مدارات

جذور الاستعصاء الديمقراطي في الدولة الريعية (7- 7) / د . صالح ياسر

لن تتحقق الديمقراطية طالما ظل الاقتصاد ريعيا
بعض الخلاصات والاستنتاجات

تتيح الملاحظات السابقة التي وردت في مختلف حلقات الدراسة بلورة الخلاصات التالية:
إن مجمل المسار الاجتماعي والاقتصادي القائم في البلدان النامية منذ القرن التاسع عشر بالنسبة لأمريكا اللاتينية، ومنذ القرن العشرين بالنسبة لأفريقيا واسيا هو مسار تكون " طبقة حاكمة " على المستوى السياسي ومهيمنة على المستوى الاقتصادي. وهذا في مرحلة نمط اقتصادي سبق أن هيمنت عليه الرأسمالية في بلدان " المركز". إن هذا المسار ليس متجانسا في جذوره ولا هو متنافر كليا، إذ تبدو التشكيلات الاجتماعية في هذه البلدان، في نفس الوقت، ذات سمات مشتركة وفوارق مهمة. تتمثل السمات المشتركة في أن كل هذه التشكيلات ترتطم بمشكلة اندراجها ضمن التقسيم الدولي الرأسمالي المعاصر للعمل، وبالنتيجة، بعلاقتها البنيوية بالمراكز الرأسمالية. إنها كلها تحمل تمفصلات اجتماعية داخلية حيث تبدو القوى المسيطرة في وضع يختلف جذريا عن الجماهير والفئات الاجتماعية في الريف والمدينة التي يجري تبلترها وتهميشها بسرعة بالغة وبالتالي تعاظم التناقضات، التي تؤثر بشكل بالغ على التوجهات السياسية والاستراتيجيات الاقتصادية التي تنتهجها القوى المهيمنة في هذه البلدان. ونشير كذلك الى أنه في أي من هذه التشكيلات، لم تتم محاولة جدية لإعادة تشكيل علاقات الانتاج الرأسمالية (باستثناء عدد محدود)، فقد ظلت علاقات الانتاج المهيمنة علاقات رأسمالية من " نمط جديد " لا يمكن مقارنتها بتلك التي في " المراكز" الرأسمالية. إن علاقات الانتاج هذه وشكل الرأسمالية الناجمة عنها ليست متخلفة ولا " شبه رأسمالية " بل هي، على الأصح، اللون الخصوصي المحدد للرأسمالية في هذه البلدان (1). إنها، على وجه التحديد، مرحلة من النظام الاقتصادي الرأسمالي متسمة بضعف الطبقات الاجتماعية بنيويا. وهذا الضعف البنيوي هو، على وجه التحديد، الذي كان أصلا أو جذرا لتشكل السلطة السياسية في هذه التشكيلات الاجتماعية: أي سمة قصور الديمقراطية السياسية وغياب السوق الثقافي القوي وشلل المجتمع المدني وضموره. والعراق ليس استثناء من ذلك.
إن غياب الديمقراطية في بلداننا هي سمة دائمة، فهي لا تمت بصلة الى " الوراثة التقليدية " عن العهود السابقة، كما يروج لها في بعض الخطابات بمفاهيم من قبيل الاستبداد الشرقي ..... الخ. إن هذا الوضع هو ناتج ضروري لمقتضيات التوسع الرأسمالي، كما هو قائم بالفعل. إن الاستقطاب الناشئ على الصعيد العالمي، المرتبط بمقتضيات التوسع الرأسمالي يخلق بدوره استقطابا اجتماعيا داخليا يتجلى في ظواهر عديدة أهمها التفاوت في توزيع الدخول والثروة عموما والتهميش المتعاظم لفئات اجتماعية واسعة (2).
