مدارات

حين تتضاعف الفرحة بالعيد / حوار - إبراهيم إسماعيل

أبرز ما يدهش المتابعين لتاريخ الحزب الشيوعي العراقي، تلك القدرة المتجددة لدى فتية الحزب، على إعادة بنائه وإعلاء رايته الوطنية والأممية، رغم كل حملات القمع والإبادة التي وجهها لهم الفاشست طيلة تاريخ هذا الوطن المدمى. ولعل من أبرز منابع تلك المقدرة، هذه الطينة التي جُبِل منها هؤلاء، فمنحتهم عناداً على الحق وأصالة في تبني مبادئ الثورة، تلك التي ستنهي ليل الوحوش وتمهد الأفق لولادة مجتمع إنساني حقيقي.
ولم تكن نتيجة تفاعل ذلك العناد مع تلك الأصالة، ثباتاً على القيم فحسب، بل وايضاً تدفقاً متواصلاً للنضرة والحيوية في العروق، وبمستوى يصعب عليك معه أن تجد فرقاً في الحماسة بين الشباب والكهول. ففي غمرة إستعدادات منظمات الحزب للإحتفال بعيده الثمانين، شخص أمامنا مثال جميل، شاهداً على ما نقول، هو الرفيق صادق الجواهري، الذي ولد في ذات السنة التي أشرقت فيها شمس الحزب على العراق، وارتبط بكفاح الحزب مذ كان يافعاً، وتراه اليوم في طليعة النشطاء، ليس لإحياء المناسبة السعيدة على قلبه فقط، بل وفي دعم الحملة الإنتخابية للتحالف المدني الديمقراطي التي يشارك فيه الحزب، مستمداً من شيوعيته فتوة لا تذبل.
كيف ومتى عرفتم طريق الحزب؟

ولدت في النجف لعائلة دينية الا ان الكثير من ابنائها انغمروا في السياسة، فكان الشيخ جواد الجواهري احد القادة المتميزين لثورة العشرين. كنا نستمع بشغف بالغ الى بطولات اهالي النجف في مقاومة السيطرة العثمانية بثورة 1915، وفي مقاومة الاحتلال الانكليزي بثورة 1916 التي تزعمها الحاج نجم البقال. هذه الروايات وقصص البطولة ترسخت في اذهاننا ونحن صغار، وحين اندلعت وثبة كانون المجيدة ضد معاهدة بورتسموث، انطلقنا مع الجماهير في تظاهراتها وإحتجاجاتها، وهو ما تصاعد كثيراً إثر استشهاد ابن عمنا جعفر الجواهري في معركة الجسر. تخرجت من الابتدائية ودخلت متوسطة النجف، وتوطدت علاقاتي بعدد من الرفاق الشيوعيين، وبدأت اشارك في النشاطات والفعاليات التي ينظمها الشيوعيون. انتظمت في عام 1951 في حلقة « مؤيد منظم « لتأهيل الاصدقاء وتأخر ترشيحي بسبب غلق الحزب للترشيح خلال 1951-1953. كنت اكلف بمهمات العضو الحزبي فأسهر الليل بطوله لاستنساخ بيان او جريدة مستخدما القلم القوبية والكاربون، أو الكتابة على الجدران وغيرها. شاركت في أول تظاهرة ايار 1952 تأييدا لأضراب القصابين في النجف، والذي فشلت الشرطة في كسره، وتعرضت التظاهرة لقمع شديد، وجراء مقتل مفوض الشرطة (ابو فائزة) شنت حملة اعتقالات كنت ضمن المعتقلين فيها. وفي اليوم التالي خرجت تظاهرات في بغداد والسليمانية تطالب باطلاق سراحنا وتطوع عدد من المحامين ( لجنة معاونة العدالة ) للدفاع عنا، فيما أعلنا نحن اضراباً عن الطعام. لقد كانت التجربة درساً مهماً لي. بعدها اعتقلت مرة اخرى، إثر إندلاع إنتفاضة 1952، وتمت احالتي الى المجلس العرفي، فحكم علي بالسجن لثلاثة اشهر لصغر سني، وعند خروجي ترشحت للحزب.

