مدارات

رموز كانت لنا صفوفا في مدرسة واسعة / جاسم عاصي

لا شك أن مدرسة الحياة أوسع، ومدرسة السياسة أكثر سعة، ثم مدرسة الحزب أعمق وأثرى، لذا كان من معلمي ومدرسي الحزب خير عناوين يمكن الاستدلال بوجودهم النابع من رحم الذاكرة والمكلل بالقيّم الأصيلة، ولعل حكاياتهم خير ما يُسري في النفوس عذوبة الحياة، وقدرتها على التنامي والتجدد، فحكاياتهم خير تذكرة للدخول إلى الحياة المضطربة الآن والتبصّر بالصبر والتأني في رؤية المستقبل، من هنا ارتأيت في الذكرى المجيدة لولادة الحزب أن أستذكر من كان لهم فضل في صقل شخصياتنا، ووضعها في الموضع المناسب من حراك الحياة، فمنهم من عايشناهم والآخر من سمعنا عن أخبارهم وحكاياتهم من الثقاة الذين لا يهمهم في رويها سوى الحقيقة، والحقيقة وحدها.

الأخلاق وصيغها

وخير ما أستهل به ورقتي هذه هي حكاية الرجل الذي صعد إلى حبل المشنقة هاتفاً: "الشيوعية أقوى من الموت وأعلى من حبل المشانق"، إذ يروى إن (يوسف سلمان ـ فهد) بعد عودته من موسكو، وبأمر الحزب كان وجوده في مدينة الناصرية، حيث كان في بداياته مستقراً في بناية قرب ضفة نهر الفرات عاملاً مثابراً. وكان يسكن في بيت، وحصراً في غرفة ما يسمى صحن (الدرج) أو السلّم في البيت، وهو مثابر على قراءة رأس المال، وقد استغرق منه هذا ستة أشهر، بعدها وبأمر من الحزب انتقل إلى بغداد، وفي يوم بوقت العصر، حيث كانت العائلة العراقية قد اعتادت على تهيئة مراسيم شرب الشاي وأكل (البقصم) وهو نوع من المعجنات، ذكرت احدى الحاضرين من أن فتاة في الناصرية تسأل عنك، وهي تخاطب (فهد) فاستغرب من ذلك، وذكر أنه لم يتعرّف على فتاة هناك، وأكد القائل؛ بلى انها كانت تعيش معك في نفس البيت! لكنه استغرب أيضاً قائلاً: صحيح أني كنت أعيش في بيت، لكني لم يسبق لي أن التقيت بفتاة داخله طيلة الستة أشهر التي بقيت فيها. غير أن القائل استدرك: تلك التي كانت تجلب إليك الشاي؟! قال: أنا لم أر الفتاة، بل كنت أرى قدح الشاي (الاستكان) فإذا كان ممتلئاً أدرت فيه الملعقة، ثم أشربه على دفعات، وإن كان فارغاً تركته حيث هو، غير أني أراه في كل مرة ممتلئاً، وكان يحتوي شاياً لذيذاً، ربما انتبه إلى قوله الجميع، وهو يقول: ربما كنت أرى كفّ الفتاة، ولكن لم أسأل نفسي من تكون؟، بقدر ما كان يشغلني الكتاب والشاي، فما كان من كل واحد منهم الا أن استلم درساً في الأخلاق الشيوعية، وربما قال الجميع مع أنفسهم مرددين قوله المأثور: الشاي خمرة المناضلين.
