مدارات

جذور الاستعصاء الديمقراطي في الدولة الريعية (5-/7/6) / د. صالح ياسر

اسباب وجذور العجز عن بناء الديمقراطية في الدولة الريعية هل ينتج الاقتصاد الريعي الديمقراطية؟

كما جرت الاشارة سابقا، تعرف الدولة الريعية بانها تلك الدولة التي تعتاش على عائدات من الخارج، إما من بيع مادة خام او خدمات استراتيجية، او من ضرائب تُجبى من تحويلات من الخارج وتمتاز بقطاع حكومي كبير، وفي الوقت نفسه بمستوى منخفض من تحصيل ضريبة الدخل. من المعروف أن دافع الضرائب هو الذي يموّل الجزء الأكبر من دخل الدولة في المجتمعات الديمقراطية، وهذا الأمر هو أحد أركان المجتمع المدني الحديث، بينما " يعتاش " المواطنون في الدولة الريعية من الدولة.
ولابد من التذكير هنا أن الدولة الريعية التي جرت الاشارة إليها أعلاه كأحد معوقات الديمقراطية، ليست أمرا حديثا البتة بل تمتد جذرها الى اعماق التاريخ، فالدولة العربية الأولى هي دولة ريعية تماما، وذات وظيفة عسكرية طفيلية. وتحتاج هذه النقطة الى توضيح اضافي.

من المعروف ان المدينة التجارية في أوروبا اكتسحت الريف بالسلعة، وبالنقود بدلاً من المقايضة، في حين أن المدينة في منطقتنا اكتسحت الريف المنتج بالقوة، وصارت ناهبة له. ولهذا كانت جميع حركات الاحتجاج التي تندلع في المدن ذات طابع حرفي، اما التي تندلع في الأرياف فهي موجهة ضد الغلاء والضرائب.
وأبعد من ذلك كله مسألة الأمة. فالأمة في الغرب، على سبيل المثال، تكونت أولاً ثم ظهرت الدولة التعاقدية. أما في المنطقة العربية فقد ظهرت الدولة أولاً كعصبية دم (الدولة الأموية، العباسية، السلجوقية، الأيوبية، العثمانية، الهاشمية، السعودية...الخ)، ثم حاولت تأسيس أمة.
وهذه العملية المقلوبة، قياساً على التجربة الأوروبية، كانت إحدى المعوقات التاريخية لظهور الرأسمالية الحديثة التي كانت الديمقراطية احدى منتجاتها. وقد كان ظهور الطوائف الحرفية في القرون الوسطى، ثم الانفصال التدريجي للصناع عن التجار من بين أهم الأسباب لظهور الرأسمالية، حينما تطورت الحرف إلى صناعات بعد ان راح العمال يتمركزون في أماكن عمل واحدة، وفي المدينة التجارية بالتحديد.
فالمدينة في أوروبا كانت مدينة التجار الذين كافحوا الإقطاعيين باسم حرية المرور، وكافحوا رجال الدين باسم حرية التفكير وحرية المعتقد.
أما المدينة العربية فقد كانت مدينة الدولة لا مدينة التجار والحرفيين، مدينة جباة الضرائب والجند والعسس الذين طالما أرهقوا كاهل التجار والحرفيين بالضرائب عموما ليست ذات بنية شبكية ونسيج تفاعلي، بل هي عبارة عن جماعات بشرية مستقلة اجتماعياً ومتراصفة سكنياً على شكل مجمعات متجاورة. وهذه المجموعات تتفاعل، بالدرجة الأولى، مع منابعها الأصلية، أي مع عائلاتها وعشائرها ومع المناطق والقرى التي انحدرت منها، وهي لا تتواصل مع المجموعات الأخرى المجاورة لها إلا لضرورات الحياة والعمل والمعاملات.
نعود الى الراهن. يمكن لاعتماد بلد ما في اقتصاده بشكل شبه كلي على النفط أن يؤثر على مسيرة الانتقال الديمقراطي والإصلاح السياسي فيه بطريقة سلبية (1). يحدث هذا التأثير السلبي بواسطة عاملين مختلفين في المصدر ومتشابهين في الغاية، أحدهما خارجي والآخر داخلي.
