مدارات

الخالص وثورة العشرين / عبد الكريم جعفر أحمد الكشفي

آه يا مدينة الخالص، مدينة الاحبة والشهداء، مدينة الادباء والشعراء يا من عانيت من كر الجديدين وطوارق الحدثان الكثير والكثير فخرجت من المحن وأنت أصلب عوداً وأقل خموداً ... أيتها المدينة العظيمة والوردة المطمئنة بزغ فجرك وعلا مجدك فأنت إشراقة شمس لا تعرف الافول ... أنت غيث في صحارى أيامنا لقد كتبت تأريخك العظيم بأحرف من نور في ذاكرة الزمن ... يا مدينة الكبار الراحلين العلامة مصطفى جواد وفؤاد عباس وحسين بستانه، يا بلد الشيوعي الكبير المناضل محمد حسين العبلي الذي استشهد على يد الفاشست الجدد في 19/تموز 1963 ... يا بلد الاحياء المبدعين أمد الله في أعمارهم المبدع العزيز قيس عبد الكافي صاحب كتاب "أدباء الخالص" والشاعر أنمار الجراح والمبدع محمد سعيد الصكار والشاعر الصديق باقر موسى الباقري والمربي الفاضل محمد محمود صالح والمناضل الكبير حسن حمود أبو سموأل عشرات لا بل المئات غيرهم .... يا بلد العوائل العريقة التي عانت من ظلم صدام عائلة ال الخدران البياتية وعائلة العلايسي وعائلة عبد ياسة وأخرون ....
لم تكن ثورة العشرين في الخالص حادث يوم أو ثمرة غرور، وأنما هي نتيجة جهاد شعبي ونضال مرير تكتل من أجله الشيب والشباب والنسوة أياماً طوال فكان ثمرتها فك قيد من استعمر وطلب حرية وأستقلالاً وتبديل مجرى التأريخ بقلب صفحة سوداء قاتمة إلى أخرى بيضاء ناصعة طرزت بالدم، فبقيت خالدة ما بقي الدهر، فكانت مستهل تأريخ نهضتنا وفاتحة عهد استقلالنا ومفتاح باب حريتنا .... لقد هب أبناء الخالص الاوفياء في هذه الثورة ملبين نداء الوطن دون إن تخيفهم قوة العدو البريطاني البغيض أو ترهبهم عدته وعدده، ولم يكن لهم معين في هذه الثورة العظيمة غير الروح الوطنية العارمة والملتهبة ... على أثر سقوط بعقوبة في 1/آب / 1920 على يد الوطني أبن عبدكة أشتعل أوار الثورة في الخالص، يوم 10/آب 1920 لقد كان الحاكم العسكري لمدينة الخالص هو المستر لويد وكان حاقداً متغطرساً فقد كان يأمر أهالي الخالص بالسجود له ... إن حماقة هذا الحاكم قد أججت الحماس والثورة لدى أهل الخالص فقد تجمع أبناء الخالص الشرفاء وبتوجيه من الزعيم الوطني محمد الصدر رئيس جمعية حرس الاستقلال حيث أستطاع هذا وبمساعدة الاهالي من السيطرة على الخالص في 12/آب/ 1920 بعد إن أستغل نقل القوات البريطانية من الخالص إلى بغداد ( ذكر ذلك كوتلوف في كتابه ثورة العشرين ص125 مطبعة النهضة ) ... لقد جمع فرع حزب الاستقلال وجهاء الخالص وهم داود الجوهر وعبد الغني الخاصكي وعلوان العزاوي رئيس بلدية الخالص وشاكر حميد رشيد الفرج وعبد الخدران وجواد العزاوي والشيخ حبيب الخالصي وعبد الخالق الهاتف وعبد الحميد المصطفى وعبد العزيز الهويدراوي المجمعي، وانضمت لهم عشائر العنبكية بقيادة ال عبدال وعشيرة ألبو هيازع بقيادة المناضل أبو خشيم، حيث أستطاعت هذه المجموعة المناضلة الهجوم على سراي الخالص مقر دار الحكومة وأمطروه بوابل من الرصاص، ثم كسروا باب السراي مما أضطر الحاكم العسكري لمدينة الخالص الى الاستسلام وتم أسره وأسر من معه من البريطانيين والمرتزقة الهنود السيخ وسيقوا إلى دار الثائر رشيد الفرج ومن ثم تم نقلهم إلى مضارب حبيب الخيزران أحد قادة الثورة في دلي عباس، وبعد إن تم تحرير الخالص بالكامل وقف أبو خشيم شيخ عشيرة البو هيازع على صهوة جواده والقى خطبة عصماء في أهالي الخالص قال فيها ((أيها الناس لا يأخذنكم الفزع ولا ينالكم الخوف فقد ذهب الغاصبون والمستعمرون وبقينا أحراراً نحن وشأننا وكلنا عنصر واحد وقلب واحد ونفس واحده فعودوا إلى أعمالكم .... )) وكان لرجال الدين الروحانيين دور كيبر في تأجيج الثورة وخاصة مهدي الصدر وحبيب الخالصي ومحسن العاملي الذين بثوا الدعوة للثورة وتحريك الخواطر واستفزاز النفوس وعندما أستتب الامر للثورة وصل إلى الخالص الزعيم الوطني الكبير محمد مهدي الخالصي والذي كان رغم شيخوخته وكبر سنه يسهر طوال الليل مع الثوار على