مدارات

مع المسيرة الثورية.. الخطوة الأولى .. صمود شيوعي.. وتقاليد (20) / الفريد سمعان

تتوالى الايام، عام 1949 يتابع بعضها البعض الآخر.. الشمس تحط باضوائها على سفينة الليل، الرياضة، الفطور، ثم الانطلاق الى الدراسات المختلفة، باستثناء خفراء المطبخ والتنظيم وبعض المتعبين صحيا. وهنا لابد من الاشارة الى ان السجن لم يكن لديه طبيب خاص او عيادة، بل كانت هنالك (زاوية صحية) تضم طبيبا وبعض الموظفين الصحيين وكانت بعض الحبوب الضرورية، تأتي بواسطة الاهالي او بناء على طلب ممثل السجناء من الادارة. كما كان هنالك بعض المرضى بامراض مزمنة وتتدبر احوالهم بواسطة العوائل.
بدأ السجن يضيق بمن فيه.. وتقدمنا بطلب للادارة باخلاء مخزن السلاح الكائن في وسط السجن، ولم يكن فيه اي سلاح، وكان عبارة عن غرفة واطئة الجدران يتم النزول اليها ببضع مدرجات، وتم اختيار ثلاثة عشر رفيقا للرقاد فيها وكنت واحدا منهم. وكان الرفيق سلام عادل معي، وتم ترتيب النوم متجاورين بناء على رغبتنا، وكان الباب (الحديدي) يغلق من مطلع غروب الشمس ويظل على حاله حتى بزوغ الفجر والفانوس كان الضوء (الساطع) الذي تضج به الحجرة الوارفة الظلال! والدرجات، ولم يكن هناك سوى الحوار، والنقاش والقاء النكات واحيانا طرح احدى المسائل السياسية وابداء الآراء. وكانت انتصارات الصين بعد الزحف العظيم الذي قام به ماو تسي تونغ في وجه قوى العمالة بقيادة (شكان ين شنغ) حيث كان الثوار يكيلون الضربات ويحتلون المواقع ويكتسحون المدن بشكل مذهل.
الليل طويل، في (قمقم) كالذي نحن فيه والرفيق سلام عادل، كان يمتلك قدرة لذيذة على التعبير ونقل اللقطات الابداعية. ويركز على الجوانب الشيقة في قراراته الادبية، وبعض الذكريات عن الأدباء والشعراء العراقيين. وكان الحوار يستمر لساعات حتى تلتهمنا امواج النعاس، ونغرق في النوم، بعد ان يكون تولستوي وغوركي والجواهري وناظم حكمت وايلوار قد شبعوا من اجلالنا لهم ولعطائهم الفكري الكبير.
في التقاليد التي وضع حجرها الاساس الرفاق في كافة السجون باستثناء، المخزن الاشتراكي المركزي، والاستماع للدروس والمحاضرات في شتى المواضيع، والمركز الصحي هو الاحتفال بالمناسبات الكبرى، وكانت الاحتفالات لا تتضمن القاء المحاضرات والقصائد والكلمات وربط ذلك بنضال الشعوب المستمر، المتواصل مع المستجدات في هذه الميادين بل بتوفير وجبة (مستثناة) حيث يقدم الرز مع اللحم، وبعض الحلويات عند توفرها وكانت أبرز هذه المناسبات، ثورة العشرين وانتصار ثورة اكتوبر، وعيد تأسيس الحزب ووثبة كانون وانتفاضة تشرين. وقد ساهمت بالقاء بعض القصائد او ارسلها مع احد الرفاق الذي ذهب للعلاج في مستشفى الديوانية وكانت مكتوبة بخط صغير على (ورق لف السكائر) وقد ضاعت هذه القصائد حيث الرفيق ذكر انهم تعرضوا للتفتيش فاضطر الى (بلعها) والتخلص منها لكي لا تكون مبرزا جرميا. ولم يؤيد احد من الذين رافقوه في هذه الرحلة كلامه.
كانت هنالك زيارة (هيئة طبية) للسجن واجراء الكشف على السجناء، واذا كان هنالك مرض يلزم علاجهم ونقلهم الى المستشفى او أخذ اشعة، او حالة خاصة يقررون نقلهم الى مستشفى الديوانية، وكانت هذه احدى الوسائل التي يتمتع بها السجناء بلقاء اهاليهم، وكان بعض الاطباء طيبين ويتعاطفون مع السجناء ويقررون ارسالهم كشكل من اشكال الترفيه، واذكر اني تمتعت بهذا الامتياز ووصلت الديوانية وجاءت المرحومة والدتي مع شقيقها ولكن (المواجهة) لم تدم اكثر من ساعة بأمر من مأمور المركز الذي استكثر علينا الوقت. لعنة الله عليه لاسيما بعد ان قطعوا اكثر من ثلثمائة كيلو متر للوصول الينا. وهذا رصد لبعض المواجع والعذابات التي كانت تتعرض لها العوائل، والسجناء في وقت واحد.
ومن التقاليد، ايضا، توديع السجناء الذين تنتهي محكومياتهم حيث تقام حفلة على (سطح) المخزن الذس أشرنا اليه وكنا ننام فيه ويجتمع عدد من الرفاق قادة التنظيم، مع الرفيق الذي سوف يغادر السجن في اليوم التالي. واكثر من رفيق ممن يمتلكون صوتا جميلا، ويدور الحوار، الذي كان يجمع الجد، بالفرح والاختناق بالحرية، وواجبات الرفيق بعد المغادرة وتعليقات طريفة من هنا وهناك، وكنت احد الذين (يغنون) في هذه المناسبات فقد كنت امتلك حنجرة لابأس بها، واحفظ اغاني عبدالوهاب وفريد الأطرش وليلى مراد وفتاة دمشق. ولكن السكائر والمصائب (هرست) صوتي ولم تسمح لي بان اكون مغنياً لامعاً.
مع كل ما ذكرت في تلك الحقبة، قمنا ببعض الاضرابات عن الطعام ارغمنا فيها السلطة على تلبية مطالبنا وكان الحزب يدعمنا بتظاهراته وبياناته واتصالاته مع الاحزاب الوطنية والصحافة التقدمية.