بالنسبة للعامل الأول، لا يخفى على أحد المكانة التي يتمتع بها النفط والغاز بالنسبة للعالم أجمع كمصدر للطاقة يغذي الاقتصاديات المتنامية باطراد، وخاصة بالنسبة للدول الرأسمالية المتطورة ومعها بعض دول آسيا، أي ما يسمى بـ 'الدول الصناعية". تسعى هذه الدول إلى تأمين احتياجاتها من هذه المادة الإستراتيجية من خلال علاقاتها المتشعبة مع أنظمة الحكم في الدول المصدرة، علاقات أمنية ومالية وسياسية.
وفي ظل هيمنة العولمة الرأسمالية فإن التحالف مع هذه الأنظمة (غير الديمقراطية في الغالب) يُشكل الدعامة الأساسية لبقائها في الحكم، من خلال تجاهل انتهاكاتها الصارخة للحقوق الديمقراطية الأساسية كالتعددية وحرية التعبير والتداول على السلطة (2). ولا شك ان علاقة الدول الراسمالية المتطورة بأنظمة الحكم في الدول المتحكمة في منابع النفط أو التي تحرسه على الأصح تحقق لها مصلحة مزدوجة:
- أولا تأمين احتياجاتها من النفط باستخدام أنظمة مطيعة ودعمها سياسيا وأمنيا.
- وثانيا قطع الطريق أمام إقامة حكومات ذات توجه مستقل في السياسة والاقتصاد قد تحاول استغلال الثروة النفطية ومداخيلها في الاستثمار الحقيقي وتنويع مصادر الدخل في الاقتصاديات الوطنية وإخراجها بالتالي من التبعية.
ومع الازدياد الكبير في حاجة البلدان المتطورة الى النفط كطاقة رخيصة الكلفة نسبيا، وصعوبة إيجاد بدائل له من مصادر الطاقات المتجددة في الأجل القريب على الاقل، فإن الاتجاه الأكثر ترجيحا هو استمرار علاقة التحالف ما بين نظام داخلي منقطع عن مجتمعه وبين القوى الخارجية في عرقلة مساعي دمقرطة المجتمعات في البلدان العربية، وإجهاض أي محاولة جادة للسير في هذا الاتجاه نظرا لما تمثله من خطر مزدوج على بقاء تلك الأنظمة في الحكم، وعلى التحكم في مصادر الطاقة بالنسبة للدول الصناعية.
في أوضاع الدولة الريعية/النفطية يكون مصدر النشاط الاقتصادي هو إيرادات النفط الخارجية، بحيث يمكن اعتبارها الأساس في ذلك النشاط. والمقصود هنا على وجه التحديد بـ (الدولة النفطية) ليس كل بلد له وفرة من النفط أو الغاز، بل إن هذا الوصف يشمل فقط تلك البلدان التي تحوز هذا المورد المهم وتعتمد عليه اعتمادا شبه مطلق في تكوين دخلها الوطني وفي موازناتها السنوية.
وفي حالة الدولة الريعية/النفطية تكون الفئة المشتغلة بالقطاع النفطي هي المساهم الرئيسي في تكوين الدخل الوطني، أما باقي الفئات وعلى اتساعها فليس لها سوى دور هامشي في الاقتصاد لا يعدو أن يكون منتفعا بالمداخيل الريعية. وارتباطا بذلك فان هذه الدولة تمتلك إيرادات كبيرة لا علاقة لأغلب طبقات وفئات المجتمع بإيجادها، فتكون بالتالي منقطعة الصلة عن تلك المجموعات إلا بالقدر الضروري، وارتباطها الأساسي يكون بالخارج، بسبب ان انتاج وتسويق النفط تحدده استراتيجيات عالمية البعد. في هذه الحالة ينحصر الدور الاقتصادي والاجتماعي للدولة الريعية/النفطية في تخصيص الموارد أو توزيع إيرادات النفط، ويبدو أنها العلاقة الوحيدة التي تحتاجها هذه الدولة لإقامة اقتصادها المحلي.
