مدارات

ملاحظات اولية حول استراتيجية التنمية الصناعية حتى عام 2030 ( 7-7) / د.صالح ياسر

البديل.. الحاجة الى رؤية صناعية جديدة
   من المؤكد واستنادا الى تجارب عديدة، فان اية إستراتيجية تنموية جديدة يجب ان يكون محورها وعنوانها الاساس متمثلا في بناء استراتيجية تنمية صناعية وطنية قادرة بالدرجة الأولى على تنويع البنية الراهنة للاقتصاد والصناعة وتنويع صادرتنا ليتخلص الاقتصاد الوطني من تبعيته لتصدير البترول، ذلك لأن تصدير البترول و الموارد الطبيعية عموما لم تعد تشكل عاملا حاسما في كسب القدرة التنافسية على الصعيد الدولي، بل برزت بشكل متزايد عناصر أخرى ترتبط بالقدرة التكنولوجية و تجديدها و الاستعداد للتكيف مع التكنولوجيات الجديدة في عمليات الإنتاج، وكذلك مستوى المهارات الفنية و تطور الموارد البشرية. ومن هذا المنظور يجب التفكير عند صياغة الإستراتيجية الصناعية الجديدة.
   ومن المفيد هنا الاشارة الى ان اختيار الصناعة كقطاع استراتيجي تبرره عدة أسباب من بينها:
- إن الصناعة تشكل قاطرة النمو وتطوير الجهاز الإنتاجي الوطني و التي بامكانها ان تساهم في تغيير هيكليته.
- كما أنها تشكل حاضنة تكنولوجية من حيث قدرتها على إنتاج الابتكارات التقنية وتعميمها على الاقتصاد برمته.
- و هي، اضافة لذلك كله، أفضل ضمان للنمو المستقر بعيدا عن التقلبات المفاجئة في إنتاج المحروقات وفي مقدمتها النفط وأسعاره.
   لذا فان أي استراتيجية جديدة لإنعاش الصناعة الوطنية وتخليصها من بنيتها المتخلفة يجب ان ترتكز على تنمية و تطوير هذه الصناعة بما يتيح للبلاد للانتقال من مرحلة تصدير المواد الأولية والخامات إلى مرحلة انتاج المنتجات بتكنولوجية ذات قيمة مضافة أكبر بغية مواجهة المنافسة الدولية وتخليص الاقتصاد الوطني من تبعيته لقطاع النفط الخام من جهة ولقطاع الاستيرادات من جهة اخرى والتي بلغت في السنة الاخيرة حوالي 75 مليار دولار.
   ولتغيير هذا الواقع وبعث الديناميكية في الإنتاج الصناعي، من الضروري ان تسعى الإستراتيجية الصناعية الجديدة الى إعادة هيكلة القطاع الصناعي بحيث يكون مرتكزا على ترقية بعض الفروع الصناعية التي تساهم في رفع قيمة الخامات من خلال عمليات التحول الصناعي و تلك التي تساهم في دمج النشاطات الموجودة في المراحل الأخيرة للتحول الصناعي، وترقية فروع جديدة. كما تسعى إلى إعادة انتشار الصناعات على المستوى الوطني عبر إنشاء " أقطاب نمو " أي مناطق صناعية مندمجة تستغل تمركز النشاطات الاقتصادية و تنظيم المؤسسات و هياكل البحث.
   وإذا كان الحديث يدور عن " رؤيا صناعية " جديدة فلا بد من ان يكون في صلب مهمات "الاستراتيجية" ورهاناتها إيلاء الاهتمام المطلوب لترقية القطاع الصناعي التحويلي. فلا مجال لـ " الاندماج في الاقتصاد العالمي " والاستفادة من " المزايا النسبية " بدون تحديد دور للقطاع الصناعي التحويلي. لا بد إذا من إطار استراتيجي لشروط التغيير في التخصص الإنتاجي والسلعي بحيث يتفق هذا التغيير وتتوافق خياراته مع أهداف التنمية الصناعية وبما يساعد بالتالي على تعزيز البنية التكنولوجية والقدرة الوطنية على استثمار التكنولوجيا مع تجديدها وعلى تعزيز البنية الصناعية وتكاملها الرأسي وترابطها مع بقية القطاعات الاقتصادية. إن هذا يؤكد (إن كانت هناك حاجة للتأكيد) الحاجة الملحة إلى رؤيا متكاملة ومتجانسة للتغيير والتطوير الصناعي وتنسيق لهذا التغيير وهذا التطوير في القطاع الصناعي إجمالا وفي كل من فروعه الرئيسية على أساس النظر إلى هذا القطاع بمجمله أي بمكوناته المختلفة: العام والخاص والتعاوني..الخ .