ومضيتَ لستة عقودِ في مسار عذب رغم قساوته، هلا حدثتنا شيئاً عن ذلك؟

نعم بعد ترشحي حدث انشقاق راية الشغيلة وراح فيه اغلب قيادات الحزب بمن فيهم سكرتير منظمة النجف، غير إني رفضت الإنشقاق، وفي السجن إنتقلت الى ردهة الرفاق أو ما كانت تسمى (جماعة باسم) والتي كان على رأسها سليم الجلبي وعزيز الشيخ وصادق الفلاحي. خرجت من السجن اواخر اذار لأجد كل منظمة النجف مع المنشقين، فعملت مع أقاربي وبعض الأصدقاء على تكوين نواة منظمة وإلتحق بها رفاق أخرون خرجوا من السجن. لم تمض سوى 3 أشهر حتى إعتقلت ثانية وأودعت سجن الكوت. وبعد مجزرة سجن الكوت، وتماثلي للشفاء، نقلت مع عدد من السجناء الى سجن بعقوبة الانفرادي. وهناك نلت شرف العضوية في الحزب عام 1954. بعد انتهاء محكوميتي سُفرت الى معسكر الشعيبة كجندي، حيث تم فصلي من الدراسة. وكان المعسكر مخصصاً للسياسيين المفصولين من الدراسة او الذين انهوا محكومياتهم. هربت من المعسكر عام 1955 والتحقت بالحزب في بغداد. وبعد ثورة تموز وبحكم عملي في ساحة السباع، تقرر نقلي الى تنظيم المكانيك ثم سحبت وكلفت في مهام البريد الحزبي. بعد الانقلاب المشؤوم وانقطاع صلاتنا التنظيمية، سافرت الى ايران وكنت ضيفا على حزب تودة. وفي 20 حزيران تم ايصالي الى الاتحاد السوفياتي، وصادف ذلك يوم هبوط تريشكوفا من الفضاء الخارجي. أكملت المدرسة الحزبية في باكو وتخرجت بعد ثلاث سنوات، فعدت الى سوريا ورفيقين أخرين لنعود الى الوطن الا ان السوريين بدل ان يوافقوا على دخولنا الى سوريا سلمونا الى العراق. ونظرا لعدم وجود قضية ضدنا تم حجزنا ونقلنا هذه المرة الى سجن العمارة، الى ان تم اطلاق سراحنا بعد إنقلاب 1968. وتواصلت المعاناة، لكنها كما قلتم معاناة عذبة، أشعر معها بالفخر لأنني اخترت هذا الطريق، طريق الدفاع عن الحرية والعدالة، طريق النضال في سبيل قضية نبيلة.

كنت شاهداً ومشاركاً في إنتفاضة سجن الكوت عام 1953، كما ذكرت، والتي إنتهت بمجزرة مروعة، ما الذي فجر الإنتفاضة؟

في تموز عام 1953، أي قبل شهرين من المجزرة، سعت سلطات العهد الملكي، والتي يحلو للبعض اليوم وصفها بالنزيهة، الى تجريدنا، نحن السجناء، من حقوق آدمية أجبرنا الجلادين على الإعتراف لنا بها، فطلبت من السجناء تسليمها عشرة منهم لتسفيرهم الى سجن نقرة السلمان وتسليم مكتبة السجن، التي أنشأها الرفيق الخالد فهد حين كان سجينا في الكوت، وكل محتويات الصيدلية والقيام بتفتيش دوري للردهات. كما أحالت تلك السلطات عددا كبيراً من الرفاق الى محكمة صورية في غرفة مدير السجن المدعو حسين الجاف، والذي عرف بميله للإجرام والقسوة، فإلتأمت «المحكمة» من مدير السجون العام طاهر الزبيدي والمجرم عبد الجبار ايوب مدير سجن السلمان والمجلس العرفي العسكري، وحاكمتهم بتهم غريبة ككتابة المذكرات الأحتجاجية والإضراب عن الطعام وإنشاد أغان وطنية، وأصدرت ضدهم أحكاماً ثقيلة أضيفت الى الأحكام التي كان رفاقنا قد حكموا بها سابقاً. وقد رفضت منظمة الحزب هذه الأوامر الجائرة، ففرض الجلادون حصاراً على السجن في بداية آب ومنعوا عنا الأكل والماء، وحشدوا قوات لإقتحام السجن. إستعد الرفاق لذلك فتكونت فرق للدفاع وأخرى لتوزيع المدخر من الطعام والماء، بما يبقينا على قيد الحياة. وفي 18 اب، وتزامنا مع سقوط حكومة مصدق الوطنية في ايران، فتحت الشرطة النار علينا فجأة فإستشهد الرفيق صبيح مير وجرح عامل المطبعة الرفيق وحيد ثم إستشهد متأثراً بجراحه، وتواصل الصراع فواجه رفاقنا الرصاص الحي بصدور عارية وبطون خاوية، وبالحجارة والمعجال. وأجبر صمودنا الجلادين على التفاوض معنا، وسمحنا لهم بتفتيش الردهات بحثاً عن السلاح الذي زعموا بأننا نخزنه فيها، وحين إفتضحت أكاذيبهم، خططوا لمجزرة رهيبة، ففي الساعة الرابعة فجر يوم 2 أيلول بدأ رمي الرصاص علينا من كل الجهات. القى الرفاق ببطانية مشتعلة على شبكة الكهرباء فعطلوها، واستفدنا من الظلام للأنبطاح أرضاً والزحف للإحتماء بالردهات. أصبنا جميعاً ولم يسلم أي رفيق، وهناك من مزق جسده بأربع وعشرين اطلاقة كرفيق شاب من أهل الكاظمية كان يدعى هادي، كما إستشهد ثمانية رفاق أخرين. الرفيق عبد النبي حمزة ـ من اهالي الكوفة جرح فقتله أحد الجلاوزة رفساً في معدته، والرفيق رؤوف صادق الدجيلي جرح فأجهز عليه شرطي آخروهو جريح.

