مدارات

مقر الشيوعيين يحتضن نازحين من سهل نينوى

 طريق الشعب

ما أن تسمع بتهديد الجماعات المسلحة التابعة لتنظيم "داعش" الارهابية للمواطنين العراقيين، من معتنقي الديانة المسيحية بدفع "الجزية" او "اعتناق الإسلام" أو "الخروج من المدينة، حتى تشعر بغصة ومرارة وغضب، كيف يحدث هذا لمكون عراقي عريق وأصيل؟، ومنذ متى تعرض المسيحي العراقي الى هذا النوع من الارهاب وهو المتآخي والمتعايش بسلام ومحبة مع بقية أخوته من المكونات العراقية الأخرى؟، ولكن ماذا نسترجي من الارهاب غير الجرائم والفتن واثارة النعرات؟، حقا انها مأساة تجلب الكثير من المآسي، فبعد القتل الجماعي والاعتداءات برزت ظاهرة العائلات النازحة، من مسيحيين وغيرهم، وبدأت معاناة هذه الأسر تتفاقم، خصوصا مع اقتراب موسم الشتاء، حيث البرد القارس والأمطار، الى جانب شحة المساعدات الغذائية، ناهيك عن معاناة الأطفال والنساء والشيوخ، وتوقف العملية التعليمية، والعيش في مخيمات وكرفانات أو في العراء. قضية تحتاج الى علاج سريع، ووقفة وطنية، واجراءات سريعة.

صور تختلط

في الطريق إلى ناحية عينكاوا في اربيل تنتابك مشاعر مختلطة بين حزن عميق ونقمة على كل الذين يقتلون فرح الطفولة، لاسيما وأنت تستعيد في ذاكرتك أحداث سنوات خلت، تذكرت أيام الأنفال سيئة الصيت وتذكرت هجرة الآلاف عبر الطريق الجبلية للهروب من الموت الذي كانت تنثره عصابات النظام المباد بعد انتفاضة 1991، كل هذا اختلط بالصور التي بثتها شاشات التلفاز عن هروب العراقيين من الموصل وسنجار والرمادي، ويبدو أن رفيقي الذي يقود السيارة تعمد أن يجعلني أرى بعض شوارع هذه المدينة التي فارقتها منذ عام قبل أن أصل إلى مقر الحزب الشيوعي الكردستاني، فقد انتشرت فيها الآن محلات بيع الخضروات والفاكهة بشكل ملفت للنظر.

مخيم الحديقة

من أول خطوة عبر باب مقر لجنة الكلدو - أشور التابعة للحزب الشيوعي الكردستاني، تواجهك على اليسار خيمٌ نصبت على مساحة الحديقة التي تقدر بـ 400 متر مربع، تفصل بعضها عن بعض ممرات ضيقة، وفي الجهة اليمنى من المقر ترى الافرشة وقد تم نشرها من أجل أن تبخر حرارة الشمس الرطوبة منها، فقد مرت خمسة أيام ماطرة على أربيل، وتبللت الأفرشة والأغطية.
ثمة أطفال تجمعوا عند خلفية أحدى الخيم، وقد أخبرني الرفيق "وليم"، مسؤول اللجنة أنهم اعتادوا التجمع عند زيارة أي ضيف لهم من أجل أن يلتقط لهم صورا، وبالفعل ذهبت بالقرب منهم وألتقطت لهم أكثر من صورة، وقبل أن نجلس لنحتسي الشاي سألت "وليم" كيف عالجتم وضعهم إثناء أيام المطر؟، فأجاب: أفرغنا غرف المقر وأسكناهم فيها رغم قلة هذه الغرف!.

منظمتا الطلبة والشبيبة

وقبل أن ننتهي من احتساء كؤوس الشاي، دخل شاب بعمر الورد، لم أتعرف عليه من قبل، وقدم نفسه "مسؤول فنار"- مسؤول اتحاد الطلبة، وكان على معرفة من أننا سوف نزور المقر من أجل الكتابة إلى جريدة "طريق الشعب" عن "ضيوف المقر"، هذه التسمية لرفاقنا، سألته عن قناعتي بأن لمنظمة الطلبة والشبيبة دور في عمل هذا المخيم، أجابني بخجل المتواضع، نعم نحن جمعناهم هنا ونصبنا لهم هذه الخيم، فقد كانوا يسكنون في الشارع الذي تقع فيه الكنيسة وحالتهم يرثى لها، لهذا قمنا بالاتفاق مع رفاقنا في المقر وبالطبع شجعونا على ذلك، والتقينا بالمنظمات الإنسانية من أجل أن تزورهم، وبالفعل زارتهم بعض هذه المنظمات وقدمت لهم بعض المساعدات البسيطة، ولكننا في البداية قدمنا لهم وما زلنا كل ما نستطيع تقديمه.

