مدارات

مفهوم الطائفية السياسية، تحليل جذورها الفكرية، والثقافية، والاجتماعية، والاقتصادية / عبدالحسين صالح الطائي

إن الهدف من دراسة هذا الموضوع كونه حقيقة تأريخية وواقع معقد تداخلت فيه أمور كثيرة من نتاج الماضي، وتأجيج طائفية اليوم هو عملية استمرار وتواصل مع الماضي. فالطائفية السياسية هنا تعني توظيف الدين من منطلق طائفي لأغراض سياسية دنيوية، وقد لا يكون هذا التوظيف يصب بالضرورة في مصلحة الطائفة. فالطائفية السياسية هي نمط من التحيزات السياسية، ولكن بغطاء مذهبي أو ديني، يلجأ إليها بعض الزعماء السياسيين الذين قد لا يكونون في أغلبهم متدينين بقدر ما يكونون أشخاصا تغلب عليهم المصالح الشخصية في اللعب على إثارة مشاعر الناس الطائفية من أجل تحقيقها.
وللطائفية السياسية صور وأشكال شتى يتمترس خلفها البعض لتحقيق أجندته الخاصة، ويلجأ لها الكثير من الفاشلين سياسياً لتغطية فشلهم باستدعاء عصبية الطائفة أو القبيلة أو المذهب، لمواجهة أية مساءلة قانونية أو منافسة سياسية مع خصومهم(1). ومعظم الأحيان تكون الطائفية السياسية مكرسة من ساسة ليس لديهم التزام ديني أو مذهبي بل هو موقف انتهازي للحصول على "عصبية" كما يسميها ابن خلدون، أو شعبية كما يطلق عليها في عصرنا هذا ليكون الانتهازي السياسي قادرا على الوصول إلى السلطة. إن مجرد الانتماء إلى طائفة أو مذهب لا يجعله طائفيا إذا لم ينتج عن عمله إضرار بحق الآخرين، ولكن الطائفي هو الذي يرفض الطوائف الأخرى ويغمطها حقوقها( 2).
إن النظرة الشاملة لمفهوم الطائفية تكشف عن وجهين متضادين: الأول: يتمثل بالتعامل مع الأنتماء المذهبي بشكل طبيعي، كحالة فطرية متجذرة في التركيبة الأنسانية، والثاني يرتبط بالتعصب الطائفي وما ينجم عنه من انحراف وأوهام ( 3). فالمذهبية الدينية تعني تحديد هوية جماعة ما على أساس الروابط الدينية فيما بين أفرادها فإذا كان الأنتماء المذهبي واقعا يعيشه المجتمع بقناعة فأنه يعبر عن التعددية الفكرية، وتكون فكرة التعايش على اساس التنوع الثقافي لاسيما حين تستند إلى مبدأ المواطنة، ولكن إذا أصبحت الطائفية قاعدة لبناء الحياة السياسية في أي بلد فالمتوقع أن تسود حالة من التطرف والصراع على السلطة، وسعي كل طائفة إلى تهميش الطوائف الأخرى. فالطائفية السياسية ذات الصبغة الدينية هي ظاهرة موجودة في الحاضر، لأنها تعتبر رد فعل للأزمات السياسية والاجتماعية والثقافية في أغلب مجتمعاتنا ( 4).
فالطائفية انتماء لطائفة معينة دينية أو اجتماعية ولكن ليست عرقية فمن الممكن ان يجتمع عدد من القوميات في طائفة واحدة بخلاف اوطانهم أو لغاتهم. ووفقاً لمبادئ الأمم المتحدة يحق لكل البشر الانتماء والتصريح بالانتماء لأي دين أو اعتقاد أو طائفة، بشرط أن تكون أفكار الشخص لا تحض على أذى أو الإجرام بالآخرين. ويعرف معجم اوكسفورد الشخص "الطائفي": بأنه الشخص الذي يتبع بشكل متعنت طائفة معينة، ويرفض الاعتراف بالطوائف الأخرى، ويسلب حقوقها بدافع التعصب لطائفته في جميع الظروف والأحوال(5).

