مدارات

الدليل، تجربة ومعاناة! ( 19) / مزهر بن مدلول

(

الصيهد) أو (العشيش)، عالم رُفعت عنه الحصانة، ومُنع من أن ينخرط في العصر!، فعاش ناسهُ بسيكولوجية مختلفة، هي سيكولوجية الانسان (البدون)، ومصطلح (البدون)، يدلُّ على خواء الوجود وعراء كينونة البشر، ويدفعهم الى هاوية النسيان.
هؤلاء الناس، بيوتهم بلا مفاتيح ولامربعات!، ونفوسهم كريمة ومرتوية من (دهلة) انهار الجنوب، ولياليهم دافئة بحفلات (البخور)، واحلامهم التي انحسر عنها الضوء وانغمرت في الظلال، مازالت مبلّلة بالأمل وينتظرونها بقلق، فأمّا ان تنبت ويتدلّى الثمر، او تهب العاصفة فتطير.
اخذتني لحظة سطوع عاطفية الى ذلك العالم الذي خذلتهُ الحياة، وكان لي فيه بعضٌ من معارفٍ، وهم الاخوة (كارامازوف)!!: (عضّاض) و (ردّاد) و (عذاب)، كانوا يسكنون معنا في قريتنا (السومرية)!، ولمّا ضاق بهم العيش واستفردتْ بهم الكوابيس، انضمّوا الى هذا المجتمع التعددي، الذي بُنيَ على اساس اللاّهوية او (البدون)!.
كان (عضّاض) اقرب اخوته الى الناس في ريفنا، فقد عاش وعائلته الصغيرة عشرات السنين في هذا المكان، وكان يسكن في (بيت شعر) ويمتهن رعي (الاغنام) مقابل اجر زهيد، ولهُ ابن واحد اسمه (إسمير)، وهو من اقراني، وربطتني به علاقة مراهقة جميلة عندما كنتُ ارافقهم الى اطراف الهور وهم يتنقلون (بالغنم) من مكان الى اخر طلبا للماء والكلأ، لكنّ (إسمير) الشاب الهادئ الذي يحبّ اهله، تعرض في ليلة شديدة الظلام الى لدغة افعى، ولم يمهله سمّها مزيدا من العمر ففارق الحياة، وحزن عليه (عضّاض) حزنا شديدا ، فلبس السواد، وترك المهنة، وكره المكان، ومشى بعكازين الى المجهول ليثبت لنفسه بأنه بعد (إسمير) اصبح ايضا (بدون).
اثار لقائي الاول بهم الكثير من المواجع والشجون، وسرعان مادار الزمن دورته وعاد الى البدايات، فحضر الفؤاد وحضرت الذاكرة، وفاض الحنين وتفجرت الدموع، حتى شعرتُ بأنّي واحدٌ منهم، وانّ الخوف (الوحش) الذي كان يلاحقني عاد اخيرا الى الحضيرة!، وأني استطيع الان ان امدّ رجليَّ وأتمطّى!.
لقد عثرت عند (البدون) على ضالتي في التضامن والشعور المشترك بالفقدان!، وبينهم وجدتُ الألفة التي ضاعت في وسط الصمت!، وكنتُ في كلّ مرة ازور فيها (الصيهد)، يراودني احساس، بأنّ هذه هي المحطة الاخيرة في تلك الرحلة الطويلة القاسية، وتعاظم هذا الاحساس عندما وجدوا لي عملا بأقلّ جهد، وهو مرافقة السيارة التي تتوقف في الازقة وامام البيوت وتبيع (الخضروات)، والتي تعلمت من خلالها الثرثرة مع العجائز اللواتي يناقشن كثيرا في التداول والاسعار.
مرّت عدة ايام وانا على هذه الحال، ولكنّ ذلك لم يستمر طويلا، فبالرغم من الحفاوة والعمل المريح، فأنّ الحنين الى الوجود المشبّع بالحياة (المدينة والناس والحزب والمقر و(ابو عثمان)) ، بدأتْ طبوله تقرعُ في رأسي وصدري، وانهمرت اسئلة كثيرة، اسئلة غريبة ومشحونة بالحسرات!..
أفلأجل هذه الحياة القاحلة تركتُ التين والرمان والبساتين!؟، أمن اجل هذا تحملت كلّ تلك المرارة وذلك الضيم!؟، ألا من (أمل) يجعلني ان احدّق في عين الشمس دون ان تحترق اجفاني!؟.