ولم يبعدني الزمن طويلاً، لكي تكون لي الأيام خير راوية تلقي بحمل مروياتها على مسامعي، فقد عشت تجربة وأنا في مستهل وعيي السياسي وحصراً عام 1961، ففي يوم داهم بيتنا في البصرة، وحصراً في أزقة محلة (السيّمر) رجال الأمن، وعاثوا في البيت للبحث عن خالي الهارب إلى بغداد بعد خروجه من المحتجز في جلولاء، من (القلعة الحجرية) كما كانت تسمى، وهي ثكنة عسكرية استغلت لحجز المناضلين، وأذكر أني رأيت فيها المناضل (كامل قزانجي) قبل استشهاده، والمطرب (يوسف عمر)، بعد التفتيش اقتادوني إلى دائرة الأمن الكائنة في نهاية شارع الجزائر، وكان المفوّض (فاضل أسوّد) وضعونا في غرفة هي في الأصل كراج مرفق بالبيت وكان فيه رجل فارع الطول وآخر قصير القامة أشيب الرأس، لم يتكلم أحد، بل أن الصمت كان ملازماً لنا، ولكن بعد الاستقرار بدأ الكلام، فعرفت أن الرجل طويل القامة ذا البدلة (السراوين) كان يسمى (جليل) وهو مسؤول نقابات عمال البصرة، والآخر من الناصرية، حيث سألني عن أخبار انتخابات نقابة المعلمين آنذاك وما جرى لـ (خليل الفخري) وبقية الطلبة الذين اندمجوا مؤيدين ومدافعين عن القائمة المهنية، بعدها اقتادوا (جليل) وما هي إلا دقائق، حتى ترددت على أسماعنا الحركات غير الموزونة، وحصراً في الغرفة التي تشكّل سقفاً لنا، كان التعذيب مستمراً معه، وحين عاد كان قد عدّل من هيئته واتخذ له مكاناً قريباً منا، ولحظتها استدعينا معاً إلى القاعة الطويلة التي اكتشفت سعتها وأثاثها، حيث كانت مجهزة بعدد من الطاولات وخلف كل طاولة كرسي يجلس عليه محقق، بينما المتهم يقف أمامه.
كنت في الطرف البعيد عن طاولة الضابط الذي يحقق مع الرجل القصير الأشيب، ومن كثر الكلام وتداخله عرفت أن الشخص يمت لـ "فهد" بصلة قرابة، وتبلور ذلك أن ذكر بأنه (عم) الرجل الذي عرفت أنه يكنى بـ (سليم) وهو ابن السيد (داود) الموظف المسؤول عن دائرة الماء والمجاري في الناصرية، عندها اندهش الجميع لما يقوله، وأخذوا يلّحون بالأسئلة ليتأكدوا من صحة ما يدعيه بهذه القرابة، وأذكر أن أحدهم بعد أن اجتمعوا مع المحقق الذي يجري التحقيق معه، بأن حملوا كراسيهم وتحلقوا حوله؛ أن قال: (وهل أن فهد عمك اللّح) ويقصد هل هو فعلاً أخو الأب، فقال (نعم أبي داود أخو فهد من أم وأب) عندها حملقوا جميعا للكائن الذي هبط عليهم من جرم بعيد، طلبوا منه الحديث، لكنه راوغهم، بأنه لا يستطيع الوقوف بسب إصابته بمرض الروماتزم، فما كان من أحدهم إلا أن قرّب له كرسياً بعد أن مسحه بكمه، جلس وراح يسترسل، سألوه عن الكيفية التي أسس بها عمه الحزب الشيوعي، كان حديثه حديث معلم استغل الفرصة ليلقي الدرس على تلاميذه، وعليّ كان تأثيره كبيراً، إذ كيف كانت الصدفة الجميلة أن ألتقي في آن واحد وأنا الفتى مع (جليل وسليم) هو ذا الدرس البليغ الذي أفعم وجودي بالأخلاق الأصيلة.

