مدارات

الشيء بالشيء يذكر وبعض الاضافة

ناصر حسين
المعروف ان اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي المنعقد في براغ في شهر اب 1964 اقر خطاً سياسياً جرى التعارف على تسميته بخط اب جرت تخطئته لاحقا وبعد بضعة اشهر لا غير وادين من قبل اجتماع اللجنة المركزية للحزب المنعقد في 18-20 نيسان 1965 باعتباره (سياسة يمينية ذيلية). واقر الاجتماع خطاً سياسيا جديدا تجسد في شعار (اسقاط طغمة عارف يحيى الدكتاتورية الرجعية).
ومنذ ذلك التاريخ اي 20 نيسان 1965 اخذت المنظمات الحزبية وهي تدرس التجربة التي مرت بها، تتبارى فيما بينها على انهاض الجماهير وزجها في نضالات جماهيرية كل في مجالها وحسب ظروفها الملموسة. فهذه تنجز تظاهرة جماهيرية بشعارات محددة ملموسة وتلك تنجز اضرابا عمالياً سواء كان عن قضايا سياسية او قضايا معاشية، وتلك تخوض انتخابات طلابية وسط صراعات مع مختلف القوى المعادية لتلك النشاطات وهذه تشكل قائمة لخوض انتخابات نقابة المعلمين في هذه المحافظة او تلك فتفوز في الانتخابات ليصبح رفاقها قادة فرع النقابة في المحافظة المعنية ووصل الامر حد قيام فلاحي منطقة العين في ريف جنوب مدينة الشامية باضراب عن العمل عام 1966 بحيث علقت عليه اذاعة صوت الشعب العراقي عندما وصلتها المعلومات عن الاضراب مذكرة بالمثل الشعبي المعروف "يم حسين جنتي ابواحد طحتي بثنين".
وفي تلك الايام ووسط ذلك الحماس والثقة بقرب النصر على سلطة عارف يحيى التي دخلت سياستها طريقا مسدوداً واصيبت بالعزلة عن الشعب واخذت تنتظر يوم سقوطها تتوجت الصراعات الحادة التي كانت تدور في منظمة بغداد حول اساليب النضال المتبعة، بمحاولة انشقاقية استهدفت الاستيلاء على قيادة الحزب.
"واذا الدنيا كما نعرفها / واذا الايام كل في طريق" على حد قول الشاعر المصري المعروف ابراهيم ناجي في قصيدته المعروفة المعنونة "الاطلال".
عقدت اللجنة المركزية للحزب اجتماعا طارئا قررت فيه طرد كل من "رمزي" عزيز الحاج علي حيدر، بيتر يوسف، حسين القمر، وزمرة التنفيذ طردا نهائياً من الحزب، واصبحت المهمة المباشرة التي تواجه المنظمات الحزبية معالجة اثار الانشقاق خصوصا وان المنشقين استولوا صباح يوم 17 ايلول 1967 على البيوت الحزبية، المالية الحزبية، المطبعة، السيارات.
ولا يمكن ان انسى ابدا ذلك الدور الذي نهض به شهيدا الحزب شاكر محمود وستار خضير الحيدر في الاتصال بالمنظمات الحزبية وتبصيرها بحقيقة الامور وجعلها تقطع كل صلة لها بهم وتعود الى احضان حزبها وبوقت مبكر جدا.
كما لا يمكن ان انسى ابدا تلك المبادرة الرائعة التي اقدم عليها كل من اراخاجا دور والمطرب فؤاد سالم اللذين كانا قد ربحا بطاقة يا نصيب بمبلغ خمسة الاف اذا وضعا المبلغ بكامله تحت تصرف قيادة الحزب لتدبير ما يمكن تدبيره من امور مستعجلة لصيانة كادر الحزب القيادي وممتلكاته وقد تحدثنا لاكثر من مرة انا والرفيقة زكية خليفة عن بطاقة اليانصيب تلك وكيف سهل مبلغها للحزب تدبير بعض الامور الضرورية في تلك اللحظات العصيبة على قيادة الحزب ومنظمة بغداد واكرر القول واخص به منظمة بغداد، اذ نحن في منظمات الفرات الاوسط لم نعان ما عانت منه منظمة بغداد وواصلنا عملنا على تنفيذ سياسة الحزب المقرة وخصوصاً المنظمات الحزبية الريفية التي كانت قد رفعت آنذاك الشعار التحريضي للفلاحين "زرعك اكله ولا تنطيه".