إن الوطنية والتنمية والتحديث والديمقراطية، وما الى ذلك من المصطلحات السياسية، ينبغي حتى يمكن فهمها في كل ابعادها أن تدرج ضمن اشكالية التشكل التاريخي لهذه " الطبقات السائدة " في كل من التشكيلات الاجتماعية في بلدان " العالم الثالث ومنها العراق، وما يميز هذا التطور عن المسار التاريخي لتشكل البرجوازية الاوربية الغربية، منذ القرن الثامن عشر. إن الفارق يكمن اليوم في عدم تماثل الثورة الصناعية وعدم تمفصلها articulation مع الثورة الديمقراطية. إن الرأسمالية الغربية، باعتبارها مسارا تاريخيا، هي التي ولّدت الثورة الديمقراطية التي كانت في حاجة اليها لتتطور، كبرنامج أيديولوجي للبرجوازية الصاعدة من رماد الاقطاع، وكتعبير ثوري عن حاجتها الملحة اقتصاديا وسياسيا لتحطيم كافة الحواجز القائمة على طريقها في طبيعة و قوانين و ميكانيزمات النظام الاقطاعى المدعوم من الإكليروس الكنسي، و الذي لم يعد يناسب، آنذاك، مقتضيات حركة رأس المال والسلعة من حيث السرعة واليسر ، إلى جانب تكبيله لحرية اختيار المهن وانتقال الأيدي العاملة المطلوبة بإلحاح لتطور الصناعة، حيث كانت القوانين السائدة تجبر الفلاحين الأقنان وأبنائهم على البقاء في خدمة "أسيادهم" كأنصاف عبيد. في حين كان مسار التشكل التاريخي للطبقات السائدة في "التشكيلات العالمثالثية " ليس غير مولد لميكانيزمات تحكم ديمقراطي فحسب، بل أن نشأته غير ممكنة ايضا إلا على أساس تحطيم الممكنات الديمقراطية في صلب هذه التشكيلات تحطيما كاملا وشاملا. يحدث ذلك وكأن الثورة الصناعية والنمو والحداثة لا يمكن أن تتجسم إلا في تناف مع الثورة الديمقراطية، أي أساس حكم سياسي معاد للديمقراطية. وينبغي تحليل هذه الملاحظة والتفكير في كل تبعاتها إن أردنا أن ندحض نهائيا التحاليل التبريرية التي تبثها القوى المسيطرة في هذه البلدان ( مثل مقولة : لننم الاقتصاد وسوف يأتي دور الديمقراطية فيما بعد، أو : الشعب غير ناضج للديمقراطية، ونخبته يجب أن تقوده على درب التقدم !).
لا بد من الوعي بوجود تناقض بنيوي بين السيرورة الاجتماعية في هذه التشكيلات الاجتماعية أي صعود الفئات الوسطى الى مرتبة " الطبقة الحاكمة "، من ناحية، والايدولوجيا والممارسات الاقتصادية التي تبرز من خلالها هذه المسيرة من ناحية ثانية. لقد برزت هذه الفئات باعتبارها قوى مستقلة داخل التشكيلات الاجتماعية المعنية. هذه الاطروحة مهمة، لأنها تتيح لنا أن نفهم مدلول الإيديولوجيات التي ترفعها القوى المسيطرة، وكذلك نظم الدولة، التي يبرز من خلالها مسار هيمنة بعض الفئات الوسطى. إن شكل الدولة والدور البارز المناط بسلطتها يجسدان طريقة جديدة مؤقلمة مع ظروف العصر. ومن هنا ينبغي فهم دور الجيش وتحليله في كل عمقه. إنه ليس مظهرا من مظاهر فرض إكراه الطبقات الحاكمة على بقية السكان (نموذج الدكتاتورية العسكرية التقليدية) بل وعلى الأصح، أنه جزء من تشكل العنف " الشرعي " في سيرورة نشأة الفئات الوسطى بوصفها " طبقات " حاكمة.
