مدارات

من تأريخ الكفاح المسلح لأنصار الحزب الشيوعي العراقي (1978-1989) "31" / فيصل الفؤادي

الفصل السابع عشر
الهجوم التركي
من أجل تأمين حدودها الشمالية من معارضيها وقعت الحكومة العراقية اتفاقية مع الحكومة التركية والتي سمح فيها للقوات العسكرية التركية بتجاوز الحدود الدولية أي بدخول الاراضي العراقي بمسافة 17 عمق وهذه هي الحجة التي ساعدت القوات التركية في هجومها على الأحزاب الكردية المسلحة والمعارضة لسياستها في تحجيم نضال ودور الشعب الكردي في تركيا وعدم منحه حقوقه في الحياة الطبيعية.
وقد هددت الحكومة التركية قوات جود المتواجدة في المناطق الحدودية وطلبت منهم الإنسحاب إلى العمق خلال ثلاثة أيام بإخلاء المنطقة.
ومن الطبيعي جدًا وتلافيًا لهجوم القوات التركية تم نقل المقرات إلى الاراضي العراقية عمقًا. اخذ الطيران التركي في الاستمرار في طلعاته ولهذا تقرر بالتنسيق مع حدك الانتقال إلى مواقع أكثر في العمق، وكان موقع (هرور) هو الأقرب، وهذا الموقع مكشوف نوعما وهو غير صالح من الناحية العسكرية.
وقد بدأت القوات التركية التحشيد والهجوم على مواقعنا والدخول إلى الأراضي العراقية بالمسافة التي حددتها مع الحكومة العراقية هذه الإتفاقية , والتي للقوات التركية الحق بمطاردة قوات المعارضة لها داخل الاراضي العراقية.
بعد ان وصلت هذه التهديدات , (... حال وصولنا إلى المقر، تدارست لجنة الجبهة الوضع والإنذار التركي وتقرر الطلب من الجانب التركي إمهالنا مدة ثلاثة أيام للتمكن فعلاً من إخلاء المقرات. إلا أننا وفي ذات الوقت ودون أي تأخير قمنا بإرسال العوائل والمرضى والجرحى وباشرنا بنقل الممتلكات حسب أهميتها إلى مقرنا الجديد، وكان مايزال مجرد واد لا بناء فيه ولا خيام )[1].
بدأ الهجوم التركي في يوم 25/5/ 83 معززًا بـ 15 ألف جندي بينهم قوات مظلية , كانوا مدعومين بـ 30 ألف جندي محتشدين على الحدود وبمشاركة الطيران التركي الذي بدأ بقصف القرى الحدودية، مما أدى إلى مقتل وجرح حوالي 25 شخصًا من قرية هيركي هذا الهجوم الذي سردت السلطة التركية حججًا واهية لتبرير الهجوم ,منها القضاء على قطاع الطرق وأعضاء تنظيمات محظورة ومجرمين ومهربين. كان الواقع غير ذلك لأن الهجوم كان على جبهة مساحتها 1200 كيلومتر مربع وعلى المثلث السوري العراقي التركي. نحن نعتقد أن الإتفاقية التركية - العراقية هي التي أجازت للجيش التركي بالدخول، اذ أجازت الإتفاقية لقوات البلدين دخول أراضي البلد الآخر بحدود 17 كم وكذلك أجازت للطيران بالتحليق فوق أراضي الغير والتعاون والتنسيق الأمني وتبادل المعلومات بصدد مكافحة الشيوعية والأفكار والنشاطات الأخرى. تسليم المجرمين والمتمرديين في حالة القبض عليهم والسماح لقوات البلدين بتعقبهم في أراضي البلد الآخر (السلطات التركية القت القبض على ستة رفاق من الحزب كانوا متوجهيين إلى سوريا وسلمتهم إلى النظام العراقي عام 1981).
وبصدد الانصار الشيوعيين فقد أعلنوا حالة التأهب القصوى وكذلك فعل الديمقراطي الكردستاني وتم إرسال مفرزة مكونة من حوالي 10 من الانصار وأكثر من هذا العدد من الديمقراطي ليرأبطوا على الجبل المطل على تركيا من جهة ارموش وتم تزويدهم بسلاح متوسط , العفاروف والدكتريوف والبقية الكلاشنات والقنابل اليدوية.
وبقيت المفرزة التي كان يقودها الرفيق أبو زيدون يومين هناك. حين بدأ الهجوم والقصف وتحليق الطيران, وكنا (في مقر القاطع) في حالة انسحاب مستمر نحافظ على العوائل وممتلكاتنا الشخصية والحزبية، مع ذلك تركنا الكثير من المواد (أثناء رجوعي لجلب صناديق العتاد لسلاح الـ 500 وكان معي الرفيق سعيد القوشي وأبو لينا ديوانية وبصحبتنا اثنان من البغال وجدنا الكثير من الكاسيتات والدفاتر والورقيات والرسائل متروكة في هذا الكلي الذي رابطنا به حوالي شهر).