المتاريس وفي الطريق، كما عبر محمد مهدي الخالصي ويوسف السويدي إلى قبائل المشاهدة في الضفة الشرقية لدجلة يدعون الناس للثورة ضد المحتل حيث انتفض أهالي بلد وسميجة بعدها عاد يوسف السويدي إلى بغداد ورجع محمد الصدر إلى قرية الجيزاني واستقر في الخالص لتنظيم حركة الثوار. لقد ظل محمد الصدر طوال فترة الثورة في الخالص مسلحاً يقود الكتائب ويتقدم الجموع ويصمد أمام الحوادث وكان موقفه هذا درساً بليغاً ومثمراً للشباب الثائر الذين صاروا يقلدون قائدهم ويصمدون. أما أعداء الثورة قد سور أهالي الخالص المدينة وجعلوا لها أربعة أبواب عليها الحمايات، وقطعوا أسلاك الهاتف وهدموا القناطر حتى يصعب على الاعداء الوصول إلى المدينة، كما صعد شاب على دار الحكومة ومزق العلم البريطاني ورفع العلم العراقي بدله بين هتاف وتصفيق والناس، وزغردة النسوة كما أستدعوا الوطني الملا محمد حسن الالقاء خطبة بهذه المناسبة ثم عين الثوار عبد الوهاب العبلي من عشيرة ألبو مفرج مديراً للشرطة يساعده في ذلك عبد الدائم وكان من الشرطة المساعدين مهدي الخدران وعزاوي العلوان وسلمان السني وغيرهم .. وكل هؤلاء كانوا يقومون بالعمل طواعية ... مر على سيطرة الثوار على الخالص أسبوع والثوار يقون السواتر والحاميات وترانيم الفرح وأهازيج الحرية بادية على محيا الجميع ... وفي اليوم الثامن من السيطرة وعندما كان الناس نياماً فجرا،ً وأغلبهم كانوا نياماً على السطوح، وهذه عادة العراقيين قديماً سمعوا هدير ست طائرات تحوم حول المدينة فهب الجميع والفزع باد على الوجوه، لقد أمطرت هذه الطائرات المدينة بوابل من القنابل وكانت كلما تفرغ حمولتها من القنابل تعود ثانية محملة بالقنابل وترمي الناس والمدينة وهي لا تفرق بين صبي وأمراة أو رجل، استمر هذا الحال أكثر من شهر والطائرات مستمرة بالقصف وعزيمة الثوار لم تثبط والثوار كانوا يحتالون بشتى الوسائل على المقاومة. أما عامة الناس فقد أختبأ أغلبهم في البساتين وفي الدور ذات الطابقين حماية من الشظايا .... وفي يوم 24/ أيلول / 1920 والذي صادف عاشر محرم 1339هـ حيث كان الناس يؤدون مراسيم عاشوراء، تضاعف القصف بشكل ملفت للنظر وأستعمل المحتل قنابر من النوع الكبير حتى كانت عند سقوطها تقلع النخلة من جذورها، وبعدها تقدم الجيش البريطاني ومعهم الهنود المرتزقة والجواسيس الخونة من الجهة الشرقية لنهر التحويلة، وكثفوا القصف بالطائرات والمدفعية مما أجبر الثوار على الاحتماء بالبساتين .. لقد كانت هذه المعركة حامية الوطيس وغير متكافئة فالجيش البريطاني أكثر عدة من الثوار يساعده في ذلك الجواسيس الخونة من أهل بعقوبة .. لقد أستطاع الجنود البريطانيون أسر أعداد كبيرة من أهالي الخالص وتم الاعتداء عليهم بوحشية لا توصف، حتى إن قسماً منهم سملت عيونهم، وحتى النساء لم تسلم من أياديهم المجرمة، كما سرقوا الذهب والأشياء النفيسة من البيوت ومن النساء والاطفال ولم يسلم من أيديهم حتى العجزة ... فقد وجدوا مسدساً صدئاً لا يعمل عند أحد الشيوخ، وكان كبير السن، فأوثقوه ورموه بالرصاص. أمام أعين الناس، وإن شاباً من بيت الخاصكي حاول الهرب من قبضتهم فرماه جندي برصاصة في رأسه فوقع شهيداً فسحلوا جثته الطاهرة في الشارع .. كما أحرق المحتل دار الشيخ حبيب الخالصي وهدموا كثيراً من الدور .. لقد كانت هذه الحوادث نكبة كبيرة على أهالي الخالص استشهد فيها الشيب والشباب وحتى النساء .... وقد نظم المربي الكبير رشيد عبد علي صاحب كتاب (الخالص من تأريخ الخالص ) قصيدة عصماء يصف فيها هذه المجزرة الرهيبة وقد بدأتها
اليـــــــــلى ما لدمعـــــــك قـــــد تجـــــــــارى
ومـــــــن عينيـــــــك ذا الشــــــــــــرر أستـــــــــــطارا
وفي الختام أستميح الاخوة القراء العذر وخاصة أهالي الخالص الاعزاء من إن الموضوع طويل والحوادث كثيرة لا يمكن جمعه في مقال وأحد ولربما أغفلت بعض الشخصيات والرجال وبعض العشائر نسياناً لا عن عمد أو اختصار، متمنين لاهل الخالص الاوفياء الصحة الدائمة والعمر المديد .