مدارات

في المسيرة الثورية، الخطوات الاولى ... شجون.. ومحاكمات عرفية (17) / الفريد سمعان

سحابة من الحزن والألم.. خيمت على المعتقل.. حتى الجدران تكاد تبكي على رحيل القادة الشجعان.. وعلى رأسهم الربان الأول فهد.. الباني العظيم لكيان هذا الحزب العتيد الذي وضع اللبنات الاولى.. وشيد عليها بناء شامخا.. هذا ما تقوله أضواء التاريخ.. واناشيد البطولة.. والسنوات التي نعيشها بكل ما فيها.. من انتصارات وشجون.. وقرابين.. تنحني لنضالها الاجيال.. وبعد تنفيذ احكام الاعدام في 14/2/1949 بدأت المحاكمات، حركة دائبة في المعتقل، صباح كل يوم وفي الظهيرة بعد انتهاء الدوام الرسمي، والاخبار تتسرب عن الرفاق الذين أدانتهم السلطة الفاشية. بعض اللقطات عن مواقفهم، وكانت بكل تفاصيلها تحمل راية الصمود والهتاف في قاعة المحكمة باسم الحزب.. والشعب، وسقوط الدكتاتورية مع بعض المواقف الشيقة التي لا تخلو من الغرابة والتفاهة كما حدث مرة حين اصطف مجموعة من رفاق البصرة في قفص الأتهام وأعلن القاضي الجلاد (النعساني) من رقم (1) الى (3) خمس سنوات. ومن الأسود الى الآخرين سبع سنوات. وهنا سأل الرفيق ابيض القلب الاسود اللون (وانا) فصرخ به الجلاد.. (10) سنوات..
وهذا نوذج كوميدي للعدالة التي مارسها النظام الملكي وسلطة الدكتاتورية التي لم تتورع عن ارتكاب الجريمة الكبرى باعدام القادة الافذاذ، وإصدار الاحكام بالاشغال الشاقة لآلاف المناضلين.
جاء دورنا ونودي علينا الراحل الرئيس غضبان السعد والراحل جلال عبدالرحمن، والمعلم عبد، والفريد سلمان، وحملتنا السيارة المشبكة الخضراء الى المحكمة العرفية في معسكر الوشاش ثم طوقنا قفص الاتهام في مواجهة (النعساني) وبدأ بمناقشة غضبان السعد، مع بعض العتاب، (انت من عندنا) كيف تصبح شيوعيا؟ فأجاب: انني مؤمن بالطريق الذي اسير فيه ثم انتقل الى جلال عبدالرحمن فانكر ذلك، والمعلم عبد فانكر ايضا. ووصل ألي فقلت له انني احب وطني وشعبي وأنكرت انتمائي.. وصدرت الاحكام سنة واحدة لغضبان السعد وسنة لفريد سمعان مع المراقبة لسنة اخرى والافراج لجلال عبدالرحمن والمعلم عبد.
لقد فوجئت بالاتهام الموجه لي ولرفاقي حيث أتهمنا بتشكيل كيان شيوعي سمي (بجماعة الحقيقة) لانها اصدرت جريدتها السرية بهذا الاسم وربما جاءت الاحكام الخفيفة بسبب اعتقادهم (بالانشقاق) عن الحزب الشيوعي ولانه تنظيم بلا رفاق ولا خلايا... ولم يصدر حكم على (كاكا عبدالله) المتهم الآخر لأنه استطاع الافلات من قبضة التحقيقات وضاع بين جبال ووديان كردستان وغاباتها الخضراء.
واعتقد ان سبب إتهامنا بتشكيل تنظيم جديد انطلق من اصدارنا لجريدة «صوت الجماهير» وكان صاحب امتيازها (كمجلة) المحامي الراحل جلال عبدالرحمن وعملنا فيها غضبان السعد وانا وجلال والمحامي كاسب السعد. ولم يصدر منها سوى عددين ثم جرى كبسها وإغلاقها. بعد توقيفي لبضع ساعات في مركز شرطة السراي وغلق الجريدة.
في اليوم التالي حملتنا السيارة المشبكة الخضراء تحت حراسة الشرطة، باتجاه الكوت، شعرنا ببعض النشوة فقد أطلعنا على مرافق وشوارع المدينة بعد حرمان دام قرابة الثلاثة اشهر، كما راودي احساس لم يكن بعيدا عن (الحسد) حيث وجدنا الناس تطل من المحلات التجارية والمقاهي. وطلبة المدارس يحملون كتبهم ويعبثون والنساء يخطرن على الارصفة، وهنّ ينظرن الينا بغرابة فكأننا من شعب آخر رأينا عيونا تنظر باهتمام لا يخلو من الأسى والعواطف النبيلة.. قلت في اعماقي، مازالت الدنيا معنا لن ينسانا شعبنا، لانه يمتلك من الوفاء والاشادة بما نقوم به ونتحمل الالام والاوجاع لكي ينتصر وتتحقق الآمال المضطجعة في القلوب، المترعة بالعدالة والحرية والمستقبل.