أخيراً، ينبغي تعليل أشمل لدلالة المؤسسات السياسية الخاصة بهذه الدولة الريعية الاستبدادية. على هذا النحو ندرك أن شكل الدولة هذا ينشأ عبر التحطيم الشامل للممارسة السياسية الجماعية، وعبر ابعاد القوى الاجتماعية غير وثيقة الصلة بالدولة والحزب الحاكم من الاهتمام بالسياسة، وعبر نظام الفروض الملزمة (أنواع التعبئة العسكرية) الذي تفرضه السلطة على التشكيلة الاجتماعية. باختصار عبر قطع الطريق جذريا أمام مسار الثروة الديمقراطية/على المستوى السياسي، والتي كانت ينبغي أن تواكب كل ثورة اقتصادية، خاصة في ظل المصاعب التي تتخبط بها بلداننا لتعزيز موقعها ضمن الاقتصاد العالمي. إن الدولة الريعية أو الاستبدادية الجديدة التي سادت لعدة عقود، بقطع النظر عن الايدولوجيا التنموية التي روجت لها لفترة طويلة، وبقطع النظر عن مناهضتها الظاهرية للنظام الرأسمالي العالمي، كان أثرها الاساسي على الدوام يتجسد في تعطيل الجدلية الاجتماعية، أي الالغاء التسلطي للصراعات الاجتماعية والطبقية من أجل تأمين الظروف الاكثر ملائمة للفئات التي صعدت الى السلطة، وبعضها بفعل " انقلاب قصر"، حتى تتحول الى فئات سائدة.
ان الطبيعة الريعية تمثل عاملا قويا في تثبيط التحرك نحو الديمقراطية في البلدان التي تحصل على ريع نفطي كبير، وسيكون الامر مثيرا للشك لو أقدم احد هذه البلدان على تبني الديمقراطية بمعناها وآلياتها المتعارف عليها وليس فقط اخذ جانب واحد منها وهو آلية الانتخابات. ومتى كانت الدولة قادرة على شراء الاجماع عن طريق توزيع السلع والخدمات والدخل بين مواطنيها لقاء القليل او لقاء لا شيء فإنها ليست بحاجة الى شرعية ديمقراطية. وبينت التجربة أن الدولة التي يأتيها ريع من الخارج، قد تشهد صراعات على السلطة وانقسامات قوية، ولكن وباستثناءات قليلة (كما جرى في "الربيع العربي") من الصعب ان تشهد مطالبة شعبية بالديمقراطية. غير انه من المستحيل منطقيا ان تستمر الحكومة غير الشرعية الى الأبد باعتمادها على القمع فقط (3). والمثال العراقي خير شاهد على ذلك.
اظهرت التجربة الاهمية الاستراتيجية للريع النفطي في تشكيل الاقتصاد السياسي بدرجة تفوق انماط التأثيرات الاقتصادية الاعتيادية في البنية الطبقية الاجتماعية. فالاعتماد الكبير للدولة على الريع النفطي من جهة، واعتماد المواطنين بدرجة كبيرة على تدخل الدولة الاقتصادي في توليد دخولهم من جهة ثانية، انهى التطور الاقتصادي الاجتماعي المتوازن وقطع الطريق على بناء دولة ديمقراطية عصرية. ويشير بعض الباحثين الى وجود علاقة بين تدفق الريوع البترولية والميل نحو الدكتاتورية معتبرين اياها أي الدكتاتورية " الوليد غير الشرعي للدولة الريعية "، وان بلدانا من هذا النوع تتقلب بين "الديمقراطية" والدكتاتورية تبعا لزيادة او نقصان حصة النفط في صادرات تلك البلدان (4).
لقد أدى هذا الوضع الى ترجيح وزن الدولة في التشكيلة الاجتماعية، والى تفتيت مجموعات كاملة من القوى الاجتماعية والى اعادة الانتاج الموسع لعملية تحطيم العلاقات الاجتماعية. وبعبارة اخرى يستطيع المرء أن يغامر باستنتاج قوامه أن فشل الدولة الريعية في هذه البلدان، ومنها العراق، لا يكمن في السياسات الاقتصادية المتبعة أساسا ولا في النوايا الواعية أو اللاواعية ! لدى الماسكين بمقاليد السلطة السياسية فقط بل وأيضا في شكل الدولة نفسه وفي محتواه الاجتماعي وفي وظائفيته الموضوعية وفي علاقته بالمسار التاريخي لتشكل الطبقات والفئات "الحاكمة".
ولهذا يتعين التأكيد على ضرورة اكتشاف ودراسة التحولات التي حصلت في شكل ومضمون الدولة في هذه البلدان، ليس عبر أثارها البسيطة، ولكن في التحولات العميقة لتمفصل الاقتصاد والمجتمع السياسي، لكي يمكن أن نفهم الاسباب الحقيقية لضمور المجتمع المدني وضعف ( أو انعدام فاعليته احيانا) من جهة، وسطوة الدولة ومؤسساتها المتنوعة من جهة أخرى. لهذه الأسباب وغيرها، تصبح المطالبة بالديمقراطية ليست ترفا فكريا عابرا بل هي ضرورة تمتع براهنية ملحة، لأنها ستسمح بفك الاشتباك بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي، بما يسمح بخلق الشروط لتطور الاول وتحرره من سطوة الدولة و عسفها وقمعها في الوقت ذاته.
