مدارات

166 عاما على صدور "بيان الحزب الشيوعي" / د. صالح ياسر

في شباط 2014 تحل الذكرى 166 لصدور " بيان الحزب الشيوعي " وسنشير له باختصار لاحقا، "البيان". ولاشك ان احياء هذه المناسبة تنطلق، بالنسبة لنا نحن الشيوعيين العراقيين من الاهمية التاريخية التي يكتسبها "البيان" بوصفه الوثيقة البرنامجية النظرية والعملية الاولى التي جسد فيها ماركس وأنجلس تجسيدا كاملا رؤيتهما الخاصة في حينه لكل ما يتعلق بالحركة الثورية التي تمثل مستقبل البشرية وتقود إليه فكرا وسياسة وتنظيما.
ففي اواخر عام 1846 وأوائل عام 1848 كتب ماركس وانجلس "بيان الحزب الشيوعي" بتكليف من (مؤتمر عصبة الشيوعيين) المنعقد في لندن في شهر تشرين الثاني عام 1847.
وفي شباط 1848 تم نشر "البيان" في لندن باللغة الألمانية، ثم ترجم الى اللغتين الانجليزية والفرنسية وانتشر بعد ذلك تباعا بكل اللغات الحية، ليدخل في عداد الكتب الأولى في العالم من حيث عدد اللغات التي ترجم إليها وعدد الطبعات التي صدرت منه في كل تلك اللغات.
ومن المفيد الإشارة الى أن الترجمة الأولى للبيان الشيوعي الى اللغة العربية تمت بعد ثورة أكتوبر العظمى مباشرة، وقد قام بهذه الترجمة ميخائيل خطايا المولود في دمشق في عام 1853 والمتوفى في موسكو عام 1924. وفي عام 1933 قام الرفيق المرحوم خالد بكداش بترجمة " البيان " الى اللغة العربية.
وبيّن مؤلفا الكتاب، في مقدمة احدى طبعاته الالمانية (وهي طبعة عام 1872) أن عصبة الشيوعيين ارادت ان يكون البيان برنامجا مفصّلا للحزب، نظرية وتطبيقا، هادفة الى نشره لتعلن مبادئها وغاياتها.
لم يكن " البيان " نصا نظريا فقط، رغم ما فيه من اسس وملامح نظرية، ولم يكن برنامجاً نضالياً عملياً فقط، رغم ما يتضمن من نقاط برنامجية تتجلى بخاصة في المبادئ العشرة التي جاءت في خاتمة فصله الثاني، كما انه لم يكن صرخة ايديولوجية تحريضية، رغم ما فيه من هجاء للبرجوازية ونظامها الرأسمالي وتحيّز للبروليتاريا ومحاولة لإذكاء وجدانها الثوري بعد ان تحولت من "طبقة في ذاتها" الى "طبقة لذاتها" ودفعها الى مزيد من وعي الذات بوصفه اساساً لا بد منه لتغيير العالم.
أجل، ليس" البيان " واحدا فقط من تلك الجوانب التي ذكرناها، وإنما هو كلها، في وحدتها وجدليتها. انه التحليل النظري وقد تمخض عن شعارات وطرائق عمل، والبرنامج العملي وقد جّسد قراءات واستخلاصات نظرية، والموقف الإيديولوجي وقد خيمت روحه الثورية على القراءة والموقف.
جاء " البيان " بالدعوة الى إقامة حزب سياسي بروليتاري، في مناخ كانت مظاهر الغضب والاحتجاج تحصل بصورة عفوية وبدون تنظيم مركزي ورابط كفاحي منظم، أي حزب يجمع الناس في نضال مشترك ويمنحهم أكثر قوة وأكثر تأثيراً على الرأسماليين والنظام السياسي الذي يساندهم ويعبر عن مصالحهم.
"البيان"، حسب الفيلسوف الفرنسي المعروف لوسيان سيف، نص سياسي من اهم النصوص السياسية المكتوبة ابدا، وهو رغم حرصه الى ان يكون شعبيا نص نظري للغاية. بل وشكل الاطروحة المضادة التي لم تتجاوز حتى اليوم في نقد الرأسمالية. وكان الكتاب النادر في التاريخ الذي يقدم المثال على امكانيات فعل الفكر في الواقع، وعلى امكانيات أن يتحول الفكر الى قوة مادية عندما يتبناها الناس، الجماهير.
ينهض البيان الشيوعي من بدايته الى نهايته على " أربع أرجل":
 مفهوم فلسفي: منظور التطبيق؛
 منهج منطقي: الديالكتيك الثوري؛
 مفهوم عن التطور الاجتماعي: المادية التاريخية؛
 وعلى منظور أناسي: الانطلاق الحر للجنس البشري ولكل فرد كهدف بذاته للتاريخ.
أعمدة " البيان " وبنيته (هيكله)
كما بنيَ " البيان " على أربعة أعمدة هي:
- قراءة واقع النظام الرأسمالي الجديد، وتحديد طبقتيه الرئيسيتين (البروليتاريا والبرجوازية) والعلاقة بينهما.
- رد التهم التي توجهها البرجوازية للشيوعيين.
- عرض الأسس التي يقوم عليها النظام الجديد.
- فضح الاشتراكيات غير الشيوعية.