وراحت مخيلتي تفتحُ الأدراج، لتقلّب محتويات ذلك الزمن الرومانسي في تجليه القديم وغيابه الحاضر، لقد كنتُ عاشقا ومجنونا، وكان عشقي علنيا وصارخا، ولي في كلّ عشقٍ جرحٌ ومناحة، ولكلّ امرأة قصة تركت مشاعرا جميلةً في حياتي.. ((لا، لن احشر تلك الحكايات مع (الدليل)، فمن اجل ان اعطي لهذه العواطف شكلا اجتماعيا وقدرا من التميز، لابدّ أن اكتب عن اول الحبِّ واخره! ليكون عنوانا لمجموعة قصصية قادمة)).
بدأتْ الايام تمرُّ ثقيلة كما ذكرت، وبدأتْ تسري في دواخلي غوايةٌ للّهوِ ورغبةٌ في المغامرة!، ولكني كلما تأملت التجربة، اجدُ انّ جميع الرغبات تشبه رغبة الفراشة في معانقة اللهب!، فذهبتُ ابحثُ عن مناخٍ لايتصاعد فيه الدخان، وعن زمانٍ لايبطشُ دون حساب!، واول البحث، هو اني قرأتُ اعلانا في احدى الصحف، بأنّ (معملا للحجر) في (مدينة السالمية) بحاجة الى موظف يجيد العملية الحسابية!، فذهبتُ من فوري الى المكان، وطلبت مقابلة صاحب المعمل، وكان رجل في منتصف العمر وقصير القامة واسمه (محمد) وينتمي الى (الجبهة الديمقراطية)، رحبّ بي بلهجته (الشامية) واستغرب بأنّ اسمي (مزهر) فهو لم يسمع من قبل انّ احدا بهذا الاسم!، ثم دار بيني وبينه حوار قصير بالحسابات والسياسة!، فأبتسم الرجل، وكان المقعد الوظيفي! من نصيبي.
تركت (البدون)، ووطدّتُ علاقتي بـ (محمد) عسى ان اجد عنده نافذة اخرج من خلالها الى عالم (الفتوحات المعرفية)!، ولمّا كشفت له عن الجرح الذي غاص في اللحم وجعلني لاارى نفسي في المرآة!، تعاطف معي كثيرا وترك لي مكانا للعمل في مكتبه الصغير، كما منحني حرية التعامل مع الزبائن، وهؤلاء اغلبهم من الكويتيين الاثرياء، الذين يملكون القصور والفيلات والعمارات، ويقوم المعمل بتجهيز (الحجر) وصقله وتلوينه بالطريقة التي يرغبون، وقد اعتاد الكويتيون على تغليف الجدران الخارجية لبيوتهم بهذا (الحجر) مما يضفي عليها شكلا جميلا ولمعانا باهرا.
المشكلة التي واجهتني في العمل، هي الطريقة التي يتعامل بها هؤلاء (البرجوازيون الطفيليون) المحشوة رؤوسهم بثقافة العفاريت!، فهم يعتبروننا من البشر التي تسكن في العالم الاسفل!، ولايفهمون بأنّ الناس متساوون في الكرامة والحقوق!، وكثيرا ما تجنبت الاصطدام بهم حفاظا على سمعة المعمل واحتراما لصاحبه، ولكن، وقد (جاوز الظالمون المدى!)، ففي احد الايام جاء احدهم، وقد امتلأ وجههُ بالدمامل، ومنظرهُ (يلعب النفس)، وراح يقدم طلباته بلهجة آمرة وبتعابير فيها ايحاء بأني دونهُ، تحملتهُ في البداية، ولمّا تمادى في شروطه غضبت كثيرا وقررت ان اعرّفه بنفسي بأني من (الشجرة الخبيثة)!، فتحسست رأسي لأطمأنَّ على سلامة الفكرة!، ووقفتُ خلف المنشار الكهربائي الذي يقطع (الحجر)، وما ان دار المنشار حتى تلطّخ وجههُ وملابسهُ النظيفة بالغبار الابيض والشظايا، فأبتسمت لذلك وشعرت براحة نفسية هائلة!، بينما الرجل امتلأ غيضا وراح يشتمني ويشتمُ أبي ويشتم (المدنية)! وانا اشتمهُ واشتمُ (الثول) والصحراء والبدو!، مسك (اعكَاله) ليضربني، فمسكت المنشار لأفتح له بطنه، ولمّا رأى بأنّ المعركة حقيقية، ولّى هاربا، ومن تلك اللحظة، طلب مني (محمد) ان اترك (المعمل) الى الابد!، فأخذتني البطالة والوحشة والشوارع، ورحتُ ابحثُ عن (الدليل) الذي يعيدني الى اهلي!

القسم 18