   وهنا نتساءل: ألا تطرح المشاكل التكنولوجية البحتة والصناعية العامة والحاجة التاريخية الملحة إلى الإصلاح بل التغيير التكنولوجي والصناعي في القطاعين الصناعيين العام والخاص، باتجاه تفعيل النمو والتنمية وترقية التخصص الصناعي والاقتصادي، على صناع القرار الصناعي وصناع القرار التكنولوجي في بلادنا، مهمة التعاون الوثيق والتنسيق الفكري والتخطيطي لوضع رؤيا وسياسة استراتيجية وطنية ورؤيا وسياسة إستراتيجية صناعية يتحدد فيها دور كل من القطاع العام والقطاع الخاص ومسؤوليته؟.
   لذا فان أهداف الاستراتيجية يجب ان تعكس طبيعة المرحلة التي تمر بها التنمية الصناعية، التي لابد أن تستند بالضرورة إلى رؤية اقتصادية- اجتماعية واضحة ومحددة. وتعد هذه الرؤية حجر الأساس في تحديد الإطار العام للتصنيع الذي يتعين أن يجيب على السؤال الاراس: ماذا ننتج .. ولمن ننتج .. وكيف ننتج؟ وهذا يعني تحديد اتجاهات النمو العامة لفروع الصناعة الأساسية وارتباطاتها بالقطاعات الأخرى. وكذلك تعيين الاتجاهات العامة لحجم وطبيعة المردود الاجتماعي للتصنيع، وتوزيع الناتج الصناعي بين العمل ورأس المال، وبين المركز والاقليم والمحافظات.
   ولابد من اختبار مدى توافق السياسة الصناعية مع التوجهات والأهداف التنموية سواء على المستوى النظري أي مدى استجابتها لتطوير الفكر التنموي أو على المستوى العملي أي مدى استجابتها للمتطلبات المطروحة في الوثائق التنموية الرسمية ومدى كفاءة تنفيذها، ومدى توافقها مع الضرورات الفعلية للاقتصاد والمجتمع في لحظة تطورهما الملموسة.
   وما يثير الانتباه هنا ويحتاج الى تعليق هو أن "الاستراتيجية" تقدم نفسها على أنها تطرح رؤية جديدة عندما أكدت على التالي: " لم تعد التوجهات الاستراتيجية التقليدية للتصنيع موائمة مع الاشتراطات الجديدة للمنافسة فى ظل الملامح الأساسية للاقتصاد العالمى حالياً، الأمرالذى يتطلب فكراوتوجها مختلفين عن التوجه القائم حالياً في العراق وكذلك التعاون ما بين عدد أكبر من الأطراف المعنية" (ص 2).
ولكن كما معروف فان "الرؤية الجديدة " عادة ما تقترن بالسعي لبناء " إستراتيجية جديدة " في حين ان الورقة المذكورة تركز جهدها في غالب الاحيان عند بلورة " سياسات "، أي عند صياغة تكتيكات.
   خلاصة القول إن تقلب الخيارات والسياسات في القطاع العام الصناعي، كتقلب الخيارات والسياسات المشابه في قطاعات اخرى خلال السنوات الماضية، يؤكد بوضوح الحاجة إلى إخضاع الخصخصة إلى تحديد استراتيجي للتعددية الاقتصادية ودور الدولة والقطاعات المتعددة في إدارة الإصلاح والتطوير والتنمية من جهة وإدراج الإصلاح الاقتصادي وإصلاح القطاع العام وإجراءاتهما في المنشآت والشركات العامة الصناعية والاقتصادية الأخرى في إطار استراتيجي مستقبلي وبرامج استراتيجية ومرحلية متكاملة ومتجانسة، أي تطرح هنا اشكالية بناء بديل تنموي استراتيجي اخر تحتاجه بلادنا اليوم، بديل التنمية المستقلة والمعتمدة على الذات والقادرة على الاندماج في الاقتصاد العالمي.
   وتجنبا لأي سوء فهم هنا، لا بد من الاشارة الى ان التنمية المستقلة لا تعنى العزلة أوالقطيعة الكاملة مع الاقتصاد العالمي، كما أنها لا تعنى الانكفاء على الذات أو الاكتفاءالذاتى فكليهما يجافى المنطق الاقتصادى السليم وتجارب الواقع الفعلي. بل ان جوهرالتنمية المستقلة- حسب تعبير دقيق للمفكر الاقتصادي المصري د. إسماعيل صبرى عبدالله- هو توفيرأكبرقدرمن حرية الفعل للإرادة الوطنية المستندةإلى تأييد شعبى حقيقى، فى مواجهة عوامل الضغط التى تفرزها آليات العولمة الرأسمالية، وفى مواجهة القيود التى تفرضها المؤسسات الراعية والحارسة للنظام الرأسمالى العالمى، ومن ثم توافرالقدرة على التعامل مع الأوضاع الخارجية بما يصون المصالح الوطنية (1).