و من ناحية بنيته (هيكله)، يتألف " البيان " من أربعة فصول.
يكشف الفصل الاول منه والموسوم: " البرجوازيون والبروليتاريون " قوانين التطور الاجتماعي، ويثبت الطبيعة الحتمية لعملية حلول اسلوب انتاج محل اسلوب اخر.
وقد انطلق ماركس وانجلس من الحقيقة القائلة بأن تاريخ كل مجتمع تطور في الماضي  فيما عدا النظام المشاعي البدائي  كان تاريخ صراع الطبقات. واثبتا أن سقوط الرأسمالية حتمي، وبيّنا الطريق الى تكوين نظام اجتماعي جديد هو الشيوعية.
وفي نفس الفصل أوضحا المهمة التاريخية للطبقة العاملة (البروليتاريا) باعتبارها المحول التاريخي للمجتمع القديم، وباني المجتمع الجديد، والمدافع عن مصالح كل الجماهير الكادحة.
وعلى العموم يتكون النموذج الماركسي الأصلي من نموذج للمجتمع البرجوازي ينطوي على ثلاثة تنبؤات قوية كما أشار إليها بصواب جيوفاني اريغي (في عمله المهم الاضطراب الكبير " دار الفارابي، بيروت 1991) وهي:
1. ينـزع المجتمع البرجوازي إلى الاستقطاب في طبقتين، البرجوازية والبروليتاريا، معرّفة كطبقة من العمال الذين لا يستطيعون العيش إلا إذا تمكنوا من بيع قوة عملهم، ولا يجدون عملاً إلا إذا أدى جهدهم (قوة عملهم) الى زيادة رأس المال (فكرة إنتاج فائض القيمة من طرف العمال).
2. ينزع التراكم الرأسمالي الى تعظيم الغنى من جهة، وإلى إفقار وتقوية البروليتاريا في الوقت نفسه، وذلك في إطار المجتمع البرجوازي. ويرتبط تعزز دور البروليتاريا بموقعها كمنتج للثروة الاجتماعية.
أما إفقارها فيرتبط بدورها حيث تتحول قوة العمل في هذا النظام الى سلعة، خاضعة لكل تقلبات المنافسة.
3. تنـزع قوانين منافسة السوق، اجتماعياً وسياسياً، إلى دمج النـزوعين السابقين في عملية تفقد النظام الرأسمالي مشروعيته، مما يستحث أن يخلفه نظام غير تنافسي وغير استغلالي.
وإذ أشار " البيان " الى الدور التقدمي الثوري للنظام الرأسمالي في مرحلة صعوده في دفع القوى المنتجة الى الأمام، وتوسيع الصلات بين الأمم، وجمع المقاطعات في دولة واحدة وأمة واحدة (فكرة الدولة/الأمة)، وغير ذلك، إلا أن " البيان " مع ذلك كشف الطابع الاستغلالي لهذا النظام وأثره على البروليتاريا والمجتمع، ودعا الى تجاوزه وإقامة نظام جديد يكون بداية لتشكيلة أرقى منه.
وفي الفصل الثاني - "البروليتاريون والشيوعيون "  أوضح ماركس وأنجلس الدور التاريخي لحزب الشيوعيين باعتباره حزب الطبقة العاملة وطليعتها. وقد قدم ماركس وأنجلس في هذا الفصل فكرة ديكتاتورية البروليتاريا، وشرحا علاقة الشيوعي بالعائلة والملكية والوطن، ووصفا الخطوط العامة للإجراءات الاقتصادية التي يتعين على البروليتاريا اتخاذها بمجرد توليها السلطة.
ما الذي يميز الشيوعيين، بحسب ماركس وأنجلس، عن أحزاب الطبقة العاملة الأخرى ؟
إنهم يتميزون، كما جاء في " البيان " بما يلي فقط:
1. "في النضالات الوطنية لبروليتاريا مختلف البلدان يؤكدون على المصالح المشتركة لكل البروليتاريا بغض النظر عن قوميتها، ويبرزون ذلك في المقدمة".
2. "في مختلف مراحل التطور، التي يجب أن تمر بها نضالات الطبقة العاملة ضد البرجوازية، يمثلون دوماً وفي كل مكان مصالح الحركة ككل".
اما الفصل الثالث والموسوم: " الادب الاشتراكي والشيوعي "  فقد قدم ماركس وانجلس نقدا عميقا للاتجاهات البرجوازية والبرجوازية الصغيرة المتنكرة تحت لواء الاشتراكية، وحددا موقفهما الخاص من المذاهب الاشتراكية والشيوعية الخيالية.
وفي الفصل الرابع - " موقف الشيوعيين فيما يتعلق بالأحزاب المعارضة المختلفة القائمة "  عرض ماركس وانجلس تكتيكات الشيوعيين إزاء الاحزاب المعارضة المختلفة. وينهي " بيان الحزب الشيوعي " بالشعار الخالد : " ايها العمال في جميع انحاء العالم اتحدوا ".
لقد كتب لينين عن هذا العمل قائلا: " ان هذا الكتيب يستحق مجلدات بأكملها فحتى يومنا هذا لا تزال روحه تلهم وتوجه كل البروليتاريا المنظمة والمناضلة في العالم المتمدن ".

