مدارات

أطفال العوز.. والعطلة الصيفية / عبد الكريم العبيدي

"ها، بدأت العطلة"!جملة قالها أحد المتسوقين حالما وجد نفسه محاطا بعدد من الأطفال «الباعة» داخل ممر السوق الضيق، بين صفين طويلين متقابلين من بسطات المخضر والفاكهة ومنتجات الألبان وغيرها.
المتسوق أضاف: بعد أن ابتعد هؤلاء- يقصد الأطفال الباعة- عن طفولتهم وبراءتهم، ابتعدوا أيضا عن كونهم باعة أيضا!، فهم في حقيقتهم بدؤوا يجيدون مهنة التسول، يتوسلون بالمتسوق وينهالون عليه بالأدعية والترحم على موتاه أجمعين، في تنافس محموم كي يشتري من أحدهم «علاكتين بربع»!
هذه الحال الشاذة والمؤلمة، وهي الجمع بين امتهان البيع والاستجداء في آن، تظهر مدى البؤس الذي تعيشه الطفولة في العراق، مدى الحرمان والعوز والفقر الدائم على مدى قرون. فهؤلاء الصغار تدفعهم أسرهم للبيع حال انتهاء الفصل الدراسي، وتلك حالة متقدمة وحسنة!. فهناك الكثير من العائلات تجبر صغارها على ترك الدراسة أصلا، والتفرغ للعمل على الأرصفة وداخل الأسواق وفي التقاطعات والساحات العامة.
يلجأ هؤلاء الصغار إلى شتى الوسائل في البيع، بما فيها إتقان الاحتيال بسرعة عجيبة من داخل وسطهم، لكي يعودوا محملة جيوبهم ببضعة آلاف من الدنانير، تعد مغنما كبيرا لهم، وتسلَّط عليه النظرة الحسنة من قبل الأسرة، كيف لا وقد غدا ابنهم المحروم من كل شيء «ازلمه»!
بعض الأطفال الذين أنهوا دراستهم يغوصون منذ أول يوم من عطلتهم «الجميلة» في أكوام القمامة بحثا عن أشياء «مفيدة جدا فيها»، «علب فارغة، سكراب....الخ. وهناك من يجلس على الرصيف متوسلا المارة لصبغ حذائه قائلا:» بألف دينار وبيهه مجال»!
هناك من يتوسل بامرأة متسوقة ويدعو لها ولأمواتها أجمعين كي «ينكسر قلبها» وتوافق على حمل بضاعتها الثقيلة من قبل صبي نحيف جدا، يبقى ينوء بـ «المسواك الثقيل» وتتعثر أقدامه الحافية حتى يصل الى الكراج، بينما يضع آخرون «المسواك» في عربات صغيرة ويبدؤون بدفعها بصعوبة بالغة بين النفايات والمطبات وطفح المياه وتحت لهيب الشمس.
- «شنو»؟
نعود الى أصل ما قاله المتسوق:» ها، بدأت العطلة»!
الرجل قالها لأنه شاهد عددا ملفتا من أطفال العوز داخل سوق فقط، ربما لم ينتبه الى الأعداد الغفيرة التي ملأت التقاطعات أيضا، فهناك من يبيع السكائر، أي أنه بدأ يعرف كل ماركاتها، ومن الطبيعي جدا سيدخن حتما، وسيصبح رغم سنه الصغير مدخناً « أصلي»!
هناك من امتهن بيع «كارتات شحن» الموبايل بأنواعها، وثمة من اشترى ماسحة واسفنجة وبخاخ، وبدأ يتنافس مع غيره للوقوف أمام أي سيارة واقفة في الزحام والمبادرة دون موافقة السائق على رمي الماء من البخاخ ومسح زجاج سيارته، حالة أخرى واضحة من الاستجداء والتوسل، مقابل مبلغ زهيد جدا.
بعض أطفال العوز المحرومين راح يتنافس مع غيره في بيع قطع قماش واسفنج لتنظيف السيارة على السائقين الذين يرددون مرارا لهم:»عندي وصلات، عندي اسفنجات، والله عندي، والحسين عندي»!، لكن البائع الصغير يستمر في توسلاته وأدعيته حتى يقتنع السائق ويرمي عليه «ربع دينار»!
أطفال آخرون يلوحون بعلب الاكلنكس وأقراص مدمجة وألعاب أطفال رخيصة، يتوسل ويستجدي ويدعي وووو، حتى يقتنع أحد الركاب ويشتري سلعة لا يريدها ولم يفكر باقتنائها في تلك اللحظة ولكن ليتخلص من «طفل شحاذ» لا غير، لكنه سيردد حتما: ها، جتي العطلة، أوووف»!.
نعم أقبلت العطلة الصيفية لأطفال العالم، كي يستمتعوا بالنوم والألعاب على مختلف أنواعها، مع رحلات وجولات للتنزه وسفرات الى اقليم كردستان أو الى دول مجاورة، باستثناء أطفال العوز في «عراق الفقر المتوارث»، فهؤلاء فقط يبدو عامهم الدراسي والمواظبة فيه على المذاكرة والامتحانات والعقوبات، أهون شرا من العطلة التي سيضيعون خلال درجة حرارتها اللاهبة في الشوارع والتقاطعات والأسواق بحثا عن «ربع دينار».
الغريب والمؤلم في آن، أنك لو سألت أي طفل من هؤلاء الأطفال عن هوايته مثلا، فلن تجد على ملامح وجهه سوى ابتسامة بلهاء لا تعني شيئا، لأن مفردة هواية ليست تابعة لقاموس حرمانه، وبالتالي هي لا تعني شيئا أيضا!
أي هواية وهو يبيع «علاكات» من ساعات الصبح الأولى حتى المساء؟. أي هواية وهو المحروم من براءته وطقوس طفولته وألعابه؟، وأي هواية وهو المكتوب عليه وعلى أمثاله الحرمان في بلد الحرمان، الغني بالنفط والمعادن والزراعة ووووو؟
مثل هذا الكلام ردده أحد الركاب تعليقا على طفل يبيع السكائر وبدا مشعث الشعر ويرتدي ملابس رثة، فبات تعليقا باهتا، بلا معنى، تماما مثل سؤال: شنو هوايتك التي سألها أحدهم لأحد أطفال العوز!
راكب بالصفوف الخلفية داخل السيارة رد على صاحب التعليق الـ بلا معنى
- «احچيه الخوالك.. يا بلد نفط يا بطيخ ابهالزلك»!