الدرس الآخر البليغ

وهو مع وجود شخصية فاعلة ومهمة في المدينة، وهي شخصية الشاعر (زهير الدجيلي) ومن رافقه، وعليّ أمر رويها كما تركت في نفسي من بلاغة سياسية واجتماعية. إذ كيف اجتمعت في شخصه الصفتان.. الشاعر والمناضل.. ثم الإنسان الكبير؟ سؤال لا تـُجيب عليه سوى طفولتنا التي نمت مع بواكير ثورة تموز، وترعرعت مع مشاهدات يومية، كانت لنا أمثلة للتربية الإنسانية، كنا أجـنـّة نتهجى السياسة في مدرسة واحدة، هي الشارع الذي يعج بالكرنفالات، والمكتبات التي تسوّق الصحف والمجلات والكتب (مكتبة جبر غفوري، مكتبة طاهر غفوري، مكتبة الوعي الوطني) وكل منها ترفد الجيل الناشئ بما يساعده على رفع وعيه، فالأهالي يوزعها جبر غفوري وبقية الصحف، وطاهر غفوري لا يختلف عنه في عرض الجديد من المطبوعات، لكن مكتبة الوعي الوطني توزع اتحاد الشعب والإنسانية والحضارة، ومن يديرها؟ إنهما (كاظم شناوة وزهير الدجيلي) وثالث لا أتذكره من سوق الشيوخ، الأول مناضل ومن عائلة مناضلة، برز من أفرادها أبو نصير الذي لم نره إلا في المناسبات العائلية، فقد استوطن في كركوك، وشاكر المصوّر حامي الهدف المشهور لإحدى الفرق الرياضية، لنادي الفتيان. وماجد شناوة الفتى المتحمس، والأب ذو المنطق المقنع على سجيته والأم التي بذلت ما تستطيع لمساعدة أولادها في نضالهم وأختهم كذلك. ثم زهير الدجيلي المنحدر من عائلة مناضلة أيضا ً، فالأم شاعرة بليغة، سمعتها أكثر من مرة وهي تحيي نضال الإنسان العراقي في كل الأزمنة، تلك المرأة المعتمرة عصابتها وشيلتها. وسعد الدجيلي مناضلا ً ومثقفاً من الطراز الأول. كذلك فاطمة المحسن ومآثرها الفكرية لاحقا ً وآخرين من أسرتهم الكريمة لا تـُسعفني الذاكرة على تذكرهم.
من هذا الرحم كانت زاوية نظرنا تراقب الشاعر المناضل، وما اكتسبنا منه سوى البحث عن المعارف التي صاغت شخصيته وطوّرتها بهذا الشكل الذي كان لنا مثلا ً نقتدي به ونتذكره، لاسيّما مواقفه المبدئية التي لم تحد عن طريقها؛ صَعُبت الحياة أو لانت. فهو العنوان واللوحة التي يمكن وضعهما على غلاف كتاب الحياة، ونشيد يمكن ترديده في المناسبات. يمكننا أن نتباهى بمصادر نشأتنا، وهو حق لنا نحن جيل الثورة، الذين لا يقدمون بفعلهم الحسي الآن سوى من أجل عكس الوفاء للسابقين، ليقولوا للملأ.. نحن لم نترعرع سوى في حاضنة كبيرة ونقية حرّصت على أن تنشئنا على الطريق الصحيح، لا بالقسر، وإنما بالمثـَل من الفعل والسلوك الحقيقي.
كنت صغيرا ً بجسدي، لكني كبير بعقلي، فلا أشتري صحفا إلا من مكتبة الوعي الوطني، وهم لا يعرفونني. ربما حسبوني ملبياً طلب أبي أو أحد غيره. ولكني كنت مطمئنا ً بأني ألبي نداء نفسي التواقة للمعرفة والمشاركة، لذا تجدني في مقدمة المظاهرات وهي تطوف شوارع المدينة، تحت رايات ولافتات مرفوعة بوجه الفضاء الواسع، الصفوف المتراصّة والحناجر الهاتفة، فقد كانت تضج بهم، والشوارع تمتلئ فخراً بأبنائها البررة، ونحن نندّس بين صفوف الكبار ونهتف، ونسعى لأن