السلب في السيطرات

حين أردنا أن نلقي الضوء على ما جرى من أحداث مأساوية في الموصل، أقترح علينا الرفاق أن نلتقي بالسيدة "ندى" وهي طبية أعشاب، كانت تعيش بين الموصل وقره قوش، سألتها عما حدث وكيف؟، فقالت: عندما دخلت قوات داعش الإرهابية الى الموصل كنت وقتها في قره قوش، حينها لم نسمع بأي شيء سوى أن الجيش والشرطة العراقية قد انسحبت من الموصل وليس هناك أية حالة حرب، والوضع آمن جدا، ولم تمر عشرة أيام حتى رأينا جميع المسيحيين يهربون من الموصل وقد تم تجريدهم من جميع أموالهم وحلي النساء وأخذ العديد من بناتهم حتى بعمر الخمس سنوات ناهيك عن الشابات، كانوا حفاة لا يملكون غير الملابس التي يرتدونها.
وأضافت: في بداية دخول داعش إلى الموصل قالوا للمسيحيين عليهم أن يطمئنوا فأنتم في حمايتنا ولكن بعد أيام استلموا رسائل التهديد بالخروج من الموصل، دون أن يحملوا معهم أي شيء، لهذا عندما خرج المسيحيون من الموصل كانت هناك سيطرات "داعش" تنتظرهم وقامت بسلب كل يملكون منهم:" سيارات، ذهب، فلوس، وبنات شابات".
وبينت "ندى" أنهم تركوهم يمشون حفاة، وهناك امرأة عمرها ثلاثون عاما جاءت من الخارج لزيارة أهلها انتزعوها من عائلتها رغما عنها، أما البيوت فقد تم سلب أثاثها وقسم اخر سكنوا بها أما بالنسبة لنا نحن الذين نسكن "قره قوش" فقد اضطررنا للهرب وذلك بسبب سقوط قذائف الهاون على بيوتنا، فقد قتلت عائلة بكاملها، وكذلك قتلت امرأة كبيرة في السن وجرح زوجها، فطلبت منا مفارز الحماية حفاظا على أرواحنا الخروج في الليل من "قره قوش" والعودة نهارا، فاضطررنا للمبيت في العراء، ولكن في الصباح رأينا الجميع يهرب باتجاه أربيل، وحين وصلنا جسر "الخازر" كانت هناك الآلاف من العائلات النازحة، ونتيجة للزحام الشديد انتظرنا حتى الساعة الثالثة ليلا، عندها جاء أحد أفراد "البيشمركَه" وقال لنا اتركوا كل شيء لآن داعش قريبة جدا، وبالفعل سمعنا صوت الاطلاقات، فتركنا كل شيء وعبرنا بأنفسنا، ومن المفارقة أن قوات البيشمركة تمكنت عند سيطرة الخازر من اعتقال ثمانية أشخاص ارهابيين من قوات "داعش" كانوا يريدون العبور معنا.
وأضافت "ندى": عند وصولنا إلى "عينكاوا" بقينا شهرا كاملا نسكن في المتنزه، إلى أن جاء الإخوان من الشيوعيين ونقلونا إلى مقرهم، وقدموا لنا كل الخدمات التي نحتاجها.