يظهر هذا الدور بجلاء في سياسة الإنفاق الحكومي الموسع للعوائد النفطية، هذه السياسة التي تزدهر في فترات انتعاش الطلب العالمي عليه وارتفاع الأسعار، وهنا يصبح الإنفاق هدفا بحد ذاته. وبرغم أن النفط يساهم بقسط وافر في تحقيق النمو حسب قانون المضاعف الكينزي، إلا أن النمو المحقق بواسطته هو، في غالب الأحيان، نمو أخرس أو نمو رديء وفق تسمية تقارير الأمم المتحدة، لأنه يكون على حساب تعطيل السلطة السائدة لمزيد من الحريات الفردية والجماعية للمواطنين، أو لا يشمل كافة الفئات والشرائح بنفس المقدار.
بعد هذه الملاحظات السريعة، ولكن الضرورية، لا بد من وقفة حول الوضع الريعي للاقتصاد ودوره في تعطيل عملية التحول الديمقراطي.
من المعلوم ان أغلب الفئات والقطاعات الاقتصادية لا تساهم في إيرادات الدولة النفطية إلا بقدر متواضع يمكن الاستغناء عنه وهو ما اشرنا اليه في مكان آخر، في حين أن تلك الفئات والشرائح العريضة تستفيد من " منافع " الاقتصاد الريعي بغض النظر عن درجة تحقيقها لما هو مطلوب منها اقتصاديا. ونظرا لأن الناس، عادة، يحددون مواقفهم حسب مصالحهم الاقتصادية كما أن الجماعات التي لا تجد وسيلة للتأثير في صنع القرار لصالحها تأخذ في المطالبة بإجراء التغييرات المناسبة في مؤسسات الدولة. وهنا تظهر العلاقة الطردية ما بين الاعتماد القوي للدولة في إيراداتها على النفط وضعف القاعدة الاقتصادية التي تجمع الأفراد للمطالبة بحقوقهم السياسية. وبما إنهم لا يساهمون في الدخل لذا ليس لهم الحق في اتخاذ القرار والمشاركة السياسية، ويصبحون اقتصاديا وبالتالي سياسيا مجرد أتباع ورعايا يسعون وراء منافع فردية أثناء قيام الدولة بإعادة تدوير الريوع النفطية في شكل إنفاق حكومي موسع هدفه الأساسي تكريس الوضع القائم والحفاظ على الاوضاع الراهنة وتناسبات القوى السائدة وتأبيدها.
إن تنويع الاقتصاد الوطني يعني اعتماد الدولة في إيراداتها، بشكل رئيسي، على تطوير قطاعات الانتاج المادي من جهة و على الضرائب من جهة ثانية. ومعروف في الدولة الديمقراطية أنه لا تمثيل بدون ضريبة، إذ كلما اعتمدت الدولة اعتمادا جوهريا على الضرائب أصبحت قضية الديمقراطية لا مناص منها وإن تأخرت لأسباب أخرى. غير أن ما يمنع الاقتصاد النفطي أن يتحول إلى اقتصاد متنوع القطاعات هو أن الحكومات في البلدان النفطية تختزل السياسات الاقتصادية إلى مجرد موازنات سنوية متتابعة لتوزيع إيرادات النفط، وإعادة تدويرها في شكل إنفاق موسع على البنية التحتية والقطاع العمومي والخدمات من أجل تحقيق " نمو " لا ينعكس بالضرورة في صورة توزيع عادل للثروة ولا يؤدي الى تحقيق تنمية مستدامة.
وتدلل تجارب العديد من البلدان ان التوزيع غير العادل للثروة برغم تأثيره السلبي على فئات وشرائح مجتمعية كبيرة وتهديده للاستقرار الاجتماعي والسياسي إلا أنه ليس حافزا كافيا لتلاحم الناس وتوحد محاولتهم لإحداث تغييرات سياسية. بل انه وحتى إن وقع تحرك اجتماعي من بعض القطاعات الخدمية مطالبا بالعدالة في التوزيع فإنه سرعان ما يتم استيعابه واحتواؤه بسهولة بتوجيه مزيد من الموارد بهدف إسكات القائمين عليه وهو ما لاحظناه في الدول الخليجية مثلا بعد اندلاع الانتفاضات الشعبية في اوائل 2011. تقوم "الطبقة" الحاكمة بمنح المنافع والامتيازات لكل فئة أو جماعة بحسب ثقلها النسبي في التكوين السياسي والاجتماعي وكذلك حسب قدرتها على تهديد الاستقرار القائم. وبمعنى آخر، إذا ما تزايد وزن أو تأثير فئة معينة فإن الدولة تعمد إلى رفع نصيب تلك الفئة من المنافع البترولية، وهذا يتحقق بيُسر خاصة في حال توافر إيرادات ضخمة من النفط نتيجة ارتفاع أسعاره عالميا.