تكون قاماتنا بموازاة قاماتهم، اليوم أو بعد غد. كانت هذه بمثابة رعاية غير مباشرة لنا من لدنهم. كان الركض والجري بين صفوفهم يطول، لأن السير يتواصل على وتيرة مستمرة، وأنا أتنقل من هنا إلى هناك، ربما كنت أحاول أن أعرّف نفسي لهم وخاصة (الدجيلي أو كاظم شناوة) بأني أنا الذي أشتري الصحف من مكتبتكم، ها أني أتظاهر معكم، كانت الصحف لي وليس لسواي، أشتريها لأقرأها وأتعلم منها. ولحظة تستكين المظاهرات في نهاية المدينة، وقرب مدرسة الشرقية تبدأ الكرنفالات تتغير، ويأتي دور الكلمات والخطابات والجميع يُصغي، وبين لحظة وأخرى يهتف الجميع ويصفق لذكر اسم أو تاريخ. وأنا مبتهج لذلك، وأحسب نفسي جزء منه، أشارك الدجيلي تظاهره، معتقدا ً أن قامتي بدأت تـُفرّع وتتسامق وسط أجواء صحيحة.
كنت أراقب كل ما يًستجد، ولم يبهرني أي منظر وقتها، بقدر ما يملؤني فخراً، سوى ارتفاع قامة (زهير خزعل الدجيلي) بنظارته المتميّزة، وهو يُلقي شِعرا ً يُلهب به مشاعر الجمهور، وبمقابله كان رجل ترفع قامته على الأكتاف يعمل بمحل لكوي الملابس في وسط المدينة اسمه (فرحان) وهو نفس الرجل الذي أسس (قرية فرحان) في طرف المدينة غير المسكون، والذي غدا لي مادة روائية تحت عنوان (الداخل والخارج) حاولت أن أسطر حكايات هذه المدينة وأخبار الرجل النادرة، بما يُتيح لي التعبير عن حقبة زمنية مرّة وقاسية في تاريخ العراق.
وتتوالى السنين، وأعرف بعض الشيء عن الحياة والسياسة، عرفت (سعد الدجيلي) مباشرة، وما كانت تـُنسج عليه من قصص وحكايات تعكس شخصيته الدائرة بين الجد والسخرية الناقدة للأوضاع السياسية وعرفت والدتهما وأنا أصغي لما ألفته من شعر بليغ، ثم عرفت عنها قصصا ً لا تزيد من شخصيتها إلا أرثا ً مشرفا ً لنموذج المرأة العراقية المناضلة، فهي أم المناضلين بحق.
زهير الدجيلي.. عذرا ً فقد تركت ذاكرتي المتواضعة تنهل من بعض تاريخك المشرّف، فأنا تلميذ صغير في صفك، لكني بسعي منك ومني ومن الآخرين كنت الذي أنا عليه الآن في اصطفافي مع النخبة الطيبة من العراقيين الذين لا يهدرون تاريخهم هباء، تعلمت منك البساطة والعمق والصبر. لا أدري كيف كنت أترجم ذلك بعقلي الصغير. كل الذي أعرفه أني كنت عبارة عن عجينة صلصال بيد نحات ماهر. قد تكون أنت النحات الأول، ولكن لست لوحدك فهناك (السيد وليد، فؤاد مكَطوف، كاظم شناوة، حسين السيد فليح اليعقوبي، خالد الأمين، طعمة مرداس، خيري، عبد الله، سليم ابن داود أخو فهد، حميد غني، خالد غني) كثر من كان على شاكلتكم في الصفاء والنقاء ، تربينا في مدرستكم وصفوفكم وتلقّنا الحكمة الأزلية التي رسخت في أذهاننا: أن نحافظ على تاريخنا، ولا نـُبدد صورته النقية لهذا السبب أو ذاك . وها أني ألاحق شخصكم الكريم ، وأتطلع إلى اللحظات التي تقول فيها أبلغ الكلام وعلى نحو (الله يا هل الوطن شمسوي بي احا / نيرانه مثل الثلج / أرجف وأكَول اشاه / واللـّي يضيّع وطن وين الوطن يلكَاه) وعذرا ً أني لم أصفف أبيات القصيدة بشكلها الحقيقي.