التواطؤ وسلوك القوات الأمنية

أما السيد عماد عبد الأحد، وهو من سكنة الموصل ويملك محلا لبيع المواد الغذائية فيقول: عندما دخلت قوات داعش إلى الموصل ارتاحت الناس كثيرا في الأيام الأولى وذلك لما كانوا يتعرضون له من أهانة على يد القوات الأمنية، وكذلك كثرة السيطرات والزحام الشديد في الشوارع، فقد كان يستغرق الوصول إلى مركز المدينة أكثر من ساعتين، أما بعد دخول داعش فقد كان الوصول بالسيارة إلى مركز المدينة لا يتجاوز الخمس دقائق لأنهم رفعوا جميع هذه السيطرات!، ثم أن "داعش" طمأنت الناس من أنها سوف تقدم لهم الخدمات كافة، وبالفعل، فقد توفرت الكهرباء بشكل جيد وكذلك الماء والغاز، وقد تعاون الكثير من أهالي الموصل معهم، ويبدو أن هناك من كان يتعاون معهم قبل دخولهم إلى الموصل، والدليل على ذلك أنهم كانوا يعرفون بيوت "المسيحيين والايزيدين والشيعة" بشكل جيد، ثم هناك سبب آخر هو عدم ارتياح الناس للقوات الأمنية من شرطة وجيش سابقا، أما بالنسبة لنا نحن المسيحيين فقد زاروا كنيستنا في الموصل وطلبوا في رسالة إلى المطران المجيئ إلى الموصل للتفاوض، وحددوا شروطهم الثلاثة:" الدخول في الإسلام، أو دفع الجزية، أو الخروج من دولة الخلافة الإسلامية"!، وقد كان الموعد هو يوم "خميس"، وطبعا رفض نيافة المطران الحضور وطلب من المسيحيين الخروج من الموصل، ولكن سيطراتهم قطعت علينا الطريق وسلبت كل شيء منا.

الدعم غير كاف

لم يحصلوا على الدعم اللازم، هكذا بدأ حديثه الشاب "فنار"، وأضاف: والمساعدات التي نحصل عليها لهم هي قليلة، وغالبا ما نحصل عليها من منظمات المجتمع المدني، فنعتمد على ما نقدمه لهم نحن.
وبين "فنار" أن النازحين الذين كانوا يسكنون هنا وصل عددهم في البداية الى 134 شخصا تقريبا، أما الآن، فقد تقلص العدد إلى 98 شخصا، وهم يؤلفون أكثر من عشرين عائلة نازحة، والحقيقة أن ما نحصل عليه من هذه المنظمات تحديدا هو مواد غذائية بسيطة، وبقية احتياجاتهم نقدمها لهم نحن، لأن الكثير من هذه المنظمات قد توقفت عن الدعم، وقد سمعنا أخيرا من أن الكنيسة سوف تقدم بطاقة تموينية أسبوعيا لكل عائلة، ولكن إلى الآن لم يتحقق شيئا.
الرفيق "وليم" تدخل في الحوار وأشار إلى أنهم، وبمساعدة جميع الرفاق يسعون إلى توفير ما تحتاجه هذه العائلات النازحة من مساعدة، فأضاف الرفيق "وليم": إلى أن هناك مشكلة كبيرة ستواجهنا في الأيام القادمة، وهي مشكلة انخفاض درجات الحرارة ، لهذا اقترحنا على الكنيسة أما أن تؤجر لهم بيوتا أو تشتري لهم كرفانات، وإلى الآن لم نستلم أي جواب على مقترحاتنا. ونحن نسعى بكل جهودنا من أجل تخفيف الحالة الصعبة التي يعيشونها.
أما النصير أبو زينة مسؤول لجنة دعم النازحين في رابطة الأنصار الشيوعيين العراقيين، فقال: أنهم زاروا هذا المخيم وقدموا ملابس لأطفال سكنته، كما أن فروع الرابطة في الخارج تقوم بحملة تبرعات لدعم النازحين ولكن العدد كبير جدا لهذا هناك محدودية في طبيعة دعمنا،بعد أيام لنا زيارة وتقديم دعم إلى النازحين من سنجار.

منحة الدعم الحكومي وإشكالاتها

بعد أن بدأت عملية النزوح القسرية كان على مجلس النواب أن يتحمل مسؤولياته ويساهم في التخفيف من هذه المعانات الانسانية لمواطنين عراقيين يتعرضون للتهجير والنزوح، لهذا تقرر تشكيل لجنة يقع على عاتقها متابعة وضع النازحين أمنيا ومعيشيا، مثلما تقرر أن تقدم هذه اللجنة منحة قدرها مليون دينار مع سلة من الأغذية، ويبدو أن هذه المنحة إلى الآن تسير على قدم واحدة، فالعائلات العشرين الذي التقينا بهم لم تستلم منهم هذه المنحة سوى خمس أسر فقط.
السيد "عماد عبد الأحد" يقول: قدمتُ المعلومات للمرة الثالثة يوم أمس، وصرفت ما يقارب من 400 ألفا دينارا عراقيا أجور نقل وإلى الآن لم نحصل على هذه المنحة.
أما الشاب "منهل" نذير فمعاناته لا تختلف عن "عماد" سوى أن في كل مرة يقدم المعلومات ويطلبون منه المراجعة في الأسبوع القادم، وعند المراجعة يخبرونه بعدم وجود اسم له في الكومبيوتر، ويضيف قائلا: هذه الحالة تشمل العديد من النازحين، رغم وجود ثلاثة مراكز دعم في اربيل.