جذور الطائفية:

ترجع جذورالطائفية في أوروبا إلى الأحداث المريرة التي حصلت خلال العصور الوسطى بين البروتستانت والكاثوليك أو الأرثوذكس والكاثوليك، في إطار الديانة المسيحية، وراح ضحيتها آلاف الناس. وما الصراع الطائفي الدامي في إقليم إيرلندا الشمالية التابع لبريطانيا بين الكاثوليك والبروتستانت الذي استمر سنوات طويلة إلاّ مثالاً آخر للصراعات الطائفية في العصر الحديث(6). وقد شهدت الهند قبل عهد الاستقلال في أربعينات القرن الماضي حربا طائفية بين الهندوس والمسلمين، أفضت إلى تقسيم الهند إلى دولتي الهند العلمانية وباكستان الإسلامية عام 1947، والتي انقسمت فيما بعد إلى باكستان وبنغلادش عام 1971، فضلا عن صراع مفتوح حول ولاية كشمير المسلمة بين الهند وباكستان والذي قاد إلى حروب عديدة بينهما، وما زال يمثل مصدر توتر دائم بين البلدين. ومثال آخر انفصال ولاية تيمور الشرقية ذات الأغلبية المسيحية عن جمهورية اندونيسيا ذات الأغلبية المسلمة بعد صراع لسنوات طويلة. وقبل عقود قليلة كانت ماليزيا تضم مجتمعا مفككا، هذه الدولة لم يكن لها وجود بهذا الاسم قبل 1963، ينحدر سكانها من أصول وعرقيات مختلفة، ولكنها اختارت أن تزج بنفسها في العصر الحديث بقوة التعليم فنجحت في أن تكون دولة حديثة، ينعم مواطونها بالرخاء والأمن والتربية المتصلة بروح التسامح الوطني(7).
والأمثلة كثيرة على التناحر الطائفي، إلاّ أن ما يعنينا هو بروز المد الطائفي في بعض بلداننا العربية وما ينطوي عليه من مخاطر على امن السلم الأهلي حيث فتح الباب واسعا على مصراعيه للتدخلات الأجنبية والإضرار بالمصالح الوطنية، ناهيك عن تبديد الثروات وإيقاف عجلة النهضة وتقدمها للحاق بركب الحضارة الإنسانية، فضلا عن قتل وتهجير ملايين الناس وفقدانهم لممتلكاتهم، ليتحولوا إلى غرباء في أوطانهم أو لاجئين في بلدان أخرى. ففي مصر مثلا اتخذ العنف الطائفي مسار التصادم بين أبناء الوطن الواحد من المسلمين والمسيحيين الأقباط، وفي لبنان اتخذ الصراع الطائفي مسارات عديدة، تارة بين المسلمين والمسيحيين بدعوى خطر الوجود الفلسطيني وتداعياته على الأمن اللبناني، وما نجم عنه من حرب أهلية شرسة لقرابة عقدين من الزمان، وتارة بين المسلمين من السنة والشيعة بدعاوى دعم المقاومة بحسب رأي البعض، وتداعيات الوجود السوري في لبنان بحسب رأي الطرف الآخر، والتي في أساسها تصفية حسابات إقليمية ودولية على حساب المصالح اللبنانية. وفي اليمن تثار الفتنة الطائفية بين الحين والآخر بين الحوثيين ومواطنيهم من أهل السنة والجماعة. وها هي المأساة تتكرر الآن في سوريا بعد أن تحولت الاحتجاجات المطالبة ببعض الحقوق السياسية إلى حرب طائفية لتصفية حسابات إقليمية ودولية. وتبلغ الفتنة ذروتها في العراق حيث تحاول جهات عديدة داخلية وخارجية صب الزيت على النار المستعرة منذ غزو العراق عام 2003 حتى يومنا هذا بين جماعات محسوبة على الطائفتين السنية والشيعية دون تفويض من أي منهما، حيث اتخذت هذه الفتنة أشكالا متعددة، كان نتيجتها إزهاق أرواح آلاف الناس دون ذنب، وتشريد آلاف أخرى من مناطقهم بهدف التطهير الطائفي(8).