ولأن الحديث كان في الاصل حول اشكاليات بناء الديمقراطية في ظروف الدولة الريعية التي تعتمد بالأساس على الريوع المتأتية من الخارج فان الحاجة ملحة هنا للتأكيد على تجاوز الاستخدام السيئ للريع النفطي، من خلال إعادة هيكلة القطاع النفطي ليكون أحد وسائل التنمية الاقتصادية وليس عبئا عليها. ويستدعي هذا "توظيف الريع النفطي لأغراض الاستثمار والتنمية بالدرجة الأساسية وتأمين الأشراف عليه من قبل المؤسسات التمثيلية للشعب مع مراعاة الظروف الاستثنائية التي يمر بها الاقتصاد العراقي حالياً التي تجعل من الموارد النفطية المصدر الأساس لتمويل الميزانية الحكومية وإنفاقها بشقيه الاعتيادي والاستثماري" (5).
ومع اختلاف الظروف إلا انه لا بد من الاشارة هنا الى بعض التجارب التاريخية ومن بينها " النموذج النرويجي" (6) حيث قامت هذه الدولة بالفصل بين ريع النفط وموازنة الدولة من خلال بناء مؤسسات مستقلة للسيطرة على الايرادات النفطية. ولعبت سياستها التدرجية في الانتاج والتصدير من جهة والفصل بين موازنة الدولة والريع النفطي، وقوة المؤسسات الراسخة في التجربة الديمقراطية من جهة ثانية، في تجنيب الترويج لمآسي الدولة الريعية، هذا مع العلم ان بناء الديمقراطية في هذا البلد سبق بوقت كبير ظهور النفط هناك.
ومن جهة اخرى هناك قضية اخرى تستحق التوقف. فقد طرحت وفي اكثر من مناسبة مسألة العدالة في التوزيع وفق آلية تقوم على أساس تقسيم العائدات النفطية على الأقاليم والمحافظات وفق النسب السكانية. تبدو هذه الصياغة مغرية من الناحية الظاهرية ومسكونة الى حد بعيد بسلبيات التجارب السابقة وفي مقدمتها " التجربة التنموية " لنظام صدام حسين حيث لوحظ تفاوت كبير على المستوى الإقليمي مما يتطلب تعويض الأقاليم أو المناطق أو المحافظات الأكثر تخلفا والتي عانت حرمانا كبيرا من " ثمار التنمية " ولم يكن لذلك علاقة بالنسب السكانية لوحدها بل بخيارات سياسية اقتصادية لذلك النظام. ولكن القبول بفكرة العدالة المشار إليها في الفقرة أعلاه، وفي الظروف الراهنة، سيساهم في فك العلاقة بين النفط والتنمية الاقتصادية الوطنية، إذ أن طرح مسألة " العدالة في التوزيع " كما جاء أعلاه رغم إغراءه النظري والعملي ايضا هو مفهوم لن يساعد في واقع الأمر على استغلال الثروة النفطية من أجل التنمية. وكما يشير العديد من خبراء التنمية فان الرهان على الاستثمار باعتباره نشاطا تنمويا ذا طبيعة وطنية (أي ليس وفق نسب السكان)، لا يمكن أن يقوم على أساس الإقليم أو المحافظة الواحدة، بل يستلزم التنسيق ضمن استراتيجية تنموية متوازنة. ولهذا لا بد من طرح القضية بشكل صحيح من خلال الرهان ليس على توزيع الاستثمار بالتساوي بل على توزيع فوائد الاستثمار بشكل عادل على جميع المحافظات والأقاليم بما يحقق تنمية مستدامة.