هنا تلجأ الدولة الريعية إلى إنشاء أو إقامة " هيئات تمثيلية " للتنفيس أو للترويح عن الشعور بالإجحاف لدى بعض الفئات، لكن هذه الهيئات هي في حقيقتها مقطوعة الجذور عن من تمثلهم ظاهريا، وهي ليست سوى مجرد ديكور سياسي، أما أعضاؤها فيدخلون ضمن الفئات والشرائح المتصارعة على أخذ نصيب اكبر من " الغنيمة النفطية ".
ويضاف إلى ذلك أن الدولة هي أكبر رب عمل، أي أكبر من يوظف الموارد البشرية، لتكرس تبعية الجميع للقطاع الحكومي. وهي في ذلك تحاول استقطاب كافة الشرائح والفئات الاجتماعية بإغرائها بنصيب من " منافع " النفط. وفي وضع كهذا تسقط أي دوافع اقتصادية حقيقية لدى الفرد والجماعة قد تدفع للتحرك من أجل المطالبة بإقامة ديمقراطية تمثيلية، ولا يبقى سوى بعض الأفكار الدينية أو العوامل الثقافية أو اللغوية أو المناطقية التي من شأنها تجميع الناس وتحريكهم. وحتى هذه لا تلبث أن تنتهي إلى الفشل نتيجة هشاشة القاعدة التي تستند عليها ومحدوديتها في الزمان والمكان، وكذا قدرة الدولة وتحكمها في الموارد الأساسية وطرق توزيعها.
ومنعا لأي التباس لا بد من التذكير بان وجود اقتصاد متنوع كأساس يساعد على إقامة ديمقراطية حقيقية لا يعني أن الدول ذات الاقتصاديات غير الريعية هي دول تشهد حالة من الازدهار الديمقراطي، ولكنها الأقدر على التحول نحو الوضع الديمقراطي من البلدان النفطية.

من المجرد الى الملموس : الملامح الاساسية للاقتصاد الريعي في العراق

تتيح الملاحظات الواردة في الحلقات السابقة بلورة السمات المميزة للاقتصاد الريعي ومن بينها على سبيل المثال لا الحصر:
1- إن إيرادات الريع يجب أن تأتي من أسواق خارج الدولة.
2- يجب أن يكون الريع مصدر الإيراد الرئيسي في الاقتصاد المحلي.
3- الدولة تلعب دور المتلقي الرئيسي لإيرادات الريع المباشرة.
4- تتمحور النسبة الكبرى من نشاط السكان الاقتصادي حول استهلاك وإعادة توزيع الريع بدلاً من إنتاجه.
ونظريا، يمكن التعرف على ملامح الاقتصاد الريعي عبر عدة مؤشرات من بينها:
- تحليل تركيب الناتج المحلي الإجمالي؛
- أو عبر تحليل واقع بعض الأنشطة الاقتصادية الريعية؛
- أو عبر معدلات النمو القطاعي.
وكما جرت الاشارة سابقا فان تجاوز مساهمة القطاعات غير الإنتاجية لنسبة النصف من الناتج المحلي الإجمالي تعني أن الاقتصاد ريعي، أما إذا لم تتجاوز هذه المساهمة النصف فيعدّ الاقتصاد معتمداً بشكل أساسي على الريع.
ولابد من الاشارة، بداية، الى أن نسب مساهمة القطاعات الاقتصادية في توليد الناتج المحلي الاجمالي شهدت تباينا عبر مسيرة التنمية في العراق. إلا أن هذا التباين رافقته حقيقة راسخة تتمثل بتبوء قطاع النفط والتعدين والمقالع أعلى نسبة في توليد الناتج المحلي الاجمالي مع تذبذب في نسب الارتفاع ارتباطا بالظروف السياسية والاقتصادية الداخلية والخارجية غير المستقرة التي مرت على الاقتصاد العراقي. ونتيجة ارتفاع اسعار النفط في اوائل السبعينات من القرن الماضي فقد ارتفعت حصة القطاع النفطي في الناتج المحلي الاجمالي من 32بالمئة في عام 1970 الى 64.5بالمئة عام 1979. هذا مع العلم ان نسبة مساهمة قطاع الصناعات الاستخراجية الذي تهيمن عليه كليا صناعة استخراج النفط الخام، في الناتج المحلي الاجمالي خلال الفترة 1960 / 1980 لم تنخفض عن 60بالمئة بالأسعار الثابتة لعام 1980.