في الوقت نفسه بدأ الهجوم البري التركي وذلك بالصعود إلى قمة الجبل المرابط عليه رفاقنا ولكنهم جاءوا من الجهة التي كان يرابط بها الديمقراطي الكردستاني. وقد فوجيء الانصار في هذه المجموعة بوجود الأتراك بالقرب منهم. لم يعرف رفاقنا بانسحاب الديمقراطي من التلة التي هم يحرسونها وكان الإنسحاب قد جرى دون علم منهم. في هذه الأثناء جاء المسؤول أبو زيدون ليخبر الرفاق بالانسحاب فورًا ولم يستطع الرفاق تدارك هذا الوضع ولملمة أغراضهم، ولكن من جهة أخرى كان النصيرالشهيد أبو فكرت يقاوم ويدافع عن تربة الوطن التي دنستها القوات التركية وهو يردد (جبناء فاشست).
ويقول النصير توما توماس المسؤول العسكري في قاطع بهدينان حول هذا الهجوم ,(في يوم 25/5/1983 وعندما كانت دورية مشتركة من أنصارنا وبيش مركة حدك في مهمة مراقبة لتحركات الجندرمة المعسكرين في ارموش فقد لاحظت تقدم قوة كبيرة من الجندرمة نحو قمة الجبل المطلة على مقراتنا الجديدة، ولم يعد هناك أي مجال لأنصارنا بالانسحاب بعد أن أصبحوا وجها لوجه مع طلائع القوة المهاجمة التي أمطرتهم بوابل من الرصاص، فأضطر أنصارنا إلى الرد ليصيبوا العديد منهم بين قتيل وجريح واستشهد لنا نتيجة ذلك الاصطدام الرفيق (رحيم كوكو العامري "أبو فكرت"، وأصيب الرفيق باسم (وهو أحد الضابط الذي تخرج من دورة عسكرية في اليمن الديمقراطية، وكان قد التحق في بداية شهر أيار من نفس السنة)، حيث حوصر تمامًا من قبل الجندرمة، ولم يكن أمامه أي منفذ للنجاة سوى أن يرمي بنفسه من قطع جبلي عالي ، لتتهشم بعض عظامه وبقى هناك اسفل مواقع الجندرمة صامتًا محتقظًا بسلاح العفاروف، وفي منتصف نفس الليلة تمكنت إحدى مفارزنا البطلة من الوصول إلى موقع الرفيق وسحبته بأمان)[2].
كانت عملية نقل السلاح وصناديق العتاد متعبة وصعبة خاصة عند عبور نهر الخابور، حيث كلفت مجموعة من نفس الرفاق الجيدين لنقل السلاح على مراحل وهذا ما تم: اذ(ينقل عبر الخابور) بواسطة الكلك، في نفس الوقت نقلت العوائل ورحلت إلى مناطق آمنة وبعيدة عن الحدود.
وتجمعت جميع القوى المسلحة بعد أن تم تدارك الأمور بخصوص العوائل وتم إرسالها إلى مناطق أكثر أمنا هي هرور وقرب كلي يسمى كلي (قمرية).
إلا أن الإنسحاب الكبير مع المرضى والجرحى والعوائل مع كافة الأنصار في نهاية حزيران تقريبًا من نفس السنة والعبور إلى جهة برواري بالا، أي إلى مقرنا في كلي (هسبه) للفوج الثالث.
وقد مكثت القوات هناك حوالي شهرين حتى يتم إيجاد مقر جديد لمقر القاطع.
وبعد استطلاعات كثيرة تم الإتفاق على نقل المقر إلى مقر زيوه الذي يقع على نهر الزاب ويبعد مسافة ثلاث الى اربع ساعات عن قضاء جلي التركي. ومن الجانب العراقي يقع خلف قضاء العمادية ومن الجهة اليسرى لناحية ديرلوك وشيلادزة، ويكون شرق ناحية كاني ماسي وقرب منطقة نيروه.
وقد تم بناء كبرات- سقيفة صيفية تتكون من اغصان واوراق الاشجار- في البداية ونقل فصيل المقر مع السلاح واللاسلكي والإعلام تدريجيًا إلى هذا المقر الجديد.
وبدأ فصل جديد من العمل المضني في البناء وتوزيع الفصائل وبناء القاعات المختلفة التي جرى الحديث عنها.
