للمتفحص للوهلة الأولى للعنوان، لتنتفض في ذهنه أسئلة مشروعة، قد تخلخل المتابع، ليظل مستفزا، وهو يلج عوالم الرواية، بانتقالاتها المتقنة الحبكة والسرد واللغة والفطنة المستدركة لطبيعة العمل، لنكتشف وبثقة المتابع الجيد، أن الروائي عبد الكريم العبيدي، قامة إبداعية بكل ما لهذا التوصيف من معنى، فكم أذهلتنا وشدتنا بقوة، الانتقالات للأحداث بشخوصها وأجوائها وتفاصيلها، وبلغة وصفية لسارد يمتلك من التراكم المعرفي في فن الرواية الكثير، وموسوعي في اللغة والمفردة الروائية المغايرة للمألوف، كونها على قدر هائل من الاقتناص المتفرد، وكأني بالمبدع العبيدي على جانب لافت من الصرامة اللغوية بمداراة حبيبة، وكأنه يراود لغته ويخلق منها رديفا للمؤانسة، ليضفي على العمل متعة كبيرة، ولذة قراءة انتشينا بها جدا، وقبل هذا وذاك، المقدرة على شد القارئ للحدث، ليحسب اللحظات بما تؤول إليه الأحداث بإيقاع المتلقي في هذه الأحبولة من خلال شحن الأحداث بغرائبية التوظيف، وهذه من سمات الكتاب الكبار، لما تحتويه الرواية من تنوع هائل وانتقالات في السرد، وبلغة محكية تتضمن العديد من المفردات العراقية الدارجة، تقتصر على اللسان البصراوي، الأمر الذي جعلنا نحن من غير البصراويين، نتعرف على مفردات دارجة، لم نكن على دراية بها.
مع ذكر شخصيات بصراوية لها حضورها الطاغي، كونها كانت علامات من تراث المدينة الخالدة: ياشنكر لال الهندي، وكاظم أبو الباصورك وزرزور أبو الحَب ومالو الأطرش وتومان العبد وجاسم أبو السفرطاس، ويقينا أن لكل واحد من هؤلاء حكاية يتندر بها البصريون ويشكلون جزءا هاما من نسيج المدينة العريقة التي استباحها الق.
لا أعرف لماذا، وأنا أتابع الحكي والحوارات، قادتني هذه الرواية، أو في بعض من فصولها، لعوالم الروائي الراحل عبد الرحمن منيف، وخصوصا في رواية «شرق المتوسط»، لكن خصوصية رواية المبدع عبد الكريم العبيدي، تزدحم بالأحداث والحالات الإنسانية وتنفرد بشكل خاص في حجم العذابات التي كان يعانيها العراقيون وخصوصا المثقفين منهم، بشرائح مجتمعية، وكأنها توليفة وطنية إنسانية رائعة، لمسلمين ومسيحيين ويهود، من قتلة ودمويين، ووطنيين أحرار، وفاسدين قيما وسلوكا، ومناضلين عنيدين، من أناس وديعين، وخونة خائبين. طبق روائي شهي يضاف إلى الإبداعات العراقية الأخرى لروائيين كبار: محمد خضير، غائب طعمة فرمان، فؤاد التكرلي وغيرهم، من أعمدة الرواية العراقية ورموزها.
إن الكتابة الإبداعية بكل أجناسها المختلفة عموما، والروائية على وجه الخصوص، هي حرفة تتطلب مهنية وقدرة متعددة الكفاءات والمسارب، بلغة خطاب غير متداولة وبتخييل يحيل اليومي الرث إلى عوالم بهية وفاتنة، مع الحرص على وحدة الموضوع واللغة والتناول، بمهارة الكاتب الموسوعي العارف بدهاليزها وأحابيلها ومطباتها أحيانا، لتعتلي بقوة متشبثة بعناصر أساسية وهامة تلك هي: الزمان والمكان ووحدة العمل، مع توظيف استيهامات تعتبر تأثيثا لا بد منه لإشغال فضاءات السرد، لنقول أننا أمام عمل فارز وهام، وهذا ما لمسناه بحق من خلال قراءتنا لعمل المبدع عبد الكريم العبيدي.