   وفي ظروف العولمة الرأسمالية المعاصرة فان الاستقلالأمرنسبى،وليسمطلقًا،والمرادبههنا هوتأمين مستوى معقول للسيطرة الاجتماعية على شروط اعادة الإنتاج وتسخير العلاقات الخارجية لخدمة مصالح التطورالداخلى، لا لخدمة مصالح دول المركز الرأسمالى، وبناء هيكل اقتصادى متطور ذى تشابكات قوية في مابين قطاعاته المختلفة، وان يلعب القطاع الصناعي دورا رئيسيا في ذلك .
ومن بين ركائز التنمية المستقلة والمعتمدة على الذات ما يلي (2):
1. إحداث زيادة كبيرة فى معدل الادخار المحلى شرط لاغنى عنه لاستقلالية التنمية واطرادها مهما ترتب على ذلك من تضحيات ومشاق. ومن الخطأ تصور أن التنمية يمكن أن تتحقق مع الإفراط فى الاستهلاك أوالاستيراد، اعتمادًا على أن المعونات الأجنبية والاستثمار الأجنبى ممكن أن يحلا محل الإدخار المحلى فى إنجازالتنمية.
2. للدولة والتخطيط دورحاكم فى نجاح التنمية المستقلة. وتشيرالعديد من الخبرات إلى أن السوق فى حد ذاته لا يصنع تنمية، وأنه حتى فى الحالات التى سمح فيها لقوى السوق بالعمل جنبًا إلى جنب معا لتخطيط والتدخلات الحكومية، فإن التنمية كانت تتم،ليس بآليات السوق الحرة، وإنما بتوجيه الدولة للسوق وتحكمها فى مساراتها، وفى ضوء مخطط اتمحددة للدخول فى صناعات بعينها ولتنمية المزايا النسبية فى صناعات بذاتها، وذلك باستعمال حزمة لايستهان بها من السياسات الاستثمارية والتجارية والصناعية، لاسيما الحماية الجمركية والدعم للصناعات الناشئة وللصادرات، وكذلك السياسات الرامية إلى بناءقدرات علمية وتكنولوجية محلية.
3. المشاركة الديمقراطية والتوزيع العادل للثروة والدخل شرط لنجاح التنمية.
4. يجب ان يكون النموهو قاطرة التجارة لا العكس، وأنما يجذب الاستثمارا لأجنبى هو توافر إمكانات حقيقية للنمو فىا لاقتصاد المعني من خلال معدل مرتفع للادخار والاستثمار.
5. إن تحريرالتجارة وحركة رؤوس الأموال عبر الحدود، ورفع الحماية والدعم عن الصناعات الوطنية وتحرير أسعار الفائدة والصرف قبل إحراز تقدم ملموس فى بناء الطاقات الإنتاجية للدولة، وقبل تكوين مزايا تنافسية يعتد بها فى بعض القطاعات، يمكن لهذا كله أن يلحق أضرارًا جسيمة بالاقتصاد الوطنى، ويصادر فرص التنمية .
وتعني هذه الملاحظة على وجه الدقة أن انفتاح الاقتصاد الوطنى على الاقتصاد العالمى ليس مرفوضا من حيث المبدأ، بل المقصود هوأن يكون
مثل هذا الانفتاح متدرجًا ومحسوبًا فى كل الأحوال فى ضوءالشوط  الذى قطعته كل دولةعلى طريق التقدم.
   وهذا كله يستدعي حوارا جادا، وطنيا ومجتمعيا، بين أطراف العملية الإنتاجية والقوى الناشطة في الاقتصاد الوطني والباحثين المتخصصين بقضايا التنمية والخبراء والممارسين، وان لا تكون عملية صياغة أية استراتيجية بما فيها الاستراتيجية الصناعية محصورة بعمل "الخبراء" في غرف مغلقة.
الهوامش
(1) إسماعيلصبرى عبدالله،مصرالتىنريدها،دارالشروق،القاهرة، 1992
(2) يعج الادب الاقتصادي بكثير من الدراسات حول التنمية المستقلة والمعتمدة على الذات. ولمزيد من التفاصيل قارن: محمد دويدار وآخرون،استراتيجية الاعتماد على الذات،منشأةالمعارف،الاسكندرية، 1980؛ كذلك: رمزي زكي، الاعتمادعلى الذات، المعهدالعربى للتخطيط ودارالشباب،القاهرة، 1987؛ كذلك: ابراهيم العيسوي، نموذج التنمية المستقلة البديل لتوافق واشنطون وإمكانية تطبيقه فى زمن العولمه...، مصدر سابق.
نوفمبر 2014