الفكرة الأساسية في "البيان" وأسسه المنهجية

إن الفكرة الأساسية التي يمكن ملاحظتها عبر كل " البيان "كما اسماها أنجلس في مقدمة الطبعة الألمانية عام 1883، أو عبر الأطروحة الأساسية التي تشكل نواة " البيان " حسب مقدمته للطبعة الإنكليزية هي: " إن أسلوب الإنتاج والتبادل الاقتصادي السائد، والبناء الاجتماعي الذي يشترطانه يشكلان الأساس الذي يقوم عليه التاريخ السياسي لتلك المرحلة وتطورها.....، وهو الأساس الذي يمكن انطلاقا منه فقط توضيح كل مرحلة ".
تشكل هذه الأطروحة الأساسية جوهر الطريقة المادية والاقتصاد السياسي عند ماركس وأنجلس ونظريتهما حول الطبقات والصراع الطبقي.
ويقدم "البيان" نموذجا مشخصا لاستخدامها لهذه الطريقة ببعديها الجدلي والتاريخي، على الحياة الاجتماعية في زمان ومكان محددين.

اسس " البيان " المنهجية

ليس" البيان " مرجعا في المنهج، بل قد يكون على الباحث ان يتلمس المنهج في دراساتهما ومؤلفاتهما كلها.
ولكننا نلمس في البيان ثلاثة اسس منهجية واضحة هي:
 الرؤية التاريخية: فالظاهرة تدرس في سياق تطورها، ارتباطا بأسبابها ومقدماتها، وتفصحا لسيرورتها وتمعنا بخصائصها وحركتها وتحولاتها، وتلمسا لما تنطوي عليه من أجنة مستقبلية. لم يتناول واضعا "البيان" الرأسمالية بوصفها كيانا مستقلا، بل توغلا في عمقها التاريخي مبينين صلتها بما سبقها من انظمة اقتصادية  اجتماعية وتولدها في احشاء الإقطاعية، وتراكم عناصرها على التدريج لتتحول الى نظام سائد. كما انهما لم يغلقا التاريخ على هذا النظام، فأشارا الى سيرورته المقبلة استنادا الى ما سبق واعتبراه شكلا تاريخيا انتقاليا وليس "نهاية التاريخ".
 الانطلاقة المادية: فالبيان من المؤلفات الماركسية المبكرة التي تنطلق من ان الوجود المادي هو اساس الفكر ومكونه، وان المفاهيم والقيم والأفكار كلها هي انعكاس للواقع، تتطور بتطوره. في هذا المجال يشير " البيان " الى ما يلي: " ... هل يحتاج المرء الى تعمق كبير ليدرك ان نظرات الناس ومفهوماتهم وتصوراتهم الفكرية، أو باختصار، إدراكهم يتغير مع كل تغير يطرأ على ظروف حياتهم وعلاقاتهم الاجتماعية وشروط معيشتهم الاجتماعية ؟". لكن تأكيد ماركس وأنجلس هذا، على اولوية الواقع المادي، لا ينفي دور الفكر في تغيير الواقع، فالفكر  وفقا لمادية " البيان "، ليس سلبيا، ليس تابعا فقط، فمع تفسخ العلاقات القديمة تتفسخ الافكار المعبرة عنها والمنبثقة منها، وتقوم الافكار الجديدة بالمساهمة في هذا التفسخ. ان " البيان " يضع علاقة الفكر بالواقع في سياقها السليم، فالفكر انعكاس، لكنه انعكاس إيجابي، فاعل، ينشأ من الواقع ويواكب التطور ويؤثر فيه.