غير أن من أهم ما يميز صناعة استخراج النفط الخام العراقية ويعطيها مكانتها الخطيرة في الاقتصاد العراقي هو هيمنتها الكاملة على الصادرات العراقية. فوفقا للمعطيات الاحصائية فانه وخلال الفترة 1965 / 1980 تراوحت حصة الصادرات النفطية الى اجمالي الصادرات بين 91.3بالمئة و 99.2بالمئة (1).
ومنذ الثمانينات من القرن الماضي، تحددت بنية الاقتصاد العراقي بتزايد اعتماده على قطاع النفط الخام، والتوسع غير المستدام لقطاع الخدمات غير المنتجة (خاصة الجهاز العسكري)، وإهمال القطاعات المنتجة كالزراعة والصناعة على نحو متواصل، وانهيار الاستثمار الانتاجي في النشاطات الاقتصادية غير العسكرية، وتزايد السيطرة السياسية لبيروقراطية غير كفوءة من جهة وغير خاضعة للمحاسبة من جهة اخرى، والإفراط في تقييم العملة العراقية (الدينار)، كل هذه الامور ادت الى تعميق السمات الريعية للاقتصاد العراقي (2).
وبعد عام 2003 تأثرت مساهمة القطاعات الاقتصادية في توليد الناتج المحلي الاجمالي بالأحداث السياسية والاقتصادية التي مرّت على البلاد خلال هذه المرحلة، فقد ارتفعت نسبة مساهمة قطاع النفط الخام والتعدين والمقالع من 59.9بالمئة عام 2003 الى 85.8بالمئة عام 2007، مما يؤشر الى تزايد هيمنة قطاع النفط في تكوين الناتج المحلي الاجمالي وتراجع دور القطاعين الزراعي والصناعي اللذين لم تتجاوز نسبة مساهمتهما عن 9.2بالمئة و 2.3بالمئة على التوالي في عام 2007 (3).
وفي عام 2009 شكّلت الصناعات الإستخراجية (نفط وغاز ومعادن) 75.6بالمئة من إنتاج القطاعات الإنتاجية و42بالمئة من الناتج المحلي الاجمالي. اما في عام 2011 فقد شكلت 76.0بالمئة و 52.2بالمئة على التوالي. وتشير التقديرات لعام 2012 ان حصة القطاع النفطي في الناتج المحلي الاجمالي لهذه السنة يبلغ 63.9بالمئة (4).
إن الارقام أعلاه توضح مدى تبعية الاقتصاد العراقي للمصدر الريعي للثروة. ولا بد من معاينة الطابع الريعي للاقتصاد من منظور سياسي استراتيجي ذلك لان الريعية النفطية تمثل الاقتصاد السياسي للنظام التسلطي. ومن المؤكد ان التركز المفرط على مصادر الثروة الوطنية (وهي في حالة العراق الريوع النفطية) يؤدي الى تنامي النزعات الدكتاتورية وبالتالي قطع الطريق امام بناء وتطور مؤسسات ديمقراطية حقيقية تراهن على المواطنة كبديل حقيقي لنظام المحاصصات الطائفية الاثنية المتأسس على الهويات الفرعية.
ثمة مؤشر آخر يدّل على "ريعية" الاقتصاد العراقي وطابعه الخدمي ايضا. ونقصد بذلك تنامي قطاع الخدمات على حساب القطاعات الأخرى حيث سجّل قطاع الخدمات عام 2009 ما يوازي 30.3بالمئة من الناتج الداخلي بينما كان قد ارتفع الى 30.6 عام 2011. ويبدو أن قطاع الخدمات أصبح يميل أكثر للمصادر الريعية كما أن طبيعة تلك الخدمات أصبحت تجني الريع بدلا من القيمة المضافة للناتج القومي. فالممارسات الاحتكارية الشائعة في قطاع التجارة عبر الوكالات الحصرية على سبيل المثال والمضاربات المالية والعقارية أصبحت السمة الطاغية على النشاط الخدماتي. فقد شكلت حصة ملكية دور السكن 12.3بالمئة من الناتج المحلي الاجمالي في عام 2009 و 11.9بالمئة في عام 2011 (5).
