مدارات

الهزة السياسية التي ضربت تشيكيا .. وتفاعلاتها

براغ – طريق الشعب
بعد ما يزيد على اسبوعين من انفجار اكبر فضيحة فساد في تاريخ تشيكيا الحديث، ما زالت البلاد تعيش اجواء تشنج سياسي غير عادي وتوتر على صعيد المجتمع بأسره. وقد اضطرت الفضيحة رئيس حكومة التحالف اليميني، رئيس «الحزب المدني الديمقراطي» بيتر نيتشاص الى الاستقالة، ومعه حكومته التي رفعت شعار مكافحة الفساد عند تشكيلها في اعقاب انتخابات 2010 وتحولت الآن الى حكومة تسيير اعمال. وفي اثناء ذلك انغمر محققو «وحدة الكشف عن الجريمة المنظمة» بوزارة الداخلية، التي نفذت الحملة ضد بؤر الفساد، في استجوابات كثيفة لكبار المسؤولين المعتقلين وبضمنهم رئيسة مكتب رئيس الحكومة نفسه وعدد من وزراء ونواب حزبه السابقين. كما قاموا باعتقال مزيد من المسؤولين السابقين بتهم الفساد، واستمروا في عمليات الدهم والتحري في بيوت ومكاتب «العرابين» المافياويين من رؤوس «جماعات الضغط.
وازداد الوضع تعقيدا في الايام الاخيرة إثر إقدام رئيس الجمهورية ميلوش زيمان (وهو رئيس سابق للحكومة وللحزب الديمقراطي الاجتماعي) على تكليف وزير المالية الاسبق، مستشاره الاقتصادي ييرجي روسنوك، بتشكيل «حكومة خبراء» بديلة لحكومة نيتشاص المستقيلة من دون تفاهم مع الجهات البرلمانية، على ان تقوم باعداد الموازنة العامة لسنة 2014 وتقود البلاد الى حين اجراء انتخابات برلمانية مبكرة خلال بضعة أشهر، او حتى موعد الانتخابات الاعتيادية في ايار السنة المقبلة.
اليسار : انتخابات مبكرة
فقد اعترض عليه التحالف اليميني الذي جُرّد من الحكم، مدعيا انه ما زال يحتفظ بالاغلبية البرلمانية ويستطيع تأمين العدد الضروري من اعضاء مجلس النواب (101 من مجموع 200) لدعم تشكيل حكومة جديدة من احزابه الثلاثة، تخلف حكومة نيتشاص. بينما اعلن رئيس االجمهورية زيمان انه وقد وعد الناخبين في الانتخابات الرئاسية خريف السنة الماضية باطاحة حكومة التحالف اليميني، غير قادر الآن على تكليف التحالف بتشكيل حكومة جديدة. كما انه لا يريد حكومة يمكن ان تضغط على الجهاز الامني المنهمك في التحقيق في قضية الفساد الكبرى، وقد تحبط مهمته في كشف جوانب هذه القضية الخطيرة.
والى جانب ذلك شككت اوساط مقربة من زيمان في قدرة التحالف اليميني على حشد الاغلبية البرلمانية، التي ادعى انها ستؤيد اي حكومة جديدة يشكلها.
كذلك اعلنت المعارضة المكونة من حزبي اليسار: الديمقراطي الاجتماعي (54 نائبا) والشيوعي (26 نائبا) ومعهما «حزب الشؤون العامة» الوسطي (12 نائبا) رفضها هي الاخرى لتشكيل أي حكومة يمينية جديدة، لكنها اكدت تمسكها بالدعوة الى اجراء انتخابات مبكرة في اسرع وقت، والتي كانت قد خرجت بها حال الكشف عن الفضيحة اواسط حزيران المنقضي.
الهزة السياسية
وكان التشيكيون قد استيقظوا صباح 13 حزيران على زلزال سياسي حقيقي، اطلقته سلسلة غارات ليلية نفذها مئات من منتسبي شرطة مكافحة الجريمة المنظمة في شتى انحاء البلاد، وبلغت ذروتها بدهم موقع اعلى سلطة في الدولة - مكتب رئيس الوزراء.واسفرت المداهمات عن «غنائم دسمة» وفق تعبير صحيفة محلية، ابرزها رئيسة المكتب يانا ناجيوفا (وتبين - حسب معلومات صحفية نشرت لاحقا انها ايضا عشيقة رئيس الوزراء بيتر نيتشاص) التي اعتقلت الى جانب عدد من زملائه في الحزب اليميني الرئيسي، الحاكم في البلاد منذ الاطاحة بالنظام «الاشتراكي» السابق سنة 1989، بينهم احد الوزراء السابقين وبرلمانيون سابقون ايضا، ورئيس جهاز المخابرات العسكرية التابع لوزارة الدفاع وسلفه المنقول الى وظيفة اخرى في الدولة.