 المنهج الجدلي: فماركس وأنجلس ابدعا في تطبيق الجدل في حقل العلوم الاجتماعية. ففي " البيان " وما سبق من اعمال لهما مشتركة أو غير مشتركة كانا يدرسان الظاهرة وتطورها من خلال الكشف عن تناقضاتها الداخلية، والسيرورة الناجمة عن صراع هذه التناقضات في اطار وحدة الظاهرة المدروسة والمتخذة شكل نفي الصورة القديمة للظاهرة من قبل جديد يتكون على التدريج وعبر تراكمات متتالية. هذا الاسلوب الجدلي يبرز في عرض " البيان " لتكون النظام الرأسمالي وتطوره ومصيره المتوقع.

مفاتيح لقراءة " البيان "

قراءة "بيان الحزب الشيوعي" اليوم، مهمة ذات مفاتيح متعددة، تشكل بمجموعها كلاً واحدا ومتكاملاً، ومن الممكن طبعا، حسب المفكر الفرنسي جورج لابيكا (انظر: جورج لابيكا: حول البيان، الشيوعية اليوم، قراءة البيان، النهج عدد 50/1998، ص 123 ولاحقا) تقديم هذا المفتاح أو ذاك، شريطة أن لا ننسى أننا بصدد دراسة قضية معاصرة.
أولاً: وضع النص (البيان)
1. طابعه الاستثنائي، إن لم يكن الفريد هو الإيجاز (إذ تتألف الطبعة الأولى من 23 صفحة)، بالقياس لانتشاره الواسع جدا والذي وحده يستحق الدراسة.
2. تُرجم الى كل اللغات ونُشر في جميع البلدان.
3. قرأه جمهور واسع جدا.
4. لم يكن موضع منازعة، ولا رفض، على العكس من الأعمال الأخرى لماركس أو أنجلس.
5. شكّل البيان لبَّ كتابات ماركس، فهناك ما قبله وما بعده.
ثانياً: تحضير البيان
1. الكتابات التحضيرية المباشرة: قوانين رابطة الشيوعيين، مشروع " إعلان مبادئ " شيوعي، مبادئ الشيوعية.
2. النصوص السابقة للبيان: الكتابات الأولى (تقدم الإصلاح، ...الإيديولوجية الألمانية، حول فيورباخ.....، بؤس الفلسفة).
3. الحركات والتنظيمات الاشتراكية والشيوعية، نشاطات ماركس وأنجلس.
ثالثاً: معناه
1. الخطة والتنظيم.
2. قطيعة في الحركة الاشتراكية: مع الطوباويات المساواتية ومع الإصلاح البرودوني.
3. تجديد في البرنامج السياسي.
4. أول مؤلف يقدم بديلا للرأسمالية ويبشر بالثورة (1848).
5. بلورة عدد من المفاهيم التي تشكل هيكل المادية التاريخية:
- منها تلك المتعلقة بنظام الإنتاج (اقطاعي، برجوازي، شيوعي)،
- وبالطبقات الاجتماعية (البرجوازية، البرجوازية الصغيرة، الطبقات المتوسطة،
البروليتاريا، البروليتاريا الرّثة)،
- "وجهة نظر طبقية"، أزمة، سلطة، هيمنة/استغلال، نضال (سياسي، اقتصادي)،
- تحالفات، أحلاف، حزب، أممية.
- وفوق كل التعريفات اثنان هما الديمقراطية والثورة.

