مدارات

صعود الطبقة الوسطى وانحدارها / مظهر محمد صالح

الأنموذج الديناميكي الموجب

على الرغم من ان تاريخ الطبقة الوسطى في العراق ينتمي الى ولادة الدولة العراقية عام 1921 وانها تدين في نشأتها الى انتشار المدارس النظامية والمعاهد العالية وتطور الصحافة ونمو الجمعيات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والتحاق المتخرجين بالوظائف العامة، فضلاً عن استبدال طبقة (الافندية) ذات الثقافة العثمانية بشيوخ العشائر وملاك الاراضي (وشبه) الاقطاعيين والتي جاءت بفعل عوامل خارجية وعوامل داخلية، يذكرها الكاتب صلاح حسن الموسوي في دراسته الموسومة (دور الطبقة الوسطى في العراق) المنشورة في (صوت اليسار العراقي 2009)، وهما: شخصية الملك فيصل الاول وتغير منطق السياسة الدولية بعد الحرب العالمية الاولى، ونجاح الثورة البلشفية في روسيا وتاثيراتها على الشرق والمبادئ الاربعة عشر للرئيس الامريكي نيلسون التي اعلنها في خطابه امام الكونغرس في 18 كانون الثاني 1918 والتي ركزت على اعادة بناء السِلم والامن الدوليين وجاء من بينها تركيزه على اهمية إعطاء الشعوب غير التركية حق تقرير المصير وتوفير حرية الملاحة ومرور البضائع، وما سوى ذلك. هذه العوامل جميعها، كما يقول الموسوي، غذت نشوء الطبقة الوسطى التي اتحد بزوغها مع تعاظم التعليم ونشوء البرجوازية الوطنية (السوق الوطنية) التجارية والصناعية التي كان مطلبها الاساس هو الاشتراك في السلطة وعدم اقتصاره على ابناء الطبقة الاقطاعية المتمثلة بشيوخ العشائر والشريفيين من العسكر وابناء العائلات الثرية ممن تلقى تعليمه في الاستانة او الغرب.
كان التحول نحو نظام السوق كما يقول المفكر الراحل حنا بطاطو في تحليله للطبقات الاجتماعية في العراق، جاء بسبب تركز الاراضي بيد عدد محدود من شبه الاقطاعيين الاثرياء ليقوموا بتأدية وظيفة أخرى هي حفظ النظام، مما سبب انهيار نظام الاكتفاء الذاتي لجموع الفلاحين بسبب شدة الاستغلال وحصول هجرة واسعة من أرياف العراق الى مدنها وتعرض المجتمع الزراعي الى افتقار بشري شديد ليصب في مصلحة المدن والعمل في قطاع الخدمات والانصهار بالطبقة الوسطى تدريجيا، بل العمل على نشأتها.
من اللافت ان بطاطو في موسوعته في دراسة المجتمع العراقي الحديث افلح بمنهجيته التي جاءت مزيجاً من الفيبرية والماركسية كما يقول استاذ الاجتماع ابراهيم الحيدري في مقاله الموسوم (حنا بطاطو وتحليل الطبقات الاجتماعية في العراق)، إذ يستنتج الحيدري ما يأتي: بالاضافة الى هرمية الثروة [. . .] فهناك هرمية دينية وهرمية عشائرية وطائفية الى جانب هرمية السلطة والمكانة الاجتماعية، إذ شّكل مُلاك الاراضي في بداية الدولة الحديثة (طبقة بذاتها)، ولكنهم تحولوا في اربعينيات القرن الماضي وخمسينياته الى (طبقة لذاتها) واخذت تدعو لنفسها سياسياً ازاء ظهور الطبقة الوسطى التي اْخذت تنشأ وتنمو وتنشط مع تزايد سكان المدن وارتفاع القاطنين في بغداد الى اربع مرات بين العام 1922 وحتى العام 1957 خصوصاً بعد تحلل العشيرة الاقطاعي وتدفق الريع النفطي الذي اسهم في تفكك الهرمية الريفية، والتحول نحو اقتصاد السوق التجاري والصناعي واندماج الزراعة تدريجياً بقوة الاسواق المتنامية في المدن والحواضر، كما ان انتشار التعليم والصحة والطرق والمواصلات ساعدت على ولادة قوة اجتماعية جديدة هي الانتلجنسيا او المثقفين التي تطورت لديها عوامل إيديولوجية كالروح القومية