وكان لهذه التطورات المفاجئة وقع الصاعقة على نيتشاص، الذي اختفى عن الانظار ذلك النهار وفشلت وسائل الاعلام في الوصول اليه لاستطلاع رأيه في ما حدث. وعندما ظهر في آخر النهار ادعى امام الصحفيين انه كان منهمكا طول الوقت بالعمل في مكتبه، ودافع عن نفسه وعن مرؤوسيه، وقال ان رئيسة مكتبه ناجيوفا المعتقلة لم ترتكب جرما وما زالت تتمتع بثقته،
وانه بالتالي لا يجد سببا للتفكير في الاستقالة والتسبب في اقالة الحكومة.
استقالة نيتشاص وحكومته
واكد نيتشاص موقفه هذا في اليوم التالي امام مجلس النواب، رافضا الدعوات المتصاعدة الموجهة اليه للاستقالة.الا انه تلقى بعيد ذلك ضربة حاسمة، حين قرر القضاء الابقاء على رئيسة مكتبه وخمسة آخرين من زملائه المقبوض عليهم رهن الحبس الاحتياطي وعدم اطلاق سراحهم بكفالة، ما اكد قوة الادلة التي قدمتها الشرطة الى المحكمة المعنية. وازاء ذلك وما سبب من ثورة عليه في قيادة حزبه ذاتها، لم يجد بدا في خامس ايام الفضيحة من تقديم استقالته.وعكست هذه الخطوة الاجبارية، في جانب اساسي منها، شدة العزلة التي انتهى نيتشاص اليها داخل قيادة حزبه، وعمق عزلة الحزب نفسه (والتحالف اليميني بأكمله) عن الشارع، وبلوغ السخط الشعبي على حكومتهم مستويات لا سابق لها. وهو ما تجلى ايضا في الارتياح الذي استقبل به عامة التشيكيين حملة المداهمات والاعتقالات التي قامت بها الشرطة، وما تلاها من استقالة نيتشاص وحكومته.
ما كشفته الاستطلاعات
وقد اظهر استطلاع للرأي اجري في غضون ذلك ان 80 في المئة من التشيكيين لا يرغبون في رؤية نيتشاص بعد الآن في الساحة السياسية، وان نصفهم تقريبا (49 في المئة) يريدون حل الازمة عبر انتخابات مبكرة تجرى بعد شهرين او ثلاثة، فيما يؤيد 14 في المئة فقط بقاء حكومة اليمين برئاسة سياسي آخر، ويفضل 20 في المئة تشكيل حكومة تكنوقراط.ولخصت هذه المواقف عِبَر 20 سنة من المعاناة تحت حكم الاحزاب اليمينية، التي هيمنت على المسرح السياسي غداة قيام الجمهورية التشيكية (نتيجة تقسيم تشيكوسلوفاكيا السابقة) اوائل التسعينات، واشرفت عمليا على نهب «الرأسماليين الجدد» ممتلكات وثروات المجتمع والدولة باسم «الخصخصة»، واطلقت العنان لانتشار الفساد وبلوغه مديات نادرة المثال في اوربا.
واقترنت بذلك في الجانب الآخر مصادرة الكثير من مكتسبات فئات الشغيلة الواسعة، في عملية افقار متواصلة لغالبية السكان. وهو ما ادى في السنين الاخيرة الى تغيرات ملحوظة في المواقف السياسية للرأي العام التشيكي، والى توقع حدوث تحول في سلوك الناخبين في الانتخابات العامة المقبلة.