تطوير النظرة الطبقية/تحيز البيان للكادحين وموقفه المضاد للاستغلال

كانت هذه الاطروحة الاساسية النواة قد نضجت عند ماركس وأنجلس قبل صياغتها للبيان، وتحديدا عام 1845. وبما يتناسب معها صاغا نظريتهما حول الطبقات والنضال. وهي موضوع القسم الاول من البيان  البرجوازيون والبروليتاريون.
وهذه النقطة تحتفظ بكل قوتها، ولم يزدها الزمن إلا اهمية وإشراقا. فالنظام الرأسمالي، وعلى مدى كل العقود التي تلت صدور " البيان "، لم يستطع تجاوز طابعه الاستغلالي، ويبدو انه لن يستطع. فوجود النظام الرأسمالي مرتبط بالاستغلال والهيمنة. ويظل تشبث الكادحين بنزوعهم الانساني التحرري وحلمهم الى العدالة منطلقا لازما لكشف الاستغلال الذي تسعى الرأسمالية الى التمويه عليه، كما يظل قاعدة لوعي حقيقة الرأسمالية وللنشاط التعبيري التقدمي.

"البيان" والسوق الرأسمالية

نظر "البيان" الى الرأسمالية من خلال منهج السيرورة.. منهج النشوء والتطور، ويحتل مؤشر السوق دورا بارزا في توضيح الية الفعل الواقعية للأطروحة الاساسية في "البيان" والاستنتاجات الممكنة منها.
فمن اقنان القرون الوسطى نشأت عناصر المدن الاولى الذين خرجت منهم العناصر الاولى للبرجوازية. فالأسواق الجديدة امنت نموا سريعا للعنصر الثوري في المجتمع الاقطاعي الاخذ في الانحلال ونتيجة اتساع وتعاظم الاسواق اخلت الفئة الصناعية المتوسطة الميدان لرجال الصناعة اصحاب الملايين، ونشوء السوق العالمية ادى الى نمو وتعاظم وتضاعف رساميل البرجوازية.
وبدافع الحاجة الدائمة الى اسواق جديدة تنطلق البرجوازية الى جميع انحاء الكرة الأرضية، وباستثمار السوق العالمية تصبغ البرجوازية الانتاج والاستهلاك في كل البلدان بصيغة كوسموبولوتية وتنتزع من الصناعة اساسها الوطني.
وتستخدم البرجوازية قوانين السوق لكي تجر الى تيار المدينة اي الى ان تصبح برجوازية كل الامم حتى اشدها همجية فان " رخص منتجاتها هو في يدها بمثابة مدفعية ضخمة تقتحم وتخرق كل ما هنالك من اسوار صينية، وتنحني امامها رؤوس اشد البرابرة عداء وكرها للأجانب، وتجبر البرجوازية كل الامم تحت طائلة الموت أن تقبل الاسلوب البرجوازي في الانتاج".
يمثل السوق في كل هذه الادوار الحاجة التي تدفع الى التطور والثورات في اساليب الانتاج والتبادل في اطار الرأسمالية، عبر " ازمات دورية " يكون " الاستيلاء على اسواق جديدة وزيادة استثمار الاسواق القديمة " اسلوبا اساسيا في حلها، ونحن شهود عيان على الدور الذي يلعبه السوق في الرأسمالية المتعولمة باستمرار.
"البيان " وإشكالية الديمقراطية
كما معروف، صدر " البيان " في مرحلة خاصة ودقيقة من تاريخ أوربا الحديث، تتسم بسمات هامة عديدة، منها أنها مرحلة بحث جاد من قبل قوى اجتماعية عديدة ومفكرين متنوعي المذاهب والمرجعيات، عن أشكال جديدة للديمقراطية.