لعب الإنضباط الحزبي الواعي دوراً مهماً في قدرة الحزب على أن يبقى مزهراً رغم الجراح، هل يمكنك أن تضرب لنا أمثلة على ذلك؟

نعم هذا صحيح، وعلى الأعم الأغلب مثل هذا الإنضباط شكلاً واعياً للإلتزام بقيم نبيلة، ونبع من قناعة بتلك المبادئ الإنسانية العظيمة. وما دمنا نتحدث عن إنتفاضة سجن الكوت، فقد أدركت المنظمة حينها حجم الصعاب التي تنتظرنا، مع قطع الماء في شهر أب! فجعلت من الإلتزام بالمواجهة مع الجلادين أمراً إختيارياً. لكن لم يخرج على قرارها احد بما في ذلك رفاق كانوا حينها في كتلة راية الشغيلة، وغير ملزمين تنظيمياً بقرارات المنظمة!

والى جانب الإنضباط، شكلت الجماهير دوماً سياجاً دفاعياً حول الحزب كممثل حقيقي عن طموحاتها، أليس كذلك؟

بالتأكيد، والأمثلة كثيرة. ففي أيام إنتفاضة سجن الكوت، أوهمت الشرطة الناس بأننا من اليهود المتمردين على الملك، لكن حال ما إفتضحت كذبتهم، حين نقل الجرحى الى المستشفى، حتى هبت الجماهير وطوقت السجن وجلبت الطعام والماء الينا، كما هرعت الى المستشفيات لعيادة ورعاية الجرحى. من الطرائف التي أذكرها عن ذلك، إن الشرطة وقفت على الإسوار وراحت تردد بأصوات عالية شعارات مخالفة لما نهتف نحن والناس به، فإذا قلنا يسقط الأستعمار عدو الشعوب، قالوا يعيش الأستعمار عدو الشعوب! وإذا هتفنا تسقط العائلة المالكة الخائنة، قالوا تعيش العائلة المالكة الخائنة!!

في عيد ميلادك الثمانين لك منا، ايها الرفيق العزيز، كل الأماني بالصحة وتواصل التألق، هل لك كلمة في العيد الثمانين للحزب؟

انه الاصرار على مواصلة المسيرة التي بدأها الرواد الاوائل قادة حزبنا البواسل الذين بذلوا حياتهم في سبيل حرية واستقلال بلدنا وسعادة الكادحين، والذين لم تثنهم عن النضال كل اساليب البطش والارهاب واعواد المشانق. ووفاءً لمسيرة كل شهداء الحزب سيبقى حزبنا ورفاقه مصرين على مواصلة التقاليد الثورية المجيدة تقاليد التضحية والشهامة والقيم الانسانية والذود عن مصالح العمال والفلاحين وسائر شغيلة اليد والفكر. فراية الوطن الحر والشعب السعيد ستبقى مرفوعة عاليا بأرادة الشيوعيين وكل الخيرين من ابناء شعبنا.