او الارتباط بالشعور الاممي او الديني، فضلاً عن توافر قدرة منظمة في التعبير عن آرائها، مما ساعد على صعود الطبقة الوسطى وفقدان الطبقة النافذة (من مُلاك الاراضي والاقطاعيين وغيرهم) مواقعها لمصلحة الطبقة الوسطى. ومن هذا يُستدل أن الاهمية الاساسية للطبقة الوسطى ودورها التاريخي يأتي من كونها طبقة انتقالية تلتئم فيها مصالح فئوية او طبقية مختلفة، وان دورها التاريخي كما يقول استاذ الاجتماع لطفي حاتم في دراسته الموسومة (الطبقة الوسطى ودورها في خراب الدولة العراقية)، منوهاً بأن دور الطبقة الوسطى التاريخي في العراق اكتسب اهميته بسبب غياب الدور الفاعل للطبقتين البورجوازية والطبقة العاملة، فضلاً عن ضعف الفاعلية السياسية للطبقة العمالية الناتج عن مواقعها الاقتصادية الضعيفة بسبب نموها وتطورها في قطاع الخدمات.ويرى حاتم أن اشتراط نمو راس المال البريطاني وتوسعه تطلب توافر دولة بكونها الرافعة السياسية والاجتماعية القادرة على حماية المصالح البريطانية. ولم يغفل حاتم آليات نمو الطبقة الوسطى التي لخصها بموظفي الدولة من النخب المتعلمة وولوج اجهزتها الفنية والقانونية والعسكرية والادارية والامنية وغيرها، وكذلك نمو الانتاج السلعي ودور الشغيلة والحرفيين في الاندماج بنظام السوق والانتماء الى الطبقة الوسطى بكونها قاعدة اجتماعية عريضة آزرتها قوى الريف من صغار الملاك الزراعيين مما جعل أرياف العراق قوة مضافة الى الطبقة الوسطى وتوسيع قاعدتها.
إن تعدد المصادر الاجتماعية للطبقة الوسطى وتحملها ارث القيم العشائرية والثقافات المتباينة التي ولدتها الحرب الباردة، أدى الى عجز الطبقة الوسطى عن بناء نفسها في قوة سياسية قائدة تشكل مرجعية موحدة بسبب الانقسام الثقافي الذي زرع بذور تفتتها وانقسامها بين تيارات قومية/ دينية وتيارات علمانية/ اشتراكية. وعلى الرغم من ذلك، استطاعت الطبقة الوسطى ان تجتمع على هدف واحد سام هو محاربة تبعية البلاد الى الاحلاف الاستعمارية وانضوت تحت زعامة تنظيم الضباط الاحرار المحكوم بالهيراركية العسكرية والروح الانقلابية الثورية لتفجر الثورة في تموز 1958 واسقاط الملكية وبناء النظام السياسي الجمهوري (يُنظَر: لطفي حاتم، المؤسسة العسكرية وتحولات فكرها السياسي، الحوار المتمدن، آب 2013 ).

الانموذج الديناميكي السالب

تشكل الطبقة الوسطى في بنية المجتمع العراقي الحديث البؤرة المولدة للطبقات الاجتماعية الاخرى كما يقول الكاتب ياسين النصير في مقاله الموسوم (مكونات الطبقة الوسطى: العراق انموذجاً، الحوار المتمدن، نيسان 2005)، فهي بحكم نشوئها المستمر والمتغير جغرافياً واجتماعياً تمتلئ عندما تكون واضحة باحتمالات المستقبل، ممهدة لظهور طبقات اجتماعية تتناسب وطبيعة المجتمع العراقي المتعدد الاعراق والديانات والقوميات واللغات والجغرافيات والتواريخ. ويؤكد النصير على أن الطبقة الوسطى تبدو من خلال تاريخها انها جدل المجتمع وحاضنته، فمنها ظهرت الشرائح السياسية والعسكرية والتجارية لاحقاً ليسهم بعضها في قيادة المجتمع العراقي نحو الحروب والتدمير ويسهم بعضها الاخر في البنية والتعمير. وافضل نماذجها الوطنية كانت ممثلة في مجتمع ما بعد ثورة 1958 ولمدة لم تتجاوز السنوات الخمس، حيث أفرز الصراع نتيجة لظهورها المفاجئ والكبير عن تناقض داخلي في مكوناتها لترتد ثانية الى بنيتها المؤسسة على العقلية العسكرية والدينية والثقافية والعشائرية، كما يقول النصير.