عندما وقع انقلاب السابع عشر من تموز 1968 كنا بحاجة الى ان نوفر لانفسنا فرصة / فسحة زمنية نستثمرها لمعالجة ما في نشاطنا ووضعنا من نواقص.
-رفاقنا يملأون السجون والمعتقلات.
-المفصولون السياسيون من رفاق الحزب واصدقائه، في الشارع، وهم كثر وعوائلهم تعاني من اصعب الظروف المعاشية.
- المحكومون غيابيا والمطاردون لاسباب سياسية يملأون المدن والارياف والبعض منهم في المواضع في جبال كردستان العراق وقراها.
كنا كحزب بحاجة الى ان نعالج هذه الامور الثلاثة مع السلطة الجديدة التي قامت بعد 17 تموز 1968 واغلب اولئك المحكومين والمطاردين والمفصولين هم ضحايا انقلابهم الفاشي في 8 شباط 1963.
كما كنا بحاجة الى ان نضعهم على المحك امام الجمهور بخصوص ما اعلنوه من شعارات وما اخذوا يتحدثون به مع الناس. وهذا ما طرحه الحزب على زعامتهم في اللقاءين الذين تما مع رئيس الجمهورية احمد حسن البكر سواء كان بعد السابع عشر من تموز 1968 او بعد الثلاثين من تموز.
قال الرفيق مكرم الطالباني: نحن لم نكره البكر لان شكله لا يختلف عن شكل عبدالكريم قاسم، لقد كرهنا اعمالكم، جئتم الى السلطة في 1963 فقمتم بسجننا وتعذيبنا وقتلنا وسقطتم ومثلما سجنتمونا سجنتم، والان جئتم من جديد الى السلطة وليس امامكم غير طريقين: الخير او طريق الشر والخيار متروك لكم فأنتم القائد للسلطة الان، فان سلكتم طريق الشر لن يكون مصيركم هذه المرة باحسن من مصيركم في المرة السابقة وان سلكتم طريق الخير فطريق الخير واضح وهو تلبية مطالب الشعب وشعبنا اصبح ذا خبرة بحيث اخذ يتعامل مع الاحزاب والحكومات ليس من خلال ما يطرح من شعارات ويذاع من الاذاعات وإنما من خلال الاعمال والسلوك وليس غير ذلك".
وهذا بعض ما طرح وتكرر الطرح ذاته معهم في اللقاء الذي تم مع البكر بعدما اتخذوا من اجراءات في الثلاثين من تموز اي ابعاد عبدالرزاق النايف (رئيس الوزراء) وابراهيم الداود (وزير الدفاع) عن منصبيهما.
وفي تلك الفترة اطلقوا سراح السجناء والمعتقلين، والغوا اوامر القبض بحق المطاردين، وقرروا اعادة المفصولين السياسيين الى وظائفهم باستثناء العسكريين منهم. ولكن بالمقابل فرقوا بالقوة احتفال ساحة السباع في ذكرى ثورة اكتوبر وتسببوا باستشهاد الرفيق وليد الخالدي واستخدموا القوة كذلك لفك اضراب عمال الزيوت النباتية وفي ربيع 1969 اغتالوا الشهيد ستار خضير الحيدر عضو اللجنة المركزية للحزب.
وواصل الحزب ضغطه عليهم فتقدم الحزب لهم ربيع عام 1969 بثلاثة مقترحات هامة:
-الاعتراف بجمهورية المانيا الديمقراطية وبذلك يتحول مبدأ هولشتاين الى مجرد حبر على ورق.
- استخراج الكبريت وطنياً بمعونة بولونية. وبذلك يقطع الطريق على محاولات استخراجه بامتياز استثماري للشركات الامريكية. وجعل ثروتنا الكبريتية، والعراق يمتلك نصف احتياطي الكبريت في العالم، ملكا خالصاً للعراق يوظف لتطوير الاقتصاد وخدمة التقدم الحضاري في البلد.