يرى الباحث علي المؤمن بأن جذور الطائفية في الاسلام ترجع إلى سقيفة بني ساعدة في المدينة المنورة، حيث شهدت فصول بدء الخلاف، فقد كانت (الخلافة) هي أساس الانشقاق الأول. فبعد وفاة الرسول (ص) مباشرة، اجتمع المسلمون في السقيفة لاختيار من سيكون الخليفة. هذا الحدث أدى بمرور الزمن إلى ظهور بوادر الطوائف والفرق نتيجة الآراء والمواقف المختلفة، التي اختلطت فيها المفاهيم الفكرية والسياسية. ومن عوامل ظهور الفرق والمذاهب، خاصة بعد قيام الدولة الأموية، حاجة الحكام إلى اتجاهات تشريعية تناقض الاتجاهات التي تخالفهم فكرياً وسياسياً وإلى غطاء ديني يدعم ممارساتهم. وكذلك شعور بعض الاتجاهات (الفكرية السياسية) التي لها عمق زمني، بضرورة بناء كيان مذهبي مستقل، انطلاقاً من اعتقادها بأنها تمثل الموقف الشرعي الملزم، وبأحقية تصوراتها في المجالات الكلامية والفقهية والسياسية، وانها تمثل الاسلام الأصيل. اضافة إلى الحالة النفسية العميقة المعادية للحكام الذين قبضوا على زمام البلاد الاسلامية باسم اتجاه مغاير، مما أدت هذه الحالة إلى تعميق سعة الفرقة لدى بعض الجماعات، كنتيجة طبيعية لما تعرضت له من تقتيل وتشريد وظلم (9).
وأكد د. علي الوردي بأن الصراع الطائفي كان موجوداً في العراق منذ صدر الاسلام، وكانت الطائفية تشكل أبرز الانقسامات التي تحدث عنها التاريخ بين السنة والشيعة في العراق. وطالما شهدت بغداد في العهد العباسي معارك بين المحلات السنية والشيعية، يسقط فيها الكثير من القتلى، وتحرق البيوت والأسواق، وتنتهك حرمة المراقد المقدسة. ولكن هذا الصراع بلغ أوجه عندما حدث التنازع على العراق بين الدولتين الايرانية والعثمانية، الذي استمر أكثر من ثلاثة قرون، حيث الدولة الايرانية اتخذت التشيع شعاراً لها بينما اتخذت الدولة العثمانية شعار التسنّن، فأدى ذلك إلى استفحال الصراع الطائفي الدموي في العراق. وفي ذلك الوقت، لم يكن أهل العراق يعرفون شيئاً من المفاهيم السياسية الحديثة كالوطنية أو القومية أو الاستقلال، بل كان جل ما يشغل بالهم هو الأحساس الديني المتمثل بالتعصب المذهبي. والحقيقة كان الصراع الطائفي يقوم في ظاهره على أساس الخصومة بين من يدعي التمسك بأصحاب النبي ومن يدعي التمسك بأهل بيته، والواقع أن الدولتين العثمانية والايرانية كانتا متماثلتين من حيث بعدهما عما كان يدعو إليه اصحاب النبي وأهل بيته معاً (10). وبمرور الزمن أخذت الطائفية المنعطف السياسي مع تأسيس الدولة العراقية الحديثة، خاصة بعدما اتخذت القوى الخارجية والاستعمارية من العراق موطناً لها. وبهذا ندرك بأن مشاكل اليوم لم تأتِ من فراغ، بل هي من نتاج الماضي واستمراره.
وهنا تبرز الضرورة بالعودة إلى أحداث تاريخنا المعاصر لنتفهم من خلاله، بعض أحداث الحاضر المريرة ومآسيه وما المطلوب منا تجاوزه لتحقيق مستقبل أفضل.