تحول نحو اليسار
وفي هذا الخصوص بيّن استطلاع للرأي اجري قبل فضيحة الحكومة الاخيرة ونشرت نتائجه بعدها، انه لو كانت اجريت انتخابات برلمانية في وقته، لحصل اليسار (ديمقراطيين اجتماعيين وشيوعيين) على 108 مقاعد، ما يتيح له ان يحكم باطمئنان. وطبيعي ان حظوظ اليسار ستتعزز الآن، بعد الزلزال الذي زعزع اركان حكومة اليمين والهزات الارتدادية المتواصلة الناجمة عنه، والتي تلقى بين حين وآخر مزيدا من الاضواء على هول الفساد الذي ينخر في البلاد، ومزيدا من الظلال القاتمة على اكبر احزاب التحالف اليميني وعلى التحالف بمجمله.فالمحققون يحصلون على معلومات جديدة باستمرار وهم يفحصون آلاف المواد والورقيات التي صادروها خلال المداهمات، ويواصلون استجواب رئيسة مكتب رئيس الوزراء المستقيل (المتورطة كما اعلن في استغلال موقعها لدفع الاستخبارات العسكرية الى مراقبة تحركات زوجة رئيس الوزراء نفسه واشخاص آخرين، والمتهمة بقضايا اخرى تتعلق بالفساد السياسي) واستجواب مديري الاستخبارات السابق والحالي (المتهمين بتنفيذ طلباتها غير المشروعة)، ثم الاستجواب الاهم لثلاثة اعضاء سابقين في مجلس النواب، وهم من حزب نيتشاص لكنهم تمردوا عليه في السنة الماضية وتعهدوا بعدم التصويت لحكومته في الاقتراعات البرلمانية اللاحقة.
عندما ترشي الحكومة النواب!
فهؤلاء متهمون بقبول رشوة في ما بعد من متنفذين في الحكومة، عندما كانت مهددة بالسقوط في تصويت برلماني بالثقة، مقابل استقالتهم من عضوية البرلمان وتمكين نيتشاص وحزبه بذلك من تنصيب ثلاثة نواب موالين بدلا عنهم، يصوتون للحكومة وينقذونها. وهو ما حصل بالفعل وحال دون انهيار الحكومة في حينه. وكانت الرشوة تتمثل في تأمين عضوية لكل منهم في مجلس ادارة احدى المؤسسات الاقتصادية الكبرى التابعة للدولة.كذلك استجواب اثنين آخرين من المعتقلين وهما وزير سابق للزراعة ووكيل سابق للوزارة، متهمين في قضايا فساد اقتصادي واجازة عقود مشاريع مشكوك في امرها.والى جانب ذلك يواصل المحققون التدقيق في وثائق كثيرة وضعوا اليد عليها في مكاتب اثنين من اكبر «عرابي» الفساد في البلاد، وهما في الوقت نفسه من كبار داعمي حزب نيتشاص «المدني الديمقراطي» وممولي حملاته الانتخابية.
ماذا يخبىء ميلوش زيمان؟
وفيما يتطلع التشيكيون الى ان تواصل وحدة الكشف عن الجريمة المنظمة ومعها الجهاز القضائي المستقل، الحملة على رموز الفساد السياسي والاقتصادي في الحكم ومؤسساته، وعلى المافيات وعرابيها المتحالفين مع تلك الرموز، ويأملون في استمرار الدعم السياسي لهذه الحملة، الذي يتجسد راهنا في التمسك بالدعوة الى اجراء انتخابات برلمانية مبكرة، يبدي بعض المراقبين مخاوف مما يضمره رئيس الجمهورية ميلوش زيمان، وهو يصر على تشكيل «حكومة خبراء» بدل دعم المطالبة المتسعة بالانتخابات المبكرة.ومعلوم ان علاقة غير حسنة تقوم بين زيمان والقيادة الحالية للحزب الديمقراطي الاجتماعي، وتعود جذورها الى ايام كان هو نفسه رئيسا للحزب، قبل ان يعزل في مؤتمره المنعقد سنة 2001.وفي المقابل تربطه علاقة خاصة غير واضحة المعالم بالرئيس السابق فاتسلاف كلاوس، المؤسس الحقيقي لـ «الحزب المدني الديمقراطي» وابوه الروحي، ومهندس عملية «الخصخصة» التي انتهت بنهب الاقتصاد التشيكي، والذي اختتم فترته الرئاسية آخر السنة الماضية باصدار عفو عام شمل به محكومين عديدين، كان القضاء قد ادانهم بتهم الفساد والاستحواذ غير المشروع على المال العام واموال المواطنين عبر الخصخصة المشار اليها والاحتيال.