بالمقابل يجري الترويج لفكرة التوزيع النقدي لجزء من العائدات النفطية. ورغم أن هذه الفكرة ليست أصيلة بل هي مستقاة من تجارب أخرى (وتحديدا تجربة ولاية الاسكا الأمريكية) (7) التي تختلف طبعا عن ظروف العراق الملموسة اليوم. وعلى عكس ما هو سائد على المستوى الظاهري، بما تحمله هذه الفكرة من إغراء مالي، فإنها لن تقود في نهاية المطاف الى العدالة ولا إلى التنمية المستدامة، لجملة من الأسباب من بينها:
إنها تخلق قيما ونزعات استهلاكية في المجتمع ولا تساهم في التغلب على السمة الغالبة على الاقتصاد العراقي وهي البنية المتخلفة و الريعية والأحادية الجانب والمعتمدة أساسا على القطاع النفطي وما يضخه من عوائد. إن ما يحتاجه الاقتصاد العراقي اليوم هو التوجه نحو الاستثمار بما يحفز الطاقات الإنتاجية العاطلة، ويساهم في بناء اقتصاد متعدد القطاعات ومتنوع. وإذا تم اللجوء لفكرة التوزيع النقدي لجزء من العوائد بدون توسيع الطاقات الإنتاجية المحلية غير النفطية، فإن " فايروس" لنوع جديد من الشمولية والفساد الاقتصادي سوف "يولد".
سيخلق التوزيع النقدي لجزء من العوائد النفطية ضغوطا تضخمية إضافية تنعكس في ارتفاع مستويات الأسعار مما يلقي بثقله السلبي على مدى قدرة قطاعات واسعة من الفئات الاجتماعية، وخصوصا الفقيرة منها، على توفير الحد الأدنى من ما تحتاجه من سلع وخدمات.
كما أن إجراء هذا التغيير- أي التوزيع النقدي - قد يمنح فرصة إضافية للفساد والذي بلغ مستويات "رفعت" العراق الى " قمة " الدول التي تعاني من هذه الظاهرة المدمرة.
يمكن تحقيق هدف إعادة بناء الاقتصاد الوطني على أساس ديناميكية جديدة تخلصه من ركوده وبنيته المشوهة والأحادية الجانب، وإعادة صياغة دور القطاع النفطي في هذا الاقتصاد، من خلال التطبيق الفعال لسياسات متسقة توجهها استراتيجية اقتصادية اجتماعية تعرف ما تريد الوصول إليه، من خلال ربطها الراهن بالمستقبل وبما يمكن من إعادة الآمال الحقيقية وليس إنتاج أوهام.
ولهذا يجب تجنب وقوع الاقتصاد العراقي في فخ النفط، ووضع الضوابط الكفيلة بتحييد قوة النفط السياسية في الاستراتيجيات الكبرى للبلاد.
ويتطلب هذا، طبعا، ضرورة اعتماد إستراتيجية للتنمية تتكفل بتحويل القطاع النفطي ( الخام) من قطاع مهيمن وكمصدَر للعوائد المالية فقط (أي كمصدر للتكاثر المالي وليس للتراكم) الى قطاع منتج للثروات ويكون قطبا لقيام صناعات أمامية وخلفية تؤمن ذلك التشابك القطاعي المطلوب لتحقيق إقلاع تنموي حقيقي. ويستلزم هذا تنويع الاقتصاد، أي التغلب على البنية الاحادية الجانب، وإيجاد مصادر بديلة لتمويل الميزانية العامة يظلان هدفا مركزيا كشرط للتنمية المستدامة.
وهنا لابد من إطار استراتيجي لشروط التغيير في التخصص الإنتاجي والسلعي بحيث يتفق هذا التغيير وتتفق خياراته مع أهداف التنمية الصناعية وتساعد بالتالي على تعزيز البنية التكنولوجية والقدرة الوطنية على استثمار التكنولوجيا مع تجديدها وعلى تعزيز البنية الصناعية وتكاملها الرأسي وترابطها مع بقية القطاعات الاقتصادية. إن هذا يؤكد (إن كانت هناك حاجة للتأكيد) الحاجة الملحة إلى رؤية متكاملة للتغيير والتطوير الصناعي وتنسيق لهذا التغيير وهذا التطوير في القطاع الصناعي إجمالا وفي كل من فروعه الرئيسية على أساس النظر إلى هذا القطاع بمجمله وفق رؤية وسياسة استراتيجية وطنية صناعية - تكنولوجية يتحدد فيها دور كل القطاعات الاقتصادية.