نرفض الانتقال إلى علب السردين

في ظل الأوضاع الجوية المتردية كان هناك أكثر من مقترح لمساعدة النازحين، ومن هذه المقترحات هو تجميعهم في كرفانات يضم الواحد خمسة عشر شخصا، ورغم أن هذا المقترح يبدو للبعض معقولا إلا أن أغلب الذين التقينا بهم يرفضونه، أو في الحقيقة هم يرفضون العدد، ويطالبون بأن يكون لكل عائلة كرفان، تقول السيدة "ندى" كيف يتسنى لخمسة عشر شخصا أن يعيشوا في كرفان مساحته عشرة أمتار مربعة؟، لاسيما والشتاء على الأبواب والأمراض التي تصيب الأطفال لا حصر لها في هذه الأوضاع، فإذا مرض أحدهم يعني إصابة الأطفال الآخرين بنفس المرض، ناهيك عن عدم الانسجام بين العوائل، لهذا نحن نفضل البقاء في الخيام ولا نذهب للعيش في "علب السردين" التي يريدون حشرنا بها.

مدرسة المحبة والسلام

مبادرة مميزة للنصيرة "عايدة" التي قدمت من السويد، فقد قامت بتأسيس مدرسة لأطفال المخيم في مقر لجنة الكلدو- أشور التابعة للحزب الشيوعي الكردستاني، وقد أطلق الأطفال عليها أسم مدرسة المحبة والسلام، ويبدو أنها قامت بتدريب اثنتين من الشابات لمواصلة العمل في هذه المدرسة، الشابة الأولى هي "مريم نشوان" التي قالت: أن عدد التلاميذ هو ثلاثة عشر تلميذا تتراوح أعمارهم بين السابعة والثالث عشرة سنة، والدوام يوميا من الساعة التاسعة صباحا حتى الثانية عشرة، وتضيف الشابة الثانية أراء إسحاق: هناك العديد من المشاكل التي نعاني منها في تعليم الأطفال، مثلا ليس لدينا منهاج معين، وتعليمنا لهم يقتصر على رسم الحروف العربية والإنكليزية، فعدد الأطفال الموجودين في هذا المخيم هو 28 طفلا وأعمارهم مختلفة، وتضيف "مريم" رغم أننا نبذل جهدا من أجل تعليمهم بشكل جيد، إلا أن الصعوبات التي نعاني منها تجعل النتائج غير جيدة، ورغم أننا طلبنا المساعدة من المنظمات التي زارت مخيمنا إلا أن هذه المساعدة كانت شحيحة جدا.

أعداد تتناقص

تشير الإحصاءات إلى أن المسيحيين كانوا أكثر من مليون و400 ألف وتضاءل عددهم إلى 300 ألف بعد 2003 ليتضاءل أكثر بعد تهديدهم من قبل المتطرفين من عصابات "داعش" المجرمة. وبحسب تقارير العديد من المنظمات الإنسانية فان ما يُقارب 300 ألف مسيحي تبقوا في العراق بعد أحداث 2003، لكن الإحصائيات التي أٌعلنت خلال السنوات بين 2003 / 2014، تُشير إلى هجرة مئات آلاف المسيحيين إلى أميركا ووأوربا.
وكان عدد المسيحيين يصل إلى مليون و400 ألف مسيحي قبل سقوط النظام السابق، لكن العدد تناقص بعد ذلك ليصل إلى نصف مليون مسيحي خلال عام 2004، وهذا الرقم تراجع إلى 300 ألف مسيحي في وقت ازدادت فيه معدلات الُعنف في العراق.
كما تعرض ما يقرب من 70 كنيسة بين عامي 2003 / 2012 إلى الاستهداف، ما اضطر أغلب المسيحيين إلى الهجرة إلى خارج العراق، مدينة الموصل التي تضم نحو 30 كنيسة يعود تاريخ بعضها إلى نحو 1500 سنة، قامت التنظيمات الارهابية بهدمها أو إحراقها ونهبها، ومنعت المسيحيين من الوصول إليها. فاضطرت العائلات المسيحية الى الخروج من مدينة الموصل واتجهت لإقليم كردستان العراق، باعتباره المكان الأكثر أمناً.