يقول الروائي الكبير وليم فوكنر: «إن الكاتب بحاجة إلى ثلاث أسس لإمتلاك معارج الكتابة وهي:
* الخبرة
* والملاحظة
* والخيال»، دون أن ننسي أداة الخطاب الأساسية وهي اللغة، مع صرامة المراجعة، وهي مقياس أساسي لنجاعة العمل، والعمل الروائي إذا ما أحترم هذه المعايير يكون قد امتلك ناصية التحدي، وهنا يمكن أن نقسّم المنتج الروائي إلى حالتين هما:
روائي يعتمد على التخييل من ألف باء العمل حتى يائه، أحداثا وشخوصا وتناولا وانتقالات، وحتى لغة.
وآخر يقتنص أحداثا معاشة ويحيلها إلى عمل متكامل العناصر بإضافات من خيال وموهبة الكاتب، وإضافات يحيّنها في لحظتها بطريقة إبداعية، ليسمو به من الراهن إلى معارج الكتابة بلمساتها الإبداعية والتي تنأى أحيانا عن صلب الحدث، وتقترب أحيانا أخرى لتقريبه لإدراك المتلقي، مع مراعاة شديدة الحرص على ثيمة الموضوع، إن كانت تحتمل السرد المكثف وغير الممل أو الحوارات بانتقالاتها الوصفية، بسطوة الشخوص ونجاعة الاختيار.
يقول كلود ليفي شتراوس: «إن النظام اللغوي يعمل ككل ضمن سلسلة الاختلافات والثنائيات المتعارضة، فالمعنى ليس كامنا في الإشارة ذاتها ولا حتى يضاف إليها، إنما هو أمر وظيفي يتجدد داخل شبكة العلاقات داخل النص نفسه».
هذه التوليفة الشديدة الالتحام والعصية على التفكيك ليست في متناول من هب ودب في العمل الإبداعي الرصين والمالك لقدرة التواصل مع الآخر، والساعي لحفر أخاديد غائرة في شخص المتابع، وهو بطبيعة الحال، متلق من نوع خاص وبمواصفات تسعد الكاتب وتمده بقدرة العطاء والتجدد، لأنه ببساطة أمام ند عصي على المهادنة، وعليه ينبغي أن يكون حريصا وقاسيا على العمل، بالمراجعة تلو المراجعة، دون تكاسل أو إدارة الظهر للعمل بدعوى أنه أنجز ما مطلوب منه، إنما الترميم والمتابعة من كل الزوايا تمنح العمل فرض وصايته على المتلقي وبالتالي تسمو بالكاتب إلى مراتب عليا من العطاء والتجدد.
إن رواية «الذباب والزمرد» تجربة فريدة ورائدة لتوثيق ما مر بالعراق من محن، مطلوب من كل المبدعين العراقيين في هذا الجنس الإبداعي أن يدلوا بدلوهم أسوة بالمبدع عبد الكريم العبيدي، لنتمكن نحن المتابعين وبلهفة المنتظر لهكذا اعمال، أن نشد على أيدي الكتاب ما أن يعملوا على توثيق ما حصل، لنخرج بمشهد لجنس الرواية العراقية، المشهود لها بالعطاء والتجدد والأمانة.
لا يسعنا إلا أن نبارك للمبدع عبد الكريم العبيدي بهذا الجهد الفني الفارز، بعد أن منحنا وقتا ليس هينا من المعايشة والمحايثة والتداخل مع ذاته الكاتبة والتي نتوقع أنه عانى الكثير من العذابات لإخراج هذه الحلة الباذخة. له منا أجمل وفاء
وبانتظار هبّة عطاء قادمة وليست عسيرة عليه وهو بهذا البهاء والتجدد.