مدارات

أفكار زكّتها عقود الزمن / كمال يلدو

يمضي قطار الحياة بعيدا في مسيرته، مارا على مدن وأزمنة تقاطعت أحيانا وانسجمت أحيانا أخرى. تجربة رويت بالصبر والأمل والمحبة، بالانكسار والنجاح، بالسقوط والنهوض، بالحزن وفقدان الأعزاء، أو بانتكاسة تأتي على الأخضر واليابس، بهذا الكلام يستهل السيد "صباح داود شلال" حديثه عشية الاحتفالات بالذكرى الحادية والثمانين لميلاد حزب الطبقة العاملة العراقية، ويمضي قائلا: إنها مفارقة كبيرة حقا تلك التي تجمع مابين أكثر من ستة عقود مع الحركة الوطنية ومابين معيشتي في الولايات المتحدة مغتربا عن العراق الذي أحببته، إنها توليفة صعبة لكنني قبلتها على مضض.
أمّا عن أولى خطواته وعبير تلك الأيام البكر فيقول: كنّا شبابا صغارا، وتلاميذ في المتوسطة في قرى وبلدات بعيدة عن مراكز المدن (مدينة تلكيف تبعد عن مركز محافظة نينوى ١٠ كيلومترات) حينما تناهت لمسامعنا أولى الكلمات حول المفاهيم الوطنية في الاستقلال والتحرر والاشتراكية، فتعلقنا بها، وخضنا تلك (المغامرة) بروح وثابة، ومازلت أشعر بشعلتها على الرغم من عوامل الزمن واعتلال الصحة!
ثم يعود السيد" صباح" ويتذكر: كان العام هو 1953 وكنت حينها طالباً في (متوسطة المشرق) في مدينة تلكيف، وعمري لم يتجاوز الخمسة عشر عاماً، حينما انضممت الى اتحاد الطلبة العام، إذ كان الجو العام في مدينتا والقرى المجاورة، جوا وطنيا عارما، خاصة بعد التظاهرات التي عمت العراق عام 1952، أما أكبر ساعات متعتنا فكانت مترافقة مع عودة زملائنا وأصدقائنا من العاصمة بغداد، إذ كانوا ينقلون لنا أهم وأحدث الأخبار، وأكثرها إثارة .
وعن دراستي الثانوية، يكمل السيد "صباح شلال" القول: فقد أكملتها بين الموصل والثانوية الجعفرية ببغداد، إذ كان اتحاد الطلبة نشطا فيها، وعشية اندلاع ثورة ١٤ تموز وانتصاراتها، عشنا أفراحا وأعراسا وطنية. أشعر بالأسى لأنها لم تدم طويلا، وتبدأ الأحداث تأخذ منحدرا نحو الأسوأ، أستطيع أن أقول بأننا نعيشه وندفع ثمنه لغاية هذا اليوم (2015)، وقد تعرضتُ للتوقيف عام 1961 أثناء توزيعنا لمطالب "إطلاق سراح المعتقلين المحكومين بالإعدام من حركة الشواف"! ولم تمض فترة مابين إطلاق سراحي واعتقالي مجددا عشية نجاح انقلاب البعث في ش?اط الأسود عام 1963 و لمدة سنة كاملة، ويومها انضممت الى جيش المفصولين السياسيين، فعملت في إحدى المؤسسات البعيدة عن الأنظار (شركة تأمين)، لسنين طويلة، تخللها انضمامي الى كلية التجارة بالبصرة ومن ثم الى لجامعة المستنصرية وتخرجي من قسم المحاسبة عام 1976، وقد أحلتُ على التقاعد من وظيفتي عام 1983، وبقيتُ أمارس الأعمال الحرة حتى عام 1997 حينما قررت العائلة الخروج من العراق والهجرة، بحثا عن مكان آمن وبعيد عن دائرة الملاحقات والمستقبل المجهول، فكانت الولايات المتحدة وجهتنا، والى اليوم.
السيد "صباح داود شلال" من مواليد مدينة (تلكيف ـ محلة مار تشموني) عام 1938، متزوج من السيدة ضمياء موني وليم، ولهما بنتان وولدان وأربعة أحفاد.
يحرص السيد "صباح" على الحضور والمشاركة في أغلب الفعاليات والنشاطات الوطنية، إن لم تكن كلها، تلك التي تشهدها مدينة ديترويت، حيث تضم واحدة من أضخم التجمعات العراقية، وله حضور طيب في الوسط الاجتماعي، ويردد دائما مقولاته في أهمية الحرية والتحرر والسيادة الوطنية والمدنية والعلمانية للدرجة التي تجعل العديد من أصدقائه يسألونه إن كان مازال على قناعاته الفكرية والسياسية أو أنه نادم على تلك الخيارات فيقول:شخصيا لست نادما ابدا، لا بل أني أفتخر بنفسي وبمعتقداتي التي برهن الزمن والحياة على صحتها لكن، وهنا يردف القول:
انظر الى المشهد أمس واليوم، وقارن شعاراتنا مع شعاراتهم، قارن مشاريعنا وأحلامنا وآمالنا مع ما قاموا به (كل الحكومات منذ انقلاب شباط عام 1963والى اليوم) ما الذي قدموه: قدموا عدواً غير قليل من الفتات ممزوجا بالإرهاب والقمع والتدمير والاعتقال والتشريد لدرجة أن نحتفل، ونحن على بعد آلاف الأميال عن وطننا الغالي والغني، لماذ؟ لأن سياساتهم ومشاريعهم وارتباطاتهم كانت وستبقى فاشلة. انظر للأفكار الوطنية، فكم مليون من العراقيين أحبها وعشقها وتعلق بها، ولماذا تخلوا عنها، ألم يكن ذلك بسبب الإرهاب والخشية من الاعتقالات و?لملاحقة. ماذا كان سيكون الحال لو سادت في العراق الحرية والديمقراطية وروح الإخاء والشعور بالمسؤولية، هل كان للبعث أو القاعدة أو داعش أو لهؤلاء الطائفيين والعنصريين حظوظ بالبقاء والنجاح؟
الجواب كلا.
إن البقاء هو للأفكار الصالحة، الطيبة والتي تخدم البشر، وقد لا تنتشر اليوم، لكني على يقين بأن المستقبل لها، أما لوطني الغالي، فبالرغم من المحن، وعشية الاحتفال بالذكرى العطرة، لي أمنيتان غاليتان على نفسي أولاهما، أن يتمتع العراقيون بالأمن والأمان وأن يعود المهجرون الى ديارهم وبلداتهم، وأن ينعم العراق بشعار "وطن حر وشعب سعيد" هذا الذي زكته الحياة والزمن، وزكّت ناسه الطيبين والمضحّين.