وعلى الرغم مما تقدم، فان غلبة المسار الثوري على المسار الديمقراطي لدى النخبة العسكرية بعد ثورة 1958 حوّل الدولة الى قوة (سلطة) بالتدريج ولمصلحة الشرائح المتنفذة في اجهزة الدولة البيروقراطية والامنية والمتسلحة بالعشائرية وبدعم اجنبي، ما أدى الى مسلسل الانقلابات العسكرية في حقبة الستينيات التي نفذها العسكر من الطبقة الوسطى، مؤشراً في الوقت نفسه حالة البدء بتشتت الطبقة الوسطى وغياب المرجعية الايديولوجية وضعف الجبهة السياسية الجامعة لها، إذ شهدت احزاب الطبقة الوسطى وتنظيماتها كافة حالة انشقاقات واسعة وادانة الاجنحة السياسية بعضها البعض في عدم تمثيل جماهيرها او شرعيتها والتطرف بين اقصى اليمين واقاصي اليسار بما في ذلك الحركات القومية والاشتراكية والدينية وغيرها. وامتد الانقسام ليطول التنظيمات العسكرية نفسها التي فقدت هي الاخرى الشكل الهيراركي التي وحدها ووحد الطبقة الوسطى معاً في خمسينيات القرن الماضي والذي قاد الى قيام الجمهورية الاولى بنجاح وتماسك عاليين، فبين العام 1963/ 1964 والعام 1972/ 1973 تعرضت الطبقة الوسطى الى انتقالتين وضعت المقدمات المنطقية لتآكل تلك الطبقة، فالطبقة العسكرية التي تسلمت مقاليد حكم البلاد والتي عملت على بناء السلطة وليس بناء الدولة قد استبدلت السوق بموارد النفط كقوة مالية سيادية تعارضت مع المدى الديمقراطي الذي ربط السوق ونشوءها الاقتصادي بالديمقراطية السياسية، فآليات السوق هي قانون موضوعي لنشوء القوى الجديدة من الطبقة الوسطى المتحزمة بمنظومة ثقافية تولدها مؤسستان متنافستان متكاملتان في بناء الدولة المدنية الحديثة: الاقتصادية والسياسية عبر ديمقراطية السوق (أي مؤسسة السوق التنافسية والمنافسة السياسية للطبقة الوسطى).
وقد أدى تأميم مصالح السوق عام 1964 بموجب القانون 100 وغيره الى ضرب الصناعة الوطنية وراس المال الوطني وتعظيم المركزية وتفتيت القوى العاملة عن طريق تحويلها في وقت لاحق الى طبقة موظفين فاقدة لمشروعيتها التاريخية، مما فت في عضد الديمقراطية العراقية وقواها الممثلة بالطبقة الوسطى واوجد بذور تدهورها وحرمانها من بلوغ ضروراتها في الحرية القائمة على خلق مؤسسة السوق وصولاً الى بناء الدولة المدنية الحديثة، فالسلطة الريعية والعسكرة من ناحية والسوق الديمقراطي المولد للطبقة الوسطى من ناحية اخرى، هما متغيران متضادان في صنع الفلسفة السياسية للدولة المدنية الديمقراطية الحديثة، فعسكرة السلطة لا تسمح بولادة ديمقراطية السوق ما يعني موت الطبقة الوسطى بموت السوق، حيث استغل تأميم المصالح النفطية الاجنبية في مطلع سبعينيات القرن الماضي لإحداث تغيرات اجتماعية واقتصادية مركزية احادية زادت من الدور الاقتصادي للدولة وقطاعاتها الانتاجية والخدمية. وكان التقشف الذي اعتمد عام 1972 والسنوات القليلة اللاحقة المقدمة لحذف الحريات الديمقراطية وتغليب الطواقم العسكرية ونشاط السلطة الاقتصادي والاجتماعي المركزي على نشاط السوق والدور الاقتصادي والاجتماعي الاهلي، كما بدأ تهميش نسيج الطبقة الوسطى التأريخي بإقصاء ثقافات وتيارات اليسار والتيارات الدينية على حساب تيار سلطوي واحد قام على مبدأ اعادة تشكيل طبقة وسطية هشة احادية التفكير تحمل فكرة الاقصاء للسوق (عن طريق خلق تقشف مضاد لنمو السوق المنتجة ونمو الطبقة الوسطى) وتناغمت في الوقت نفسه نشوء تلك الطبقة الوسطية الهشة بإيديولوجية مركزية تقوم على عسكرة السلطة وافشال السوق والنتاج الديمقراطي لها القائم على ادراك الضرورة في بلوغ الحرية. وهنا بدأت مرحلة الانموذج الديناميكي السالب في قمع الطبقة الوسطى التاريخية وتنظيماتها وحرمانها من اية مصادر بشرية جادة تنضم اليها إيديولوجياً.