وكانت البرجوازية الصاعدة وهي تخوض معاركها ضد الإقطاع قد طرحت شعارات تقدمية كالحرية والإخاء والمساواة، وحق الفرد في التعبير وتأسيس الأحزاب، وغير ذلك من شعارات ديمقراطية، وجدت فيها معادلا سياسيا للحرية الاقتصادية التي بدأت تروج لها وهي تؤسس لمشروعها الجديد.
كانت مسيرة البرجوازية نحو الهيمنة تقتضي جناحين: حرية اقتصادية، وحرية سياسية، وبهذين الجناحين حلقت مخلفة وراءها علاقات الإقطاع المتخلفة.
أما دعاة الاشتراكية والعدالة، المعبرون عن مصالح الكادحين، فقد وجدوا في الحل الرأسمالي لمشكلة الديمقراطية حلا ناقصا، لأنه لا يحقق العدالة. وكان عليهم أن يقدموا مقاربتهم الخاصة في هذا المجال.
ومن هنا جاء طرح "البيان" والماركسية لمشكلة الديمقراطية طرحا خاصا، يمكن إيجازه باختصار بما يلي:
- الطبقة المسيطرة اقتصاديا، تفرض سيطرة سياسية مماثلة، وتضع أشكالا لهذه السيطرة متجلية بالقوانين والمؤسسات التي تحدد مستوى الديمقراطية المناسب لإعادة إنتاج هيمنتها واستمرار تسلطها ونموها.
- وهي بهذا المعنى قوانين لا تحقق العدالة التي تريدها الطبقة العاملة والفئات الكادحة، التي عليها من اجل تحقيق مصالحها النقيضة أن تنتزع الديمقراطية، أي تتحول الى طبقة حاكمة تتمكن من إقامة نظام اجتماعي يزيل الاستغلال.
مقاربة " البيان " هذه لمشكلة الديمقراطية، حددت موقفا وممارسة استمرا، بهذه الصيغة أو تلك، طيلة الأعوام المائة والستة الستين تقريبا. ويمكن الاتفاق مع العديد من الباحثين والمفكرين الماركسيين بأن هذه المقاربة تتيح بلورة جملة من الاستنتاجات، من بينها:
- إن الماركسية هي بالأصل محاولة ديمقراطية، اجتهاد لحل مشكلة الديمقراطية التي يسعى إليها الإنسان. وهي رد على الحل الرأسمالي لهذه المشكلة، لأنه حل ناقص، يقف على قدم واحدة (الديمقراطية السياسية) بإغفاله مشكلة العدالة (الديمقراطية الاجتماعية)، حل يفضي الى ديمقراطية تفيد من يملكون وسائل الإنتاج ويتحكمون بالثروة. علما ان الحقل الاقتصادي في الرأسمالية لا يمكن ان يكون ديمقراطيا بسبب ان العلاقة الاقتصادية التي تربط بائع قوة العمل بمالك وسائل الانتاج (سواء اكان فردا ام شركة ام احتكاراً قومياً ام عابراً للجنسية) هي علاقة غير ديمقراطية تقوم على استغلال الرأسمالي لبائع قوة العمل.
- الماركسية هي بالأصل فكر ديمقراطي أرادت التأسيس لحركة ديمقراطية، لأنها فكر ينطلق من دور الناس، الجماهير الكادحة، ودور الوعي في تغيير الواقع.
- الماركسية مشروع ديمقراطي، لأنه يرمي الى إزالة الاستغلال، وتخليص الكادحين من حالة الضياع والاغتراب، وإطلاق طاقات البشر بعد تحريرها من قيود العلاقات الإنتاجية الاستغلالية.