- حل المسالة الكردية حلا سلمياً يمنح الشعب الكردي الحكم الذاتي ضمن الجمهورية العراقية.
وقد نفذوا المطلبين الاولين بقرارات اصدروها ليلة الاول من ايار 1969 اما الثالث فقد حاولوا تجربة حظهم العاثر باللجوء الى القوة وبعد ان فشلوا في مسعاهم وتلقت القوات المسلحة التي ارسلوها لمقاتلة الشعب الكردي ضربات موجعة عادوا الينا للتوسط لدى الاخوة الكرد لايقاف القتال والعودة الى التفاوض من اجل الوصول الى حل سلمي للمشكلة الكردية وجرى التوقيع على بيان الحادي عشر من اذار 1970 القاضي بمنح الشعب الكردي "الحكم الذاتي" ضمن الجمهورية العراقية. حينذاك لم يكن صدام قد قرر تغيير التسمية من الجمهورية العراقية الى "جمهورية العراق" وحتى هذه الخطوة اضطروا لها اضطرارا.
وبعد اطلاق سراح المعتقلين من جماعة القيادة المركزية بتدخل مباشر من الحزب تفرغت اجهزتهم القمعية لحملة الاعتقالات الظالمة وارهابهم الذي سلطوه على منظمات الحزب من شماله الى جنوبه والتي بدأت باختطاف الشهيد محمد احمد الخضري والاجهاز على حياته في عملية تعذيب بربرية في قصر النهاية يوم 22 آذار 1970 وقد استعرض الحزب تلك الحملة الارهابية في البيان الذي اصدره في اواسط شهر آب 1970 والمنشور كملحق في مؤلف الدكتور سيف عدنان ارحيم القيسي المعنون "الحزب الشيوعي العراقي في عهد البكر من 1968 - 1979" واستمرت تلك الحملة الارهابية حتى اواخر عام 1971 وقت اذاعة مشروع ميثاق الجبهة المعد من قبلهم، قابله الحزب بموقف ايجابي اعلنه في حينه ودخل معهم في حوار من اجل الوصول الى صيغة مقبولة من الطرفين استمر طيلة العام 1972 والنصف الاول من عام 1973 بكامله. وقد كلفتنا تلك الحملة خسائر كبيرة وشهداء اعزاء دخلوا سجل الخالدين، نحتفظ لهم باعز الذكريات وفي المقدمة منهم الشهداء كاظم الجاسم، عبدالامير سعيد، عزيز حميد، علي الشيخ حسين البرزنجي، جواد عطية شناوة وابو محيسن (صالح احمد العبيدي) سكرتير محلية الكوت وارياف قضاء الشطرة عام 1971.
لقد دخلنا التحالف عام 1973 في تجربة دخلت ذمة التاريخ وقد قيمها الحزب في اكثر من وثيقة من وثائقه وغادرناه عام 1979 في مفخرة للحزب يعرفها القاصي والداني، اذ ان الحزب الشيوعي العراقي عندما غادر التحالف مع حزب البعث عام 1979 لم يغادر الساحة السياسية العراقية بل تحول من شكل نضالي حتمته على الحزب الظروف الموضوعية والذاتية التي كان يمر بها آنذاك الى شكل نضالي آخر اختاره لنفسه وارتضاه لرفاقه وهو الاحتشاد في جبال كردستان العراق يخوض الكفاح المسلح ضد دكتاتورية نظام صدام حسين لمدة عشرة اعوام كاملة من العام 1979 حتى العام 1988، عشرة اعوام كاملة سجل الشيوعيون العراقيون فيها آيات البطولة في الدفاع عن كيان حزبهم، عن تاريخه عن حق شعبهم في حياة كريمة حرة سعيدة.
ولا يسعني هنا الا التذكير بما قاله النصراوي - محافظ البصرة - في احتفال شيوعيي البصرة في الذكرى الحادية والثمانين لتأسيس حزبهم.
"لقد وجد حزبكم ليبقى، أما هم فألى مزبلة التاريخ".