وصلنا باب السجن، الذي كان يتوسط المدينة، وقام مأمور السجن بواجبه، سجل الاسماء؛ استلم قرارات الحكم، جرى تفتيش بسيط للفراش والحقيبة، وكيس الطعام الذي حملناه معنا. ثم انفتح باب آخر وسرعان ما تقدم مجموعة من الرفاق حملت حاجياتنا ورحبت بنا باجمل التحايا، وكانوا في الساحة مجتمعين في ثلاثة صفوف واستقبلونا بالتصفيق، وانطلقت الحناجر تنشد بحماس:
هبو يا رفاق حرروا العراق
بؤس شعبنا باعث بنا صدق عزمنا
هبوا يا رفاق حرروا العراق
واستمرت الأنشودة تنطلق من الشفاه المؤمنة بغدٍ مشرق وانتهت يالتصفيق وبكلمة ترحيبية القاها احد المسؤولين وهو العامل النقابي عبدالحسن، وهو من عمال الميناء في البصرة، وقائد الاضرابات التي جرت في البصرة خلال اعوام 1946- 1948 وعضو بارز في التنظيم مع رفيقه (مالك منصور). بعد ذلك القى غضبان السعد كلمة حماسية حيى فيها الرفاق واشاد بالاستقبال الكبير، وهتف للثورة والحزب وقوبلت كلماته بالتصفيق والهتافات، ثم القيت بيتين من الشعر. وتم توزيعنا في القائمة الكبيرة في مكانين منفصلين، وكان بجواري جليل كمال الدين والشاعر عبدالحسين جليل ويوسف حنا (تنظيم الموصل) وسلطان ملا علي.
كانت ساحة السجن تتكون من قسمين يفصل بينهما ممر يؤدي الى المرافق الصحية، كان اعضاء الحزب الشيوعي يشغلون قطاعا كاملا وفي الجانب الآخر كان داود الصائغ مع بضعة مناضلين من رفاقه بينهم صادق الفلاحي وعبدالامير عباس وهما من قادة نقابات النسيج والسكك، وكان هنالك سجناء من الحزب الوطني الديمقراطي منهم المحامي العنيزي من البصرة، واعضاء من حزب الشعب. كما كان هنالك عدد من اليهود المتهمين بالصهيونية، وبعض السجناء في جرائم غير سياسية.
كان الوضع مستقرا الى حد كبير، وهنالك تعاون بين ادارة السجن وممثل السجناء الشيوعيين الا ان ذلك لم يمنع من ظهور مشاكل حول التجهيزات الغذائية، التي اعتادت ادارة السجن، وكل السجون العراقية من اقتطاع جزء منها لحساب المدير ومساعديه بالاتفاق مع المتعهد، وكان كل خلاف يواجه بالغضب المشروع بقراءة النشيد، وكان ذلك تهديدا حقيقيا، لأن أهل المدينة، وكان عدد كبير منهم يتعاطف مع المناضلين ضد النظام الملكي واصداء النشيد تتعالى. يدركون ان قراءة النشيد دليل على وجود مشكلة مع الادارة لاسيما في الليل حيث تهدأ الحركة نسبيا مما يساعد على وصول مقاطع النشيد الى مسافات بعيدة، وكان ذلك يشكل حرجا كبيرا لكافة اجهزة اللواء (المحافظة) من المتصرف الى مدير الشرطة الى بقية الاجهزة الحكومية المسؤولة عن الامن وحفظ النظام.
وكان رد الفعل هو اجراء تحقيق مع كافة السجناء او معظمهم وتقديمهم للمحاكمة. وقد بلغ السيل الزبى في بعض الاحيان كان هنالك الرفاق عبدالجبار شوكت- طالب الهندسة، ورشيد بكتاش طالب الحقوق ووجدي شقيق عبدالجبار، وصلت احكامهم الى عشرين سنة نتيجة قراءة النشيد. وكانت لحكامهم في البداية خفيفة.
كان النهار يبدأ بالرياضة، ثم تناول الفطور وكان غالبا ما يكون شوربة عدس، هرطمان، والغذاء صمون مع المرق، واحيانا التمن، والعشاء شوربة او بعض المواد اليابسة وهذه تعتبر امتيازات ونوعا من الترفيه وكان المخزن والمطبخ اشتراكيا بحتا.، حيث تسلم المواد التي يأتي بها الأهل الى المخزن، باستثناء السكائر والادوية والملابس الداخلية بشكل خاص، واحيانا يتم تسليم بعضها للمخزن لتغطية حاجة الرفاق الذين لا تزورهم عوائلهم لشتى الاسباب.
وبعد بضعة اشهر من وصولنا الى السجن، اصطفت بضعة باصات خشبية ونقلوا الاغلبية الساحقة من الرفاق الى بغداد والى معسكر في ابي غريب. ولكن ليس في نفس الوحدة العسكرية وزرعونا في زنزانات كانت اصطبلا وقسمت وكانت الارضية من التراب، وبدون اضاءة، والحشرات كانت تلعب في الزنزانة ولا يعرف المرء من اين تأتي وكيف تتسلل ولم يكن معنا اية اغطية، او مفارش، والطعام خبز وعند الصباح نقلونا الى المجلس العرفي العسكري. ونالني من هذه الرحلة ستة اشهر سجن اضافية لقراءة النشيد، وفي اليوم الثاني أعادونا الى الكوت وتأخرت بنا الرحلة فوصلنا اليها ليلا، وكان الاتجاه نقلنا الى مركز الشرطة. وفي الصباح يأخذوننا الى السجن. فرفضنا ذلك وبعد صراع بدأنا بقراءة النشيد الذي حوكمنا من اجله وتعالت الاصوات، وجاء مدير الشرطة مع مجموعة من الشرطة، ودارت معركة كنا فيها نقاوم ونحن مقيدون وتعرضنا للضرب باعقاب البنادق والعصي واعواد الخيزران، وبعثروا بعض ما كنا نحمله، من اشياء بسيطة وانقضت الليلة.. بالنوم ونحن نتكئ على سواعدنا او الجدران وعلى وجوهنا وايادينا والدماء التي سالت نتيجة المعركة.