الطائفية والإحتلال البريطاني:

خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر برز التدخل الاستعماري كأهم عامل ومسبب للمشكلة الطائفية الحديثة. فقد اتبع الأستعمار في تعامله مع الشعوب المستعمرة، سياسة (فرق تسد). وكان يعتمد على الأقلية في أي بلد تحت سيطرته، وذلك من أجل خلق فجوة عميقة بين هذه الأقلية وبقية الشعب. فمن جهة، تؤدي هذه السياسة إلى تفتيت الوحدة الوطنية وتجعل الشعب مفككاً وضعيفاً في نضاله من أجل التحرر، وتجعل هذه الأقلية ضعيفة إزاء الأغلبية، ومن أجل استمرارها في السلطة، تضطر أن تعتمد على الدعم الخارجي (المستعمر) واضطهاد الأغلبية في الداخل. وبذلك تسهل سيطرة المستعمر على ذلك الشعب بربط ديمومة حكم النخبة مع مصالح المستعمرين ( 11). وهذا ما حصل في مرحلة الاستعمار البريطاني للعراق، وممارساته المعروفة خلال مرحلة الأعداد لتأسيس الدولة العراقية في سنة 1921 وما بعدها لغاية سقوط العهد الملكي وقيام الجمهورية.
كادت الطائفية أن تختفي تدريجياً في بداية العهد الجمهوري بسبب مواقف الزعيم عبدالكريم قاسم الحيادية وابتعاده عن سياسة التمييز خلال مرحلة حكمه. إلا أنها أخذت طابعاً جديداً في عهد عبد السلام عارف الذي جعل منها أساساً للتقرب إلى السلطة والمناصب الحكومية. وبرزت بشكل واضح ومتطرف في عهد البكر- صدام من خلال المظالم الكثيرة، فقد قام النظام بممارسات بعيدة عن قيم الانسانية ضد الكثير من أبناء الشعب العراقي بدوافع طائفية وعنصرية، فقد قام بعملية تهجير قسري لآلاف من العراقيين، خاصة الأكراد والأكراد الفيلية والتركمان والبعض من العرب، واسقط الجنسية عن الكثير منهم. وبهذا ندرك جيداً بأن التهميش والتمييز الطائفي والعرقي قد وُضِع مع لبنات بناء الدولة العراقية الحديثة.
وهناك عدة عوامل غذت وساعدت على تكريس الطائفية منها:
1- ربط القومية العربية بالطائفية: إن أكبر الخطايا التي اقترفها أكثر رواد حركة القومية العربية في أوائل القرن العشرين ومن تلاهم فيما بعد، سواء كانوا من الشيعة أو السنة، بأنهم ربطوا حركة القومية العربية ببعض الممارسات الطائفية.
2- الردة الحضارية: قام نظام البعث، بتدمير الطبقة الوسطى في المجتمع العراقي، وسعى إلى بث مشاعر روح البداوة من جديد بالمجتمع من خلال إعادة التقسيمات القبلية والعشائرية والاعتماد عليها بشكل منحاز، هذا الأمر أدى إلى تأجيج روح الطائفية بين الناس.
3- التطرف والأحتراب: يعتبر التطرف واقع حال في العراق، فهناك نظرة من بعض المتطرفين السنة المعادية للشيعة، حيث يوصمون شيعة العراق بشتى النعوت المهينة، والطعن بعروبتهم ووطنيتهم، مثل وصمهم بالعجمة، والشعوبية، والرتل الخامس، والولاء لإيران وغيرها من الاتهامات الجائرة، وراحوا يؤلفون الكتب ويكتبون المقالات لترويج وتأكيد هذه الاتهامات، وإلصاق النعوت المهينة بالشيعة. وقد بلغ الغلو في البعض من القوميين الصداميين إلى حد أنهم ادعوا أن الشيعة ليسوا عراقيين أصلاً، بل جلبهم القائد العربي الإسلامي، محمد القاسم مع الجواميس من الهند وأسكنهم أهوار الجنوب. وهذا الأمر بالتأكيد أدى إلى تحرك أعداد غير قليلة من الأقلام الشيعية بالرد على هذه الاتهامات، مما أدى إلى تأجيج النهج الطائفي المتطرف من الطرفين.
