مدارات

ذكرياتي مع سعدون لا تنضب

جاسم الحلفي
كنت ضمن مجموعة الاقتحام حين شاركت اول مرة في الكفاح المسلح. وقتها غلبت هتافاتي على اطلاقي الرصاص وكنت مستعداً للاستشهاد في سبيل الحزب، اعتقاداً مني بان الاستشهاد هو التجسيد الاصدق لخوض المعركة.
كنت آنذاك احمل صورة رومانسية جاهزة للشهيد، من دون ان اتذكر او اتصور ملامح محددة له.
وبعد معارك ونزالات خضناها، وسقوط شهيد تلو شهيد.. صرت احتفظ في ذاكرتي بتفاصيل عنهم، عن ملامحهم وتعبيراتهم، عن مزاحهم قبيل الاستشهاد واحياناً كلمات من لحظات الاحتضار. لكن كثيرا ما تهرب مني تلك التفاصيل، التي احاول استذكارها. وحده صديقي الحبيب سعدون لا تنضب ذكرياتي معه، لدي خزين منها.. فمن اين ابدأ؟ من تلك المتصلة باصعب الاوقات واخطرها، ام احدثكم عن اطيبها واعذبها.. لكم ان تتصوروا انني حين كنت اقرأ له من الشعر البصري للشاعر الراحل مصطفى عبد الله سطوراً تقول:
غالبا ما ننام
وننسى الرصاص الذي لا يكف
ونحلم ان لا نموت..
يكملها هو قائلاً: " لم نعد نستحي عندما لا نموت.. فنحزن لحظة فتح التوابيت حتى تفوت".
رغبت ان اتحدث في هذا الاحتفال عن سجاياه.. عن كرمه وسخائه عن شجاعته واقدامه.. عن تعلقه بالرفاق.. عن التصاقه بالحزب.. عن قيم التضحية ونكران الذات التي تمسك بها.. عن تواضعه وحبه للتعلم، لكن يطيب لي في هذه اللحظات ان اتحدث عن الثنائية التي ربطتنا، في تناقضها العجيب والمدهش والغريب عن السباق غير المعلن بيننا.
فالشهيد سبقني الى بيروت للتدرب على السلاح مع المقاومة الفلسطينية، في بداية الثمانينات استعداداً لمقاتلة الدكتاتورية، لكنني سبقته في الوصول الى كردستان. سبقني في النزول مع المفارز القتالية في سهل اربيل، الذي كان من اخطر المناطق في المواجهة مع الدكتاتورية المقبورة، وسبقته انا في تنفيذ عملية اقتحام في منطقة قرداغ في السليمانية. سبقته في اقتحام الربايا العسكرية، فسبقني في الاقتحام داخل المدن، حيث قاد عملية اقتحام مبنى قائمقامية شقلاوة باقدام وشجاعة نادرتين، في تجربة لم يجرؤ قادة انصاريون على مجرد التفكير بها. سبقته في التسلل ليلا عام 1987 الى جامعة صلاح الدين في اربيل، حيث تحدثت في ندوة داخل احد اقسامها الداخلية، في مغامرة محسوبة بدقة، وكانت العملية النوعية الكبيرة التي لم نطلق فيها رصاصة واحدة، لكنه سبقني في اقتحام مدينة شقلاوة كاملة، مسجلا اجرأ عملية اقتحام آنذاك. سبقته في دخول مدينة اربيل متخفياً بعد عمليات الانفال سيئة الصيت، وسبقني في التسلل الى بغداد. لحقت به للعمل ضمن فريق العمل السري للحزب. سبقني ايضاً في طرق باب بيت والدي، وسبقني في دخول بيوت شقيقاتي. سبقني في تسجيل موقف بطولي نادر، حين تصدى للقوات الحكومية، واوقف بسلاحه الـ آ ربي جي سفن، تقدم الدبابات نحو شقلاوة. وما زالت الدبابة المعطوبة ماثلة على الطريق بين صلاح الدين وشقلاوة، عندما كانت تزحف لقمع انتفاضة آذار 1991 هناك. ولم يكن لي من دور وقتها سوى الاشادة بشجاعته النادرة وبطولته.
سبقته في النزول الى بغداد غداة انهيار النظام الدكتاتوري، ومعنا عدد من الرفاق وزعنا الجريدة وفتحنا المقر، مبادرين بفرض نشاط الحزب العلني رغم الاحتلال، وذلك بعد سنوات من العمل السري والاختفاء، لكنه سبقني في الانغمار باعادة بناء التنظيم الحزبي.
عجزت عن اللحاق به، حتى سبقني اخيرا الى المجد وكلل مسيرته النضالية بالخلود. صديقي ورفيقي الحبيب، نم قرير العين فقصيدة الشاعر اوشكت على الانتهاء، حيث يقول في سطرها الاخير:
يا خشبة التابوت.. تمهلي فكلنا نموت.