المؤشر الثالث لريعية الاقتصاد العراقي هو دور الدولة الإنفاقي كمحرّك أساسي للاقتصاد الوطني. فقد بلغت مستويات الإنفاق العام لعام 2011 ما يوازي 70.7بالمئة من الناتج المحلّي الاجمالي في حين ارتفعت الى 79.3بالمئة في عام 2012. ومن المعلوم ان إنفاق الدولة يساهم في رفع المداخيل عبر عامل المضاعف الاقتصاديeconomic multiplier ، وبما أن موارد الدولة تأتي أساسا من الإيرادات النفطية فإن الطابع الريعي يتأكد أكثر فأكثر وهذا ما تشير اليه المعطيات الاحصائية. فمثلا شكلت الايرادات النفطية ما نسبته 88.8بالمئة من الإيرادات العامة في عام 2011 وارتفعت الى 92.2بالمئة عام 2012 (6)، و الى 93.5بالمئة في عام 2013 علما ان تلك الايرادات ستبلغ ما نسبته 95.7بالمئة من الايرادات العامة للعراق خلال العام 2017 (7). هذا مع العلم الإيرادات الضريبية كانت ضئيلة للغاية خلال نفس الفترة.
ولا شك ان الحصة العالية والمتعاظمة للصادرات النفطية في اجمالي الصادرات العراقية والحجم المتنامي للريوع النفطية في اجمالي الواردات يقابله ضآلة الايرادات الضريبية. وهذه كلها مؤشرات تدلل على ريعية الاقتصاد العراقي وطابعه المتخلف والأحادي الجانب، وهي السمات التي رافقته منذ تأسيس الدولة العراقية الجديدة في 1921 رغم مختلف المحاولات التي بذلت لتغيير هذا الواقع.
من خلال هذه الأرقام يتبين لنا بان الاقتصاد العراقي يعتمد اعتمادا شبه كلي على قطاع النفط لتمويل مشاريعه التنموية والتشغيلية وبالتالي فإنه يبقى رهين تقلبات سعر هذه السلعة الإستراتيجية في السوق العالمية.
وعادة ما يعتبر الاقتصاد الريعي اقتصادا هشّا؛ حيث يكون دائم التعرض للاضطرابات والهزات المالية والبنيوية، نظرا لاعتماده على عنصر واحد لتحقيق العائدات، وهذا العنصر او القطاع (وهو هنا القطاع النفطي) هو قطاع موجود جغرافيا داخل البلاد لكن استراتيجيات انتاجه وتصديره ترتبط بالعوامل الخارجية بالأساس وتخضع استراتيجيات تسعيره ليس فقط لعوامل اقتصادية صرفة بل تختلط بها عوامل ذات طبيعة استراتيجية وجيوسياسية عالمية البعد. ولهذا فإن أية هزة تمس هذا العنصر سينعكس تأثيرها مباشرة على مختلف جوانب الاقتصاد والمجتمع.
وبما أن العراق يعتبر من الدول ذات الاقتصاد الريعي كما أشرنا الى ذلك مرارا فإنه ليس بمنأى عن هذه الهزات والأخطار. لذلك يمكن الحديث عن مجموعة أخطار تهدد الاقتصاد العراقي طالما ظل معتمدا على وفرة السيولة وزيادة الإنفاق العام معتمدا في ذلك على الريوع النفطية، من بينها ما يلي:
- إن الخطر لا يكمن في اعتماد الاقتصاد الوطني على نشاط واحد محدد ألا وهو استخراج النفط بقدر ما يكمن في اعتماد الاقتصاد العراقي على مورد طبيعي ناضب يتسم بعدم الاستدامة وليس على قدرات وإمكانيات تتسم بقدر كبير من الاستدامة.
- استمرار استنزاف المخزون النفطي لتعظيم العائدات سيؤدي إلى النضوب المبكر لهذه المادة الحيوية، وحرمان الأجيال القادمة من هذه الثروة.