4- دور العامل الخارجي الأقليمي والدولي: استغلت دول الجوار تعقيدات الوضع العراقي، وبالأخص التعدد المذهبي، وخوفها من نجاح العملية السياسية في العراق، وارتعابها من وصول عدوى الديمقراطية إلى بلدانها، لذلك ساهمت هذه الدول في تأجيج الفتنة الطائفية، وصب الزيت على النار المشتعلة في العراق لإفشال العملية السياسية ومنع الديمقراطية. وكل دولة تحاول دعم الطائفة التي تماثلها في المذهب، فعلى سبيل المثال يسعى النظام الايراني إلى توسيع نفوذه في العراق من خلال ارتباطاته بقادة بعض احزاب الاسلام السياسي الشيعي، ومحاولة فرض ولاية الفقيه. وبالمقابل تجتهد تركيا بمحاولة اعادة أمجاد الدولة العثمانية من خلال بعض احزاب الاسلام السياسي السني الموالية لها. وقد نجحت أفكار الوهابية السعودية في تنفيذ مخططاتها، بعدما تحولت إلى محور مؤثر في تكفير المذاهب الأخرى. وبهذا يمكن القول بأن المخططات الاستعمارية قد نجحت في توسيع الفجوة الطائفية بين السنة والشيعة في الكثير من المجالات.
5- ضعف العامل الوطني: أدى توجه أحزاب الاسلام السياسي إلى إعطاء الأهمية لدور الأمة الاسلامية، واتضح دور الأحزاب القومية في تكريس اهتمامها بالأمة العربية، وكذلك فعلت الأحزاب الأيديولوجية اليسارية إلى توجيه اهتمامها الأكبر إلى الجانب الأممي. اضافة إلى كون العراق، على مدى العصور ساحة مفتوحة الحدود، استقطب اعداد كبيرة من الهجرات التاريخية من مناطق الجوار التي تعتز بالانتماء إلى جذورها الأصلية. كل هذه الأمور نعتقد بأنها قد ساهمت بأضعاف العامل الوطني، وجعلت الأكثرية تفكر بالولاء للطائفة أو القبيلة أو للأحزاب الأيديولوجية. هذا الأمر بدوره ساعد على تغذية الطائفية من خلال عملية الانحياز، سواء كانت بشكل مباشر أو غير مباشر.
6- التحريض الأعلامي: يقوم الاعلام التحريضي، المتمثل بالكثير من الصحف والقنوات الفضائية وغيرها، بدور كبير في نشر الممارسات الفكرية المتطرفة التي تحفز الشعور النفساني الدفين عند كل الأطراف المتصارعة، من منطلقات طائفية، مذهبية، عشائرية. وقد نجحت بعض القنوات الاعلامية المنحازة بتأجيج الطائفية من خلال ممارسة عملية التضليل والتطرف والمبالغة والتأثير على الرأي العام ضمن خطط معدة سلفاً (12).
7- الجمود العقلي: يسهم الجمود العقلي والاجتماعي، للجماعات المتعصبة والمتزمتة والمتطرفة، إلى التأثير السلبي على الكثير من القيم الانسانية الأساسية مثل التسامح والحوار واحترام الرأي والرأي الآخر، لأنها تفسر تعاليم الاسلام على هواها وتجتزئ الوقائع التاريخية من سياقها الحقيقي، هذه الأمور وغيرها أدت وتؤدي إلى خلق حالة من الركود الاجتماعي والتحسس والتوتر بين الأطراف المتنافرة والمتعصبة، سواء في العراق أو في العالم الاسلامي بشكل عام (13).
8- التربية الاجتماعية: لا يمكن أن نهمل هذا العامل المهم، حيث يسهم الوسط العائلي المتعصب دينياً، نتيجة الموروث الكبير الذي تركته الأحداث التاريخية في العراق على مر العصور، في إثارة المشاعر السلبية تجاه الأطراف الأخرى والنعرة الطائفية، بطريقة مقصودة أو غير مقصودة، وبالتالي هذا الأمر يدفع الأبناء في كثير من الأحيان بالقيام ببعض الأعمال المتطرفة ضد الآخرين نتيجة عملية التأثر بالطروحات الفكرية للأهل والتحسس من الآخر المختلف.
