مدارات

سامي العتابي.. شهيد الصحافة الشيوعية العراقية / حسن علي العتابي*

ماتت.. ولم تعثر له على قبر!
كان في عز شبابه.. تخرج في كلية التربية. خرج من الدار صباح يوم الرابع عشر من آذار عام 1981، طبع قبلة حانية على جبين صغيرته التي لم يتجاوز عمرها السنتين وقتذاك. خطا نحو باب الدار ويده اليمنى مرفوعة بتحية الوداع، الاتبسامة العريضة لا تفارق ثغره وامه على عادتها ترش الماء في دربه يخفق خلفه قلبها وتتابعه نظراتها بالدعاء وبشماله يحمل حقيبة صغيرة، في داخلها فرشاته وألوانه واقلامه وتلك هي عدته في عمله الذي احبه وابدع فيه تشكيلا وخطا وتصميما، في رحاب الصحافة التي منحها الكثير من مواهبه وجهده.
مرت ساعات ذلك اليوم طبيعية حتى لف ظلام (القادسية المشؤومة) المدينة.. وخلت الشوارع الا من سيارات عسكرية كبيرة مشحونة بوقود تلك الحرب المجنونة من الشباب وسيارات الاجهزة القمعية تزرع الرعب في كل بيت.
مضت ساعات وساعات على وقت عودته ولم يعد.. طال الانتظار وانقضى الليل كله، ولا شيء يزيل القلق. بدأت الحيرة تشد الاعصاب وتضيق دائرة التفكير. الامر ليس هينا والظرف غير طبيعي حيث يعيش الناس في بحر من الاحزان والمآتم في كل شارع ومكان. اعدامات لرافضي الحرب من الشباب وسط هلاهل الماجدات! المستشفيات تغص بالجرحى والقتلى في ساحات القتال اعدادهم لا تحصى، ولا احد يعرف صفوف الاسرى والتلفزيون يعرض برنامجه الكريه (صور من المعركة) وغربان الشؤم تنعق ليل نهار: (يا حوم اتبع لو جرينا) فيرقص الفيلق الثامن على الحان الموت.
في تلك الظروف القاسية والاجواء الدموية عرف انه اختطف من قبل اجهزة الامن العامة في البتاوين- بغداد. وفي ذلك كانت (الواقعة) وكان هما كبيرا اثقل معاناة الاسرة وخاصة امه التي ما انفكت على كتفها هموم احد ابنائها الذي لم يودعها حين سافر عام 1979 مضطرا الى ديار الغربة. ادمى الحدث جراحها فصار الاثنان رفيقي حياتها وسكب الدموع وسيلة لاطفاء لوعتها، فاكتفت بقليل الزاد ومن الليل اقل ساعاته.
في تلك السنين السود تتأمل نجوم الليل تراقب مساراتها بحثا عن نجم له بينها. في بعض الصباحات تزرع في دربه الياس والحناء عله يعود.. في المساء تشعل البخور والشموع وتحرق القرنفل لطيف له يخترق الظلام نحوها.. اشباح الليل تفزعها فتستيقظ مرعوبة منادية باسمة فلا تسمع غير الصدى.
لم تكتف باقامة الطقوس المعروفة في المناسبات واثناء زيارات العتبات المقدسة وحسب، بل طوت المسافات البعيدة تحمل مصالحها الى المسجد الحرام والمسجد النبوي الشريف مبتهلة الى الله تعالى ان يرد لها كبدها، فتقر به عينها.
استمرت مراجعات ومتابعات اسرته اكثر من ثلاث سنين كانت الاخيرة اواخر نيسان من عام 1984، حيث اقتاد اباه اثنان الى مدير مكتب مدير الامن العام (علي كيمياوي) المدعو طاهر جليل حبوش، بعد ان علقا رقما على صدره فساوره شك بانه سيلحق بابنه، وبدلا من ان يصغي مدير المكتب الطاهر الى شكواه، فقد وقف وراء منضدته (الفخمة) يرعد ويزبد ويتوعد.. وحوله يقف ذوو الشوارب (المعقوفة) بنظراتهم المليئة بالحقد الاسود والنفوس المتعطشة لسفك الدماء.. خرج من تلك المحنة محملا بسراب الوعود يجر ساقي اليأس.
بعد كل مراجعة تلجأ اجهزتهم الى الوسائل المعروفة لخنق الانفاس واحصاء الحركات.. (فيزور) الدار من يقوم بعملية (الجرد) البغيضة للاستفسار عن هذا وذاك، وكيف ومتى واين.. عملية قالت عنها امه ذات مرة بجزع لواحد من كلاب السلطة المسعورة: قل لي بربك متى يتمزق هذا الجرد".
حل اليوم السادس من حزيران عام 1984 ليكون هو اليوم المشؤوم في حياة الاسرة. حين استدعى مدير امن البياع اباه ليجري معه تحقيقا مفتعلا وجردا استفزازيا موسعا ثم لم يبلغه بعد ذلك بصفاقة بقرار اعدام ابنه المفجع. اهتزت الدنيا به وانحبست الدموع في عينيه فترنح مذهولا من وقع الزلزال الذي اطبق على جسمه الناحل وكاد يخنق انفاسه.. تمالك قواه ومشى بضع خطوات متعثرة نحو الشارع، ليجد ابنه الاكبر بانتظاره، قرأ صورته فحمله الى السيارة وسار به في اطراف المدينة.. الحزن يعصر الضلوع والقلب يخفق الما. في الصدر تكسرت العبرات، لكن الدموع همت مدراراً حيث جفت المآقي وحيث لا ينفع الدمع.
فضل الاثنان كتمان الامر عن الاسرة، لكن زوجته استطاعت بعد شهور ان تقف على حقيقة الامر المفجع في العاشر من تشرين الثاني عام 1984.
يومها ومع عمق الجراح واوجاع المصاب وهول الكارثة والتحذيرات من اقامة مجلس عزاء، اغلقت الاسرة ابواب دارها واسدلت الستائر على نوافذها لتقيم داخلها مأتم عزاء فقيدها!
لقد كانت امه المفجوعة صبورة على تحمل الاحزان وحجر الأسى شجاعة في مواجهة الكارثة.. حريصة على سمعة الاسرة وفية لاسمها هكذا تماسكت امام المعزين والمواسين.
تأثرت تصرفاتها بالاوهام وتعلقت بالاحلام وخيوط الآمال، فلم تحصد غير مرارة الانتظار، فراحت تصب لعناتها على الظلام والظالمين في صلواتها وتراتيلها وفي تسبيحها وحكاياتها.
واخيرا بحثت في مخيلتها، وفي احلام يقظتها ونومها عن قبر له، فتمنت ان يكون بين ضلوعها، وذات مرة اوصت ابنته بان يضم معرضها الذي اقامته في آذار عام 2001 قبرا لابيها بلون الشفق وموقعه وادي السلام.
رافقها المرض واضناها.. واكلت كبدها هموم الفاجعة، فلم يعد مشرط جراح بنافع ولا محرار طبيب يشفي، ففاضت روحها كمدا في الرابع من تشرين الثاني عام 2002 ولم تعثر على قبر له.. وقبل احتضارها اوصت ببناء قبر رمزي بجوار قبرها يحمل اسم "الغائب سامي".
ــــــــــــــــــــــــــــ
* «طريق الشعب» 27 تموز- 2 آب/ 2003.