الخارج من معطف اليومي

من يكون غيرك يا (طعمة مرداس) سمعت عنك كثيراً أول الأمر، لكني ليس بمثل ما جالستك وعرفت سر كل ما كان يُقال عنك وما يتناقل حولك من أخبار. فكل الذي سمعته اجتمع في لحظات لقائي بك في دكان الحلاق (وهاب) في سوق الشيوخ. كنت تجلس هادئاً، لكنك متفحصاً كل ما هو موجود، تتميّز بالحذر والترقب، كأن ما مرَّ بك علّمك السلوك هذا. كنت دقيقاً في نظرك، لا يخرج منك الكلام إلا بعد أن يمر بفلتر الرقبة الطويل كما قال الإمام علي (ع) ولا تعلّق على الحدث إلا بعد أن تسمع مجمل الآراء والانطباعات، وحين يحين دورك تُدلي بما يمثل وجهة نظرك التي تحكمت بأسسها من لَدِن الحزب. الكل يصغي بعد انتظار من أبي مرداس أن يُطلق وجهة نظره، وكلهم استيعاب للرأي الصحيح.
تقترب الآراء ولا تبتعد إلا قليلاً. لأنها نابعة من أصل واحد. كان جمعكم طيباً، وجلستكم محفوفة بالعمق والبساطة أنت و(عطشان ظنون، عزيز العرب) ومن يجلس على كرسي الحلاقة مشاركاً في الحديث، فكتابكم مفتوح للجميع. سمعت كثيراً عن أخبارك، ولم يذهلني أنك تجلس في سوق الخضار أمام مجموعة من فصائلها لتبيعها بأبخس الأثمان، لكنك تؤمن بغناها وقدرة مردودها المادي في ما يوفره لأفراد الأسرة. كنت أراك وأنت تقود أطفالك، متذكراً اعتراض البعض قائلين: على كيفك أبو مرداس؟! فتقول: إنهم يعوّضون ما خسره الشعب من أبنائه. هي ذي الحكمة التي تعلمتها منك، بل من سلوكك العفوي المفعم بالفكر وحكمته في الحياة.
الهدوء غير المفرط

كنت أراه يأتي في الوقت المبكر إلى مقر الحزب، متجهاً إلى السلّم الذي يقوده إلى الطابق الثاني، يدخل غرفته ولا يخرج منها إلا في الصباح لإنجاز عمله الحزبي. لا أعرفه إلا بـ (أبو كريم) وسيم ذي شعر سرح، وعينين كليلتين، لكنها عميقة الفحص للآخر. هكذا عرفته وشاهدته أثناء وجودي ضمن من يستلمون الخفارة الليلية في مقر الحزب، وأثناء النهار ونحن نعمل في المكتب الصحفي.
وما عرفته عنه في ما بعد وقد حرره الأخ (عدنان الرفاعي/أبو عصام).. أنه من منطقة قريبة من ناحية الفجر في الناصرية في قضاء الرفاعي. وفي البادية الممتدة بين الناصرية والديوانية والسماوة. كانت تلك المساحة التي يتحرك فيها ذك الفتى وهو يلتقي بعدد من الفلاحين الذين كانت لهم خلايا تنظيمية ضمن صفوف الحزب الشيوعي العراقي، حيث التقى بواحد من هذه المجاميع الصغيرة حتى استهوته، وبدأ يتعايش معها حتى انتمائه إلى صفوف الحزب. تعلم القراءة قبل الكتابة. كان يعمل في مجال الفلاحين حيث يصل إلى أعماق الريف في مناطق الرفاعي والشطرة وحتى تخوم الأهوار ومفازات الصحراء. كانت له عائلة تعيش تحت خط الفقر تماماً.
كان ملتزماً بتعاليم الحزب، وخاصة بأوقات الاجتماعات. وكان له تاريخ طويل في النضال. وكان آخر من ترك المقر في الناصرية بعد الهجمة في عام 1978 لكنه أخذ يلاحق الخلايا والتنظيمات، ولملمة شتات تنظيمات الحزب إلى أن اعتقل إثر وشاية عنه. وبقي تحت التعذيب القاسي، لكنه لم يذكر سوى عبارة واحدة همس بها في أذن أحد المعتقلين، طالباً إيصالها إلى عائلته إذا ما استشهد: (انني أبو كريم رفيق شيوعي من الناصرية) إذ تعرّض إثر التعذيب توقف الكليتين. إنه (أبو كريم) كما كان يعرفه الجميع، لكن اسمه (مزهر هول راشد) عاش مناضلاً ومات مناضلاً باسلاً.
ألم يكن كل ما ورد دروساً سطّرتها تلك الرموز، فاستحقت أن تكون مجموعة من العِبَر المفعمة بسر الحكمة السياسية والاجتماعية. وما ذكرها في هذه المناسبة الثمانين لولادة الحزب، إلا حرصاً على مفردات تاريخه المشرّف المجسّد في رموزه المناضلة، وهي صفحات من كتاب يتضمن تاريخ الحركة الوطنية العراقية.