وبالمقابل ثمة حاجة ملحة لبناء استراتيجية جديدة لمكافحة الفساد تستند بالاساس على الشفافية والعلنية في ادارة الموارد الاقتصادية من طرف الجهات المعنية بمختلف مستوياتها. فمن المعروف ان الفساد لم يعد في الواقع مجرد نشاطات فردية أو محدودة بل امتد ليشمل كافة قطاعات المجتمع والاقتصاد والدولة، أي انه اصبح مؤسسة. انه ظاهرة اقتصادية/اجتماعية/سياسية مركبة. لهذا فإن معالجة الفساد لن تكون مثمرة وناجحة إلا من خلال اعتماد معالجات سياسية/اقتصادية/اجتماعية.
لقد تعاظم استقطاب الدخل والثروة خلال المرحلة السابقة، الأمر الذي يؤكد مجددا أن هذا النمط من " التطور الرث " يعيد إنتاج الاستقطاب الاجتماعي ويفاقم الثروة من جهة والفقر من جهة أخرى. وقد ثبت أن "الانفراج" المحدود أسفر في واقع الحال عن "تآكل القاعدة الاجتماعية" وتعرض الجماهير الشعبية الفقيرة لمزيد من الحرمان والإفقار والتهميش.
ومن هنا التأكيد على ان تغيير شكل النظم السياسية بتشكيل " دولة ديمقراطية " لن يكون كافيا، لأن الحل الحقيقي يشير إلى أنّه ليس من إمكان لبناء دولة مدنية ديمقراطية دون تجاوز الطابع الريعي الخدماتي الراهن، و بناء اقتصاد منتج ومتنوع يعتمد على قطاعات الانتاج المادي وفي مقدمتها الزراعة والصناعة التحويلية، وتكون قاعدته الطبقات المنتجة وليس الطفيلية- الكومبرادورية، فهو وحده الذي يضمن حلا حقيقيا لمشكلات القوى الاجتماعية التي عانت من مرارات الاستقطاب والتهميش و الاقصاء من حقلي الانتاج والاستهلاك في النظم الريعية. حيث يلاحظ وجود فوارق كبيرة في مستويات الدخل لصالح الفئات التي راكمت الثروة وحصلت على المداخيل العالية عبر أنشطة ريعية لا صلة لها بالإنتاج، فضلاً عن الإيرادات غير المشروعة المرتبطة بالفساد المالي والإداري.
ويتطلب هذا من ضمن ما يتطلبه، مرحليا، اصلاحا اقتصاديا ينطلق من الاحتياجات الفعلية الموضوعية لمجتمعنا في لحظة تطوره الراهنة والتي تكمن في تحقيق التنمية المستدامة والديمقراطية والعدالة الاجتماعية بالاستناد إلى الإمكانات الذاتية من جهة مع السعي لبناء علاقات متفاعلة ومتوازنة ومتكافئة مع الاقتصاد العالمي. كما يتعين تجاوز الجدل حول دور كل من القطاعين الحكومي والخاص من خلال التغلب على "المسلمات" الشائعة عند البعض بأن القطاع العام يعني الخسارة وأن القطاع الخاص يعني الربح وبالتالي يجب المباشرة بخصخصة فورية، إذ أن الواقع يشير الى وجود أمراض اقتصادية تنتاب كلا القطاعين، ويتعين العمل على تجاوزها بدل الانشغال في "حرب المتاريس" بشأن من يتحمل المسؤولية. ومن المؤكد ان نجاح الاصلاحات الاقتصادية يتطلب تجنب الصيغ الجاهزة التي تعتمد الحلول المقطوعة الجذور عن واقع اقتصادنا والمهمات الملموسة التي تواجهه من جهة، وتوفير إجماع مجتمعي حول الإصلاح المطلوب. وهذا لن يتحقق إلا من خلال العلنية والمشاركة الفاعلة من مختلف أوساط المجتمع ومفكريه وخبرائه عبر تدشين نقاش عام من اجل بلورة الموقف بشأن القضايا الكبرى أو المفاصل الأساسية للإصلاح المطلوب، وضرورة أن يحظى هذا الإصلاح بالمصداقية والقبول من مختلف قطاعات المجتمع، وهذا يتطلب أن يرافق الإصلاح الاقتصادي جهود مركزة وحثيثة وصادقة للقضاء على الفساد وآليات إنتاجه و " ثقافته". ويعني ذلك ان برنامج الإصلاح والتطوير لن يحض بالدعم والتشجيع الشعبي ما لم يترافق بخطوات جادة للمحاسبة، تستهدف خلق مناخ نظيف ونزيه في معرض أداء الخدمة العامة، ويرتبط وجود هذا المناخ بمحاسبة وإبعاد رموز الفساد والحد من النزيف، وبخطوات جدية لاستعادة الأموال العامة المنهوبة.
