مدارات

طريق الشعب ... ساحة نضالية ومدرسة للتعلم / عبد جعفر

لقد أصبح الحلم واقعا، ففي صيف عام 1973 أخذت طريق الشعب تصدر علنا، ولم يعد هنالك مخاطر أو خوف في وصولها للناس. لأول مرة تعرفت على (طريق الشعب ) السرية من خلال الشهيد البطل علي جازع في بداية السبعينات، فعرفت لماذا قال رشيد عالي الكيلاني حين رأى منشور الحزب على مكتبه أنه أخطر من إنتفاضة سوق الشيوخ الذي إنتهى من قمعها. كنا نوزعها، أنا والصديق (ك.ع)، غير مبالين بالمخاطر، نستيقظ فجرا، ونحن صغار نتسابق مع المسافات والمتاعب على دراجاتنا الهوائية من ساحة فيوري في الثورة الى الجوادر وعلى شوارع السدة الترابية والمزارع مخفين الأعداد في ملابسنا كي نوصلها بموعدها الى الصديق خضير في معامل الطابوق. والغريب حين نعود كنا نستريح في ظلال معهد علمي قريب من منطقة الرشاد والشماعية، وأتضح بعد محاولة الجلاد ناظم كزار الإنقلابية في 1973 أن هذا المعهد كان وكرا من أوكار أجهزة الأمن القمعية. وبعد عام 1974 أصبحت ضمن مراسلي طريق الشعب، وبدأت الكتابة في الصفحة الطلابية، ثم متطوعا في الصفحة الأولى، ومتدربا لاحقا، ثم محررا في صفحة (حياة الشعب).
كانت (طريق الشعب) بحق مدرسة فكرية تعلمت منها الكثير، فكانت كتابة أي تحقيق أو إجراء لقاء مع جهة مسؤولة حكومية تسبقه دراسة واسعة في مواد الأرشيف ونصائح من العاملين وخصوصا رئيس قسمي المباشر العزيز زهير الجزائري أوالعزيز مخلص خليل أو من الراحل عبد الحميد بخش (أبو زكي) عضو هيئة التحرير، بالإضافة الى لقاءات مع مختصين من الرفاق، فأذهب بمهمة العارف مسلحا بالإرادة للقيام بالمهمة وقد إزيح عن كاهلي الكثير من الإرتباك.
وفي التحرير تعلمت كيف تصاغ الجملة، وكيف يزال الترهل والحشو من دون أن يؤثر على المعنى، كنت في البداية ممتعضا وأحس (بالغبن) وأنا أرى كثرة التشطيب والتعديل ولكن جرح الحقيقة هو العلاج الواقعي لجراح الأوهام، فعلي أن أبدأ التلمذة مجددا، وأن أروض روحي على التواضع وتقبل النصح وأن كان قاسيا ولاذعا وساخرا أحيانا. وعلى رغم من الإرتباك وضغط العمل وكثرة ما يقدم لي من نقد، كنت أسعى الى التعلم بإصرار ومواصلة.
وجدت في طريق الشعب الفرصة في توسيع معارفي وتصليب عودي الطري، فكانت بإمكاناتها المتواضعة تواجه ماكنة النظام الإعلامية الضخمة، بل تجاوزتها كثيرا رغم ما يصرف على هذه الماكنة من أموال ويعمل فيها جيش كبير من الكتاب والصحفيين. وبهذا بدأت السلطة ترسل الإنذارات، وتحاول إعاقة عمل المحررين والجريدة، بل بدأت أعلى مستويات السلطة تناقش مخاطر عمود (أبو كاطع) الشهيد شمران الياسري عليها وسعت الى منعه بعد تلفيق تهمة ظالمة له أجبرته على الذهاب الى المنفى قبلنا .
ضغط العمل كان يبدده تجمعنا الجميل وقت الغداء وتحلقنا كعائلة حول رفاق المطبخ ومنهم الراحلة أم جاسم، خصوصا اذا كان الأكل الدسم قد جاء كتبرع من أحد العوائل الكريمة. وقتها تبدأ تعليقاتنا الساخرة من الأكل القادم يوميا من مطبعة الرواد الذي لا يعرف التغيير ألا قليلا، ربما لأعتقاد الإدارة أن تنوع الأكل يعد خروجا على سياسة الحزب!
كان الوقت يمضي بين التعليقات الساخرة للشاعرين يوسف الصائغ ورشدي العامل، ومزاح زهير الجزائري خصوصا حول كتابات البعض الذي يبدأ مقالته في مقدمة طويلة جدا عن التشكيلات الإجتماعية الاقتصادية من المشاعية الى الشيوعية رغم أن الأمر لا يتعدى المطالبة بتبليط شارع. وسرعان ما يقطع ضحكنا صياح أبو زكي وعصيبته ينهيها بكلمات لاذعة لأننا تأخرنا في تسليم الصفحات، ويخفف من أثرها طيبة رفاق الأرشيف ومنهم سهام الظاهر وحسين حسن وأموري عطيه ونكات الفنان مؤيد نعمة وهو يبحث عن مادة صالحة للكاريكاتير كي ترضى عنه هيئة التحرير المتجهمة من ضغوط (الجبهة الوطنية). وحين يقارب الشهر على المنتصف، ويبدأ موسم الإفلاس، كان حسن العتابي هو دائننا الدائم كي نقضي عطلة الإسبوع بمرح. وحين نمرض كانت عيادتا الدكتور صمد نعمان والدكتور كاظم المقدادي مفتوحتين لنا للعلاج وأخذ الأدوية مجانا.
لقد أصبحت طريق الشعب أخر معاقل الحزب العلنية التي ظلت تقارع الإرهاب قبل إغلاقها نهائيا في 6 نيسان (ابريل) 1979، بعد إعتقال الكثير من محرريها ومراسليها وهيئة تحريرها، ومن ثم إعدام نخبة رائعة من محرريها وشغليتها ومنهم الصحفي إسماعيل خليل، والشاعر خليل المعاضيدي، والفنان سامي العتابي، والمصحح إبراهيم كزار، وغفار كريم (نوزاد)، ونعيم عليوي (أبو ربيع) والإداري حميد شلتاغ وغيرهم، بالإضافة الى إعدام العديد من محرري المكاتب الصحفية في بغداد ومحافظات العراق الأخرى الذين مازالت أسماء البعض منهم مجهولة بسبب سرية العمل.