خلاصات

تتيح الملاحظات السابقة استخلاص جملة من القضايا من بينها:
1. كان " البيان " أول تعبير علمي وعميق ومتماسك عن الوعي الثوري للطبقة العاملة في بلدان أوربا الصناعية المتقدمة.
وكان سلاح البروليتاريا النظري الذي كشف دورها التاريخي ورسالتها التاريخية العالمية، وهي الرسالة التي يتوقف على النجاح في انجازها تحرير الإنسانية قاطبة وبناء المجتمع اللاطبقي الخالي من الاستغلال.
2. وبالمقابل فـ "البيان" منهج عمل، فهو إذن نص سياسي بل والأدق نص نظري  سياسي.
3. وإذا ما كان للتاريخ اللاحق من دروس لا بد من التعلم منها فان هناك الدرس الأهم وفحواه: أن لا شيء ولا أحد يمكنه تحطيم الإرادة الواعية للطبقة العاملة والكادحين لتغيير المجتمع. صحيح، ربما كان هناك العديد من الهزائم ذات الطابع المأساوي: هزيمة ثورة 1848، و كومونة باريس، وانهيار التجربة الاشتراكية في الاتحاد السوفيتي السابق وبعض البلدان الاشتراكية، وما يخصنا: انقلاب شباط الدامي في عام 1963 وحملات البعث الصدّامي على حزبنا في أواخر السبعينيات من القرن العشرين ....الخ. ولكن، في كل تلك الحالات، كان العمال والكادحون عموما يستخلصون الدروس الكبرى من آثار كل نكسة ويعودون إلى طريق النضال، ومن أجل سبب قوي وهو بالأساس أنهم لا يملكون أي بديل غير طريق التحرر من الاستغلال والعسف ومن اجل بناء مجتمعات خالية من كل هذا، محررين أنفسهم والمجتمع عموما.
4. ولكن بالمقابل، يعلمنا التاريخ أيضا درساً آخر هو أنه من أجل النجاح، ليس كافياً أن يكون المرء مستعدا للنضال، بل إنه من الضروري أيضا النضال بوعي من جهة؛ وأن يكون مسلحا ببرنامج عمل من جهة ثانية، و "البيان" يقدم هذه الادوات.
وبغض النظر عن كل محاولات خصومها من مختلف المشارب، تبقى الماركسية  وهي التي تستجمع معها وفي إطارها وتحت راياتها ملايين من البشر في كل أرجاء المعمورة - قادرة على التغلب على التحديات، ومواجهة الانتكاسات، وتجاوز الثغرات، والانطلاق مجددا الى آفاق مشروعها الكبير الرامي الى " تغيير الواقع " وليس فقط الاكتفاء بتفسيره. وطبعا لم يكن ذلك ممكنا بمعزل عن اللبنات الأولى التي صيغت في " البيان ". اجل نحتاج الى روح " البيان " من اجل أن لا يفقد البشر آمالهم وتطلعاتهم المشروعة في الخلاص من عذاباتهم وقيودهم ومستغليهم.
حزبنا وتطوير مبادئ " البيان " والمستقبل