والخلاصة، نحن شهود مشاريع وخيارات عديدة، متصادمة ومتضاربة، وهذا أمر طبيعي في ظروف مرحلة انتقالية مفتوحة، حيث تتنوع المقاربات والحلول المقترحة. ولهذا فإن الحاجة ملحة اليوم أكثر من أي وقت مضى لتدشين حوار وطني شامل يساعد على تحديد الإطار المطلوب للاقتصاد الذي تريده بلادنا، وبناء اقتصاد وطني ذي بنية ديناميكية قادرة على التكيف مع المتغيرات الناشئة على ارض الواقع العراقي وكذلك مع متطلبات التحولات الاقتصادية والسياسية العالمية وما تطرحه من استحقاقات.
لن تتحقق الديمقراطية في العراق طالما ظل الاقتصاد ريعيا – مشوها و احادي الجانب، وستبقى البلاد تواجه حالات استعصاء دائمة طالما ظلت اسس الدولة الريعية – الاستبدادية قائمة.
ومن المؤكد ان التغيير المطلوب لن يتحقق إلا ببناء بديل يكسر محاولات احتكار السلطة وإعادة إنتاجها و يؤسس لوعي اجتماعي جديد. ان تحقيق هذا البديل يحتاج الى أفق أوسع والى قوى جديدة وتحالفات تكون قادرة على احداث تغيير حقيقي في تناسبات القوى الفعلي وليس اعادة انتاج النظام الراهن الذي اصبح عائقا امام بناء الدولة المدنية الديمقراطية العصرية.
انه طريق صعب.. لكنه ممكن التحقيق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش
(1) Comp: Hanieh, Adam. (2011). Capitalism and Class in the Gulf Arab States, Palgrave Macmillan.
(2) لمزيد من التفاصيل حول هذه الاشكاليات قارن : سمير أمين، « قضية الديمقراطية في العالم الثالث «، الفكر الديمقراطي، العدد 11/1990، ص 16 ولاحقا ، كذلك د.صالح ياسر حسن، « بعض الاشكاليات المرتبطة بمفهوم « الفئات الهامشية « في البلدان النامية «، مصدر سابق، ص 39.
(3) لمزيد من التفاصيل قارن: جياكومو لوتشياني، « الاسس الاقتصادية للديمقراطية «، الثقافة الجديدة، العدد 307 – 308/تموز – آب /2002، ص 123-128.
(4) لمزيد من التفاصيل حول هذه المقاربة قارن: عدنان الجنابي، الدولة الريعية والدكتاتورية. متاح على الرابط التالي: http://www.sotaliraq.com/mobile-item.php?id=121067#axzz2LRG8m4Pb
(5) لمزيد من التفاصيل حول هذه النقطة قارن: د. صبري زاير السعدي، التجربة الاقتصادية في العراق الحديث (بغداد: دار المدى للثقافة والنشر، 2009)، الطبعة الأولى، مصدر سابق.
(6) لمزيد من التفاصيل حول هذا النموذج راجع: فاروق القاسم، النموذج النرويجي – ادارة المصادر البترولية، سلسلة عالم المعرفة (373)- سلسلة كتب ثقافية شهرية يصدرها المجلس الوطني للثقافة والفنون (الكويت: مارس 2010).
(7) لمزيد من التفاصيل حول هذه التجربة (الاسكا) انظر: النفط والاستبداد. الاقتصاد السياسي للدولة الريعية....، مصدر سابق، ص 281 ولاحقا.