وخلاصة القول أن الطائفية السياسية قد أفرزت حكومات فاشلة يقودها اناس غير أكفاء، ممن وظفوا الغرائز الطائفية بعيدا عن الحيادية ومنطق العقل وخلافا لتعاليم الدين ضد خصومهم السياسيين من الطوائف الأخرى لتحقيق مأربهم الشخصية، وأدت إلى صراعات دامية، وإيقاف عملية التنمية والرجوع إلى الوراء عشرات السنيين، وتفشي ظاهرة الفساد دون حسيب أو رقيب، وانتشار البطالة لاسيما بين صفوف الشباب وتعاطي المخدرات، وتراجع التعليم بأنواعه وازدياد عدد الأميين، لاسيما بين صفوف الإناث، وانهيار الأمن ومنظومات القيم والأخلاق وتفتيت النسيج الاجتماعي، وهجرة الملايين إلى الخارج وبخاصة أصحاب الكفاءات من المفكرين والمبدعين وأساتذة الجامعات، وفسح المجال واسعا أمام التدخلات الخارجية للعبث بأمن ومقدرات الوطن(14). لذا نعتقد أن الحل لتجاوز الطائفية السياسية يكمن في أمور كثيره أهمها:
1- بناء دولة المواطنة المدنية العصرية الديمقراطية، والعمل على إقامة العدل وتحقيق المساواة بين جميع المواطنين في سائر الحقوق والواجبات، وبالخصوص حماية حرية التعبير والممارسة الدينية، وكفالة الحقوق الاجتماعية وعلى رأسها حق العمل وضمان تكافؤ الفرص، بموجب القوانين دون أي تمييز بينهم بسبب العرق، أو الدين، أو المذهب، وبناء مؤسسات المجتمع المدني وتفعيلها، وتشكيل اللجان التي تدعو إلى مكافحة التمييز.
2- العمل على نشر ثقافة الديمقراطية، ومبدأ الحوار، وبث روح التسامح، وأن تكون هناك دعوة إلى كل الأحزاب الدينية بأن يخرجوا لفضاء الأحزاب المدنية الديمقراطية، بحيث يستطيع كل مواطن الأنتماء إليها بدوافع وطنية. ومن ثَّم تهيئة الأجواء للانتخابات الحرة والانتقال التدريجي إلى الديمقراطية، واقامة حكومة برلمانية تمنح حق التمثيل السياسي لجميع المواطنين، وتؤمن بالحريات العامة، كحرية الصحافة والرأي وحرية العبادة (15).
3- السعي لتطوير منظومة الوعي لغرض تجاوز التقاطع في الأسس الفكرية والثقافية والفلسفية لكل ثقافة، لأن الوعي الفردي أو الجماعي يسهم في توجهات حركة حقوق الانسان ويعمل على توظيفها بشكل ايجابي. وكذلك القيام بأعمال تسهم بتقريب وجهات النظر بين الثقافات المختلفة والتعريف بالأبعاد الثقافية التي تؤدي إلى تطوير عملية المرتكزات الثقافية للمجتمع، والتي بدورها تمنع حدوث أية أعمال متطرفة تشجع على المخاطر، وتهز الأمن والاستقرار والسلم الاجتماعي.
4- التأكيد على مكافأة كل فرد بالنظر إلى أدائه الفردي، لا بالنظر إلى الأصل أو اللغة أو الدين أو الروابط العائلية أو غيرها، وإنما لمن يثبت قدرته ويحقق إنجازاً ملموساً للمجتمع.
5- مقاومة مظاهر العنصرية والحد من العوامل المغذية للكراهية، وخصوصاً في مجال الإعلام، وتشجيع مبادرات التعارف الديني والثقافي بما يحقق التفاعل في المجتمع.
وقد أكدت الكثير من الوقائع والأحداث التاريخية القريبة والبعيدة بأن البلدان التي استطاعت التخلص من أمراض الطائفية البغيضة هي البلدان التي حققت وتحقق معدلات تنمية مرتفعة بكل المجالات، والتي تعمل على رفع المستوى المعاشي لشعوبها. ولأن الطائفية السياسية ورم سرطاني خبيث، عليه يجب أن تتضافر الجهود المخلصة لاستئصاله، بالأعمال لا بالأقوال، وكخطوة أولى لابد من إعلان ميثاق شرف وطني حقيقي يكون ملزماً يحرم العمل بالطائفية السياسية بأي شكل من الأشكال أو تحت أي مسمى، ويحريم سفك دماء العراقيين أو تكفير الآخرين من أي طائفة أو مذهب، وعدم إقحام الدين أو المذهب في الخلافات السياسية.