- يقوم الاقتصاد العراقي على استيراد أغلب المواد الاستهلاكية والتموينية، وبسبب ارتفاع اسعارها المتزايد في الأسواق العالمية تعمل الحكومات العراقية على دعم الأكثر استهلاكا من بينها، نظرا للعوائد النفطية الضخمة؛ ولكن لن تتمكن من ذلك إذا انخفضت أسعار النفط أو طرأ أي طارئ على قدرة تصدير هذه المادة؛ وهذا ما سيشعل الجبهة الاجتماعية.
- لا تدلل الأرقام المنشورة حول نسب النمو الاقتصادي وزيادة الصادرات دائما على صحة الاقتصاد العراقي، فهي أرقام وهمية لأنها مرتبطة في الواقع ارتباطا كليا بزيادة الصادرات النفطية وبحجم مداخيلها المستخدمة مباشرة في " برامج التنمية "؛ ونقصد بالاستخدام المباشر لعائدات النفط أنها لا تمر بالقنوات الصحيحة لها عبر استثمارها في قطاعات إنتاجية مثل بناء المصانع وتطوير الزراعة والاستثمار في الصناعات التحويلية والبحث العلمي التي تدر على الاقتصاد أرباحا صافية لا ريوعا مكتسبة، اضافة الى تطوير الخدمات التي تعاني من اوضاع سيئة للغاية.
- إن ارتباط النفط بالدولار يُبقي الاقتصاد العراقي مرهونا بتقلبات سعر صرفه وبالتالي يصبح الاقتصاد متحكما فيه خارجيا وإن بطريقة غير مباشرة.
- ثم ان استمرار عقلية الريع ستنتج مجتمعا استهلاكيا بامتياز تغيب فيه عقليات الإنتاج و معاني العمل وقيمه وهذا لا يهدد الاقتصاد فقط بل يهدد المجتمع بشكل عام.
- زيادة الارتباط الوثيق بين الفساد (الذي اصبح مؤسسة راسخة البنيان في العراق!) والاقتصاد الريعي، حيث الوفرة المالية ونقص مراقبة أوجه صرفها الناجمة عن انعدام الشفافية. تحتاج هذه الملاحظة المتعلقة بالفساد الى بعض الملاحظات التفصيلية.
بقدر تعلق الامر ببلادنا فانه يمكن القول ومن دون ادنى تردد أن مظاهر الرشوة والفساد المالي والإداري بلغت مديّات واسعة وغير مسبوقة في تاريخ العراق المعاصر، والذي أصبح، مع الزمن، وباءً يطول مختلف خلايا المجتمع كافة، وبشكل خاص في كل مؤسسات الدولة ودوائرها. وبحسب رئيس مفوضية النزاهة الاسبق في العراق، فإن " نسبة الفساد في الحكومة العراقية بلغ 70بالمئة وفق تقارير وتصنيفات هيئة الشفافية الدولية ". إن الانتشار الواسع والكبير للفساد في العراق يتناسب طردياً مع كبر حجم الدولة العراقية، واتساع دورها وعمق تداخلاتها في إدارة المجتمع وأنشطته المختلفة، الاقتصادية والاجتماعية، والسياسية، ويتخذ أشكالاً وتجليات مختلفة ومتنوعة يعاد تطويرها، يوماً بعد يوم، من قبل الفاسدين والمفسدين.
ومنعا لأي التباس لا بد من الإشارة الى أن الفساد المستشري حاليا هو ليس نتاج هذه المرحلة فقط، على أهمية وخطورة ذلك، بل هو كذلك امتداد لـ " التقاليد " التي رسخها النظام الدكتاتوري السابق، هذا إضافة الى إجراءات سلطة الاحتلال وسياساتها التي ساعدت في أن يتخذ الفساد هذه المديّات الخطيرة. فقد ظهر خلال فترة الاحتلال نشوء ظاهرة ما يطلق عليه بـ " الفساد المستورد " فقد تدفقت على البلاد وسائل مبتكرة للمفسدين ذوي المؤهلات التكنولوجية العالية، في كيفية نهب الموارد وامتصاص الاستثمارات وإفراغها من محتواها الحقيقي.