مرت المدنية العراقية في ثمانينيات القرن الماضي بمخاضات جديدة فقدت فيها تماسكها الاجتماعي وصوتها الديمقراطي الكامن جراء استقطاب قطاعات واسعة من الطبقة الوسطى خارج السوق لتنضوي في المنظومة المركزية للدولة النفطية ذات الاستبداد الشرقي، وان المدن بقاطنيها ومشتغليها امسوا جزءا لا يتجزأ من المؤسسة المركزية الحكومية البيروقراطية عندما قايضت قدراتها الديمقراطية وصناديقها الانتخابية بالسلع العامة الممولة بعوائد النفط، بل الانكى من ذلك جرت عسكرة موظفي الدولة ابان الحرب العراقية الايرانية وتحويلهم الى قوة مغتربة وسلعة عامة في دواليب الحرب.
وفي تسعينيات القرن الماضي تعرضت المدن الى تبدل اجتماعي كبير غير من شكل علاقة الدولة المركزية بمجتمعات الطبقة الوسطى (المدن) وابراز المجتمعات الهامشية (الأرياف) جراء تبدل النمط السريع في موارد الدولة المركزية، ولم يبق من الريع المركزي سوى التعاطي مع الريف وتقاسم الفائض الزراعي لادامة الماكنة المركزية الحكومية. وان ضريبة التضخم التي تدفعها المدن وطبقاتها الوسطى التي اخذت تنسحق تحت وطأة تلك الضريبة امست تتسرب وبشكل او اخر الى منتجي الريف من الطبقة المالكة وهي طبقة محدودة متوسطة الدخل ولكن لا تنتمي تاريخيا الا للظرف الاقتصادي الاستثنائي الذي سببه الحصار.
لقد ترتبت تحولات اجتماعية قوية جعلت من الطبقة الوسطى وانحدارها الى الطبقة الفقيرة بإخلال في الهرم الوسطي الاجتماعي، إذ تحولت الطبقة الوسطى الى طبقة التحمت مع الطبقة الفقيرة لتشكل تلك الطبقة المسحوقة قرابة 75بالمائة من سكان البلاد ان لم يكن اكثر، وان الطبقة الوسطى لم تحظ الا بشريحة ضئيلة اخذت تتسرب تدريجيا بحكم مهارتها وثقافتها الى خارج البلاد.
رتب التحول الاجتماعي من المدن الى الأرياف انقلابا في الهيكلين الاجتماعي والسياسي فضلا عن الهيكل الاقتصادي، فتوزيع الدخل بدأ يعمل لمصلحة الاسر الريفية ابان الحصار الاقتصادي، فعلى وفق معامل جيني اخذ توزيع الدخل ينتقل من 32بالمائة لسكان المدن ليصبح قرابة 40بالمائة مما يعني ان التدهور في درجة المساواة بدأ يعمل لمصلحة الأرياف على حساب الطبقة الوسطى إذ سجل معامل جيني للأرياف مستوى 36بالمائة بدلا من 40بالمائة مما يعني تبدلا في العلاقات الاجتماعية والاقتصادية انسحبت من الطبقة الوسطى في المدينة الى طبقة ملاك الاراضي في الأرياف.
ويستخلص من ذلك ان الأرياف اصبحت ثقلاً سياسياً وعسكرياً وعليه فان النفط ونشوء الطبقة الوسطى لا يمكن ان يلتقيا في الانماط الاقتصادية لما قبل السوق او الرأسمالية عموما، وان مظاهر العنف المسلح بأشكالها ووحشيتها صوب المدينة العراقية يمثل اصرارا على تهميش الطبقة الوسطى، وان أرياف العراق التي تحتضن قرابة 12 مليوناً من سكان البلاد (وبقوة عمل زراعية تشكل 22بالمائة من إجمالي قوة العمل العراقية ويعاني نصفها من البطالة وهي لا تسهم في الناتج المحلي الإجمالي بسوى 5 ـ 7بالمائة) فقدت نفوذها السياسي وربما يكون مصادر العنف المسلح ضد المدينة والسوق هو صراع لاستعادة نفوذ الريف السياسي عن طريق اجهاض المدينة وتطور قواها الاجتماعية التاريخية وعلى رأسها الطبقة الوسطى، بعد ان حلت الأرياف محل المدن كقوة اقتصادية واستبدل ملاك الاراضي بالطبقة الوسطى التي تحولت الى طبقة فقيرة بسبب ضرائب التضخم وانسحاقها مع انسحاق الريع النفطي.
ـــــــــــــــــــــــــــ
(راجع: مظهر محمد صالح: الريع النفطي والاستبداد الشرقي، الفصل الثالث من كتاب "مدخل في الاقتصاد السياسي للعراق: الدولة الريعية من المركزية الاقتصادية الى ديمقراطية السوق"، بيت الحكمة 2010).
«عن موقع الناصرية اليوم الالكتروني»