لقد اصدرت جبهة جود بيانًا في 28 من أيار 1983 تحت عنوان (جزء من المؤمرة الكبرى على وطننا وحركة شعبنا الوطنية)، كونه تصادف مع هجوم الإتحاد الوطني على قوات الأحزاب الوطنية والقومية العراقية المعارضة للنظام جاء فيه:(أيها المواطنون .. يا أبناء شعبنا عربًا واكرادًا وأقليات .. أعلنت السلطات التركية الدكتاتورية يوم أمس عن اقتحام قوتها العسكرية للأراضي العراقية بذريعة مفضوحة هي ملاحقة مرتكبي حوادث عنف في الأراضي التركية! وقد أثار هذا الإعلان القلق والسخط بين جماهير شعبنا بما يشكله من اعتداء فظ على سيادتنا الوطنية وحرمة أراضي وطننا، وتهديد خطير بانتزاع جزء منها تحقيقًا لأطماع قديمة للجندرمة الأتراك بأرضنا الحبيبة. كما أثار هذا الإعتداء القلق في أوساط حركة التحرر الوطني العربية وفي المنطقة، وتدعو جود أنصار (أوك) ومقاتليه إلى التمعن في دلالات هذا العدوان وارتباطه بأعمال قيادتهم العدوانية الموجه ضد الجبهة الوطنية الديمقراطية (جود) والحركة الوطنية العراقية والحركة القومية الكردية التحررية وارتباطه بمخططات الطغمة الدكتاتورية الفاشية في بغداد والدوائر الامبريالية. وتختم البيان، تعلن جود ثقتها المطلقة باندحار هذا التعاون وكل المخططات الإمبريالية الرجعية – الدكتاتورية، وبانتصار شعبنا المناضل بفضل صمود قواه الوطنية وتضامن القوى الصديقة العربية والعالمية)[3].
كما أصدر الحزب الشيوعي العراقي بيانًا حول الإجتياح التركي وتحت شعار (الإجتياح التركي للأراضي العراقية لن ينقذ صدام ونظامه. في السادس والعشرين من أيار قامت قوات الدكتاتورية العسكرية التركية، عميلة حلف الأطلسي العدواني والتابع والمنفذ لإرادة واشنطن، بعدوان سافر على سيادة بلادنا الوطنية وانتهكت حرمة أراضينا وارتكبت العديد من الجرائم ضد أبناء القرى الحدودية الآمنين، فشردت آلاف العوائل وروعت السكان الآمنين من شيوخ ونساء واطفال، وفتحت نار الغدر التي أودت بحياة الكثير من المواطنين والمناضلين الثوريين من رفاقنا ومن بينهم أبو فكرت وحلفاءنا أنصار جود. إن الدكتاتورية العسكرية التركية، لا تقوم فقط بالسعي لإنقاذ صدام وزمرته تنفيذًا لأوامر واشنطن، بل تضمر في الوقت نفسه اطماعًا توسعية خبيثه، ويختتم البيان بالقول: طالبوا بسحب القوات التركية المعتدية، دافعوا عن سيادة وطننا الحبيب، إن المؤامرة الإمبريالية لن تمر! والحرب التركية الأمريكية لن تنقذ رأس الدكتاتورية من حد المقصلة)[4].
وتوضح الحقائق التاريخية أن الحكومة التركية لها أطماعها في العراق وهذا ما يعرفه أبناء شعبنا، وكانت طيلة الفترات السابقة مستفزة وتعتبر نفسها مسؤولة عن أبناء شعبنا التركمان الذين عاشوا مئات السنين في وطنهم العراق، لكن تركيا تجد في نفسها القوة والإمكانيات التسليحية ومن وراءها الولايات المتحدة الأمريكية والحلف الاطلسي، لهذا لا يهمها ما يقال.
(... أما موقف تركيا فقد ظل محكومًا بمصالحها ومطامعها وعدائها للحقوق القومية للشعب الكردي داخل وخارج حدودها، وقد اتخذت من نشاطات حزب العمال الكردستاني في تركيا ذريعة مفضوحة لاجتياح الحدود العراقية أكثر من مرة. كما أن القادة الاتراك لم يكفوا عن ترديد التصريحات التي تكشف مطامعهم العدوانية في أرض العراق وثرواته، والمطالبة بعودة ولاية الموصل إلى تركيا، ويمنحون أنفسهم حق الوصاية على تركمان العراق، كما يواصلون سياستهم التعسفية في مجال المياه ورفض الإعتراف بالرافدين دجلة والفرات بأعتبارهما نهرين دوليين)[5].
________________________________________
[1] مذكرات توما توماس رقم 30
[2] مذكرات توما توماس في المنشورة في موقع ينابيع العراق الالكتروني رقم 30
[3] الثقافة لجديدة العدد 144 تموز 1983
[4] نفس المصدر السابق اوائل حزيران 1983
[5] التقرير السياسي للمؤتر السادس للحزب الشيوعي العراقي تموز 1997ص32