وبالمقابل فإنه في ظل عدم تبلور استراتيجية تنموية واضحة لحد الآن، تنامى دور الفئات المرتبطة برأس المال التجاري والمضارب ذي الطابع الطفيلي المرتبط بوشائج مختلفة برأس المال الأجنبي، ولا بد أن يؤدي ذلك الى استشراء الفساد. إن هذه " الرأسمالية الجديدة " تتعامل مع الأنشطة الطفيلية وخاصة التجارة وتهريب المحروقات وغيرها، تمارس قطاعات عريضة منها الفساد والإفساد، وتنظر الى العراق باعتباره حقلا لأعمال المضاربة، تنشر فيه اقتصاد الصفقات والعمولات، وتقيم مجتمع الرشاوى والارتزاق، وتدمر منظومة القيم الاجتماعية.
لهذه الأسباب، وغيرها أيضا، يمكن القول أن الفساد لم يعد مجرد نشاطات فردية أو محدودة بل امتد ليشمل مختلف قطاعات المجتمع والاقتصاد والدولة. إنه ظاهرة اقتصادية/اجتماعية/سياسية مركبة. وتعني الملاحظة السابقة أن الفساد صار بنية تحتية تزداد رسوخاً وتتحول أكثر فأكثر إلى أرضية ينهض عليها بناء فوقي متشعب يخترق كل شيء: من الإدارة إلى الوضع الاقتصادي الذي أنجبه نمط تنمية ملتبس، إلى " نمط ثقافة " يسود، إلى هيكلية تنظيمية تجعل مالكي السلطة قادرين على ترجمة ملكيتهم الرمزية والمعنوية إلى ثروة. وطبيعي أن هذه السيرورات تجري في غياب المؤسسية والشفافية، وغياب المشاركة ودور الرأي العام والرقابة المؤثرة والفاعلة، وضعف القضاء النزيه والمستقل لجملة اسباب لا يتسع المجال للدخول في تفاصيلها، والسلطة التشريعية التي تمارس رقابة عامة وشاملة، وأخيراً غياب الشفافية عن الدولة وإعادة بنائها التي تتجاذبها مصالح متناقضة واستراتيجيات إعادة بناء مختلفة.
***************

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش
(1) قارن: احمد طيباوي، النفط والديمقراطية... الثنائية المستحيلة. متاح على الانترنيت على الرابط التالي: http://www.djelfa.info/vb/archive/index.php/t-299403.html
(2) see: Globalization and the Middle East: Islam, Economy, Society and Politics, Ed. By Toby Dodge and Richard Higgot. London: Royal Institute of International Affairs, 2002.
(3) لمزيد من التفاصيل قارن: د. محمد علي زيني، الاقتصاد العراقي....، مصدر سابق، جدول رقم (18 – 6)، ص 145
(4) قارن: فريق ابحاث، ديناميكيات النزاع في العراق (تقييم استراتيجي) (بيروت: معهد الدراسات الإستراتيجية الطبعة الاولى، 2007)، ص 32.
(5) انظر: جمهورية العراق، وزارة التخطيط، خطة التنمية الوطنية للسنوات 2010 – 2014، بغداد، كانون الاول/2009، ص 43.
(6) المصدر: الاسس والمبادئ العامة لإعداد تقديرات الموازنة العامة للدولة لعام 2012، ص 6.
(7) أنظر: جمهورية العراق، وزارة التخطيط، خطة التنمية الوطنية للسنوات 2010 – 2014، مصدر سابق، ص29.
(8) قارن: المصدر: الاسس والمبادئ العامة لإعداد تقديرات الموازنة العامة للدولة لعام 2012، مصدر سابق، ص 4-6.
(9) في حديث لوزير التخطيط د.علي الشكري الى (المدى برس)، اشار الى ان «الإيرادات غير النفطية ستزداد من سبعة تريليون دينار عام 2013 الى تسعة تريليون دينار عام 2017 وبنسبة زيادة قدرت بـ (32بالمئة) بحسب مركز الإحصاء والأبحاث في الوزارة»، وأضاف الشكري، أن «تلك الزيادة في الإيرادات غير النفطية ستكون منخفضة أمام الزيادة في الإيرادات النفطية من العام 2013 إلى العام 2017 «، مبينا أن «الإيرادات غير النفطية ستنخفض نسبتها من 6.5 بالمئة خلال العام 2013 الى 4.3 بالمئة خلال العام 2017 ليصبح متوسط نسبتها 5.3 بالمئة من أجمالي إيرادات العراق». لمزيد من التفاصيل قارن: جريدة المدى، عدد 3062 في 20/4/2014.