كما جرت الإشارة في البداية، فان كتابة "البيان " ارتبطت بظروف تاريخية محددة. واليوم بعد مرور مائة وستة وستين عاما على ظهوره نجد أنفسنا مدعوين الى قراءته قراءة جديدة محكومة بزماننا، وبتلك التغيرات التي طرأت على لوحة العالم، خصوصا مع بداية التسعينيات من القرن العشرين. فقد وضع ديالكتيك تطور التاريخ المعاصر ومفاجأته الماركسية ومنظريها والمروجين لها أمام منعطف كبير، وزجهم في جو التحولات والانعطافات السياسية بأبعادها المحلية والإقليمية والعالمية وما تثيره ذلك من زوابع وأسئلة جديدة تحتاج الى إجابات واضحة وليس تقديم أجوبة معلبة " صالحة لكل زمان ومكان".
صيعيش حزبنا في بداية القرن الحادي والعشرين مثله مثل بقية الأحزاب في العالم، مرحلة معقدة ومتشابكة، دقيقة وحاسمة. فالتبدلات التي طرأت على الوضع الدولي وما رافقتها من تطورات طرحت أمامه، كما على الآخرين، مهمة يتوقف على حلها دخولنا الى القرن الجديد، الى المستقبل كقوة سياسية وطنية وطبقية وأممية ليس أقل درجة عن المستوى الذي جسدناه خلال تاريخ يمتد الى ثمانين عاما مضت والذي نحتفل بذكراه هذه هذا العام.
لقد تجسدت رؤيتنا لحل هذه المهمة في وثائق مؤتمراتنا: الخامس والسادس والسابع والثامن والتاسع في حدودها العامة استراتيجيا وتكتيكيا عبر حوار ديمقراطي واسع، وان تفاوتت وتائره من مرحلة لأخرى.
ولا شك أن الحل الصحيح لهذه المهمة ترتبط بجملة من القضايا من بينها:
- مواصلة نهج التجديد وتعميقه عبر تقديم الأجوبة المعللة عن القضايا الاستراتيجية والتكتيكية التي تطرحها حركة الواقع وتناقضاته الفعلية راهنا ومستقبلا، وما تعيشه بلادنا من تحولات عاصفة وآفاق مفتوحة وصراعات محمومة حول شكل ومضمون الدولة ونظام الحكم؛ وبناء عراق ديمقراطي فيدرالي موحد.
- مواصلة دمقرطة حياتنا الحزبية والمساهمة الفاعلة في دفع سيرورة دمقرطة المجتمع، رغم كل الصعوبات؛
- العلنية كأساس لخطة حزبنا كحزب جماهيري مستقل يتعاون أو يتحالف مع قوى طبقية وسياسية متنوعة المرجعيات الفكرية والسياسية لحل مهام مشتركة في مرحلة تاريخية محددة، دون أن يفقد هويته الفكرية ورهاناته الإستراتيجية التاريخية الكبرى.
تتيح الملاحظات أعلاه القول بأنه يتعين علينا قراءة " البيان " بفكر نقدي تاريخي يرى بأنه من حق كل جيل أن يتصدى للمهام الملموسة التي تواجهه في اللحظة الملموسة، دون أن يتوهم بأن جميع أسئلة الحاضر والمستقبل قد قيلت، وان أجوبتها موجودة في " لوح محفوظ "، وانه يكفي أن تحفظ عن ظهر قلب صيغ الماضي لتجد جوابا عن كل شيء !
رغم مرور 166 عاما على صدورها، فان هذه الوثيقة/ "البيان" التي رفع ماركس وأنجلس راياتها أولا، وبرغم كل الضغوط والصعوبات والنكسات أيضا تبقى قادرة على البقاء، تلهم ملايين البشر مبشرة بقيم الحرية والعدالة الاجتماعية والديمقراطية والمساواة والاشتراكية، وتحفزهم على مواصلة النضال من اجل عالم جديد خال من الاستغلال الرأسمالي المعولم.
وفي ثمانينية تأسيس حزبنا، نستلهم دروس "البيان" فلم تكن لنا، نحن الشيوعيين العراقيين، يوما طموحات مغايرة لطموحات الكادحين وعامة الشعب. لذلك ارتبطت مصائرنا على امتداد ثمانين عاما بمصائرهم تقدما ونكوصا، انتصارا وانكسارا. وكان قادتنا ورفاقنا ورفيقاتنا، كل حين، في المقدمة بين شهداء المعارك المتوجة بالنصر، كما في الطليعة بين ضحايا الانكسارات وطغيان الخصوم والمرتدين. كان نضال الشعب وكادحيه أبدا نضالنا وسيبقى كذلك طبعا.
ورغم كل تلك الصعوبات والأخطار والمحن بقيَّ الحزب مفعما بالعزم على مواصلة الشوط حتى يتحقق الأمل الذي أشاعه نشوؤه ربيع 1934 في " وطن حر وشعب سعيد