مدارات

الثقافة الجديدة : مشروع عمل ثقافي لم يتوقف عن النبض / د. جمال العتابي

في خمسينيات القرن الماضي، ثمة أفكاربدأت تنمو في دواخل مجاميع من المثقفين، فتقرر بإخلاص، أن يسلكوا الطريق الصعب، متشبثين بعمق اللوعة التي يعاني منها الإنسان العراقي، مابعد الحرب العالمية الثانية. من يتخيل إن خان كبة الكائن في شارع الرشيد ببغداد، (مقر المجلة الأول)، هذا المكان بوجوده الفقير المتواضع، سيفاجئ الوسطين الثقافي والسياسي، برعدة ثقافية غير مألوفة، علامات إستفهام وأسئلة عديدة باتت تشغل المتابعين والمعنيين بهذا الشأن، وهي تبحث عن معنى صدورهذا المطبوع (الثقافة الجديدة)، في إيقاع الحياة اللامتوازن فيها، والجهة التي تقف من ورائه، وهو سر الجرأة التي إمتلكتها هيأة تحريرها في تقديم أميل زولا، وأندريه مالرو، وألبير كامو، وآراغون، هربرت سبنسر، وتشيخوف. منذ العدد الاول لصدور المجلة في تشرين الثاني من عام 1953. في العدد أيضا قصائد للسياب والبياتي وكوران، ودراسات لإبراهيم كبة، ومحمد رضا الشبيبي، وفي الفن التشكيلي دراسة لمحمود صبري، ومتابعة لعطا صبري، وإسماعيل الشيخلي. لعل مايحملنا على القول، ان هذا الصوت بدا أكثر وضوحا وتألقا حين أكتشف وجوده خلال مشتبكات الأحداث.
ما السبيل الذي اهتدى به أولئك المثقفون الى هذه (المغامرة)؟في بلد يعاني من ثقل المعاهدات الاستعمارية، ونفوذ الاقطاع، وهبوط معدلات النمو والانتاج، وإرتفاع نسب الامية. عقبات كثيرة تقف بوجه أية محاولة للانطلاق نحو التجديد، فضلا عن الوضع السياسي المتأزم بعد قمع إنتفاضة تشرين عام 1952، التي تصدر الحزب الشيوعي العراقي قيادتها، وأحداث سجني بغداد والكوت، ثم إعلان الاحكام العرفية.
إلا ان بنى عديدة تجاوبت مع متطلبات التحولات السياسية والاقتصادية والإجتماعية التي شهدها العالم مابعد الحرب العالمية الثانية، ووجدت الثقافة والفنون والمعارف الاخرى، أن تجدد غاياتها ومضمونها وطرائق نشرها في العراق، لإتاحة الفرصة في تأسيس مشروع ثقافي جديد تسهم فيه القوى الآخذة بالنمو. ليطل علينا من نافذة الثقافة الرؤيوية الجديدة التي تنامت داخل هواء الحاضر وفاجأتنا بمولودها الحلمي.
النواتات الاولى بدأت تتشكل في عقول البعض من المثقفين والاكاديميين العراقيين، المتأثرين بالفكر الماركسي، في باريس وفي بغداد، إذ بدأوا بحالة الصدام الاولى مع الموروث التقليدي، بخطوات جادة نحو المشروع الثقافي الانساني، كردة فعل ضد مخلفات الحروب والاستلاب، فالواقع التاريخي الجديد خلق شروطه الجديدة، دون العودة الى الوراء، بالتخلي عن أوهام الماضي.
هؤلاء أخذوا على عاتقهم زمام المبادرة في تصدر حركة التجديد، متأثرين بأفكارها التي بدأت بالإنتشار في أوربا، وتجاوز حصار البنيات التقليدية. صلاح خالص، صفاء الحافظ، عبد الرزاق الشيخلي، مهدي جواد الرحيم، عبد المنعم الدركزلي. أدرك هؤلاء منذ أول وهلة، انهم يجب أن يبدعوا صوتهم، صوت الثقافة الحقيقي، وهكذا فقد نظروا إلى ما وراء الأفق، واستعاروا كثيرا من مفردات الاساليب الفنية الراهنة في العالم.
وبخطوة واعية ومدروسة كشفت المجلة عن ذاتها (منهجها وخطابها وسياستها وتوجهاتها)، إذ تصدّر صفحتها الاولى ما يعبر عن هذه المضامين، بانها مجلة الفكر العلمي والثقافة التقدمية، كما ان إختيار إسم المجلة، ينطوي على دلالات رمزية واضحة توحي بالنزوع نحو التجديد والحداثة. منذ عددها الاول، هذه البوادر وجدت متنفسا لها في اجواء الثقافة العراقية، بدأت كبذرة صغيرة تهيىء لحصاد أكبر في المستقبل، هم على علم بانهم يقطعون رحلة العمر في البحث عن مفردات لغة خاصة في تضاعيف العالم الجديد، هذه البذرة زرعت في حقل أزاهير الموضوع الثقافي، متطابقا مع الافكار التي بدت ترجمتها واضحة في منهج معلن على الصفحة الاولى، تلك هي الصورة إختيار الطريق الصعب. غير ان الافق سيتسع كثيرا كلما تقدم، لكن صوب الموضوعات الكبرى والاشكالات الانسانية: الوجود، الحرية، المدارس الفنية، تيارات الثقافة والفكر، النظريات والايديولوجيات، حركات التحرر العالمي، قضايا المراة، والطلبة والشباب، أسئلة تستيقظ في زحمة العمل تدفع للإنتساب الى العالم دون الخضوع لظاهر الاشياء.
فتحت المجلة أبوابها ونوافذها لكل جديد في الادب والثقافة، وتحول المكان الذي شغلته بعد أن عاودت الصدور في عام 1969، الى ملتقى يجتمع فيه المثقفون مساء كل يوم، تلك الشقة المتواضعة في شارع مفتوح على نصب الحرية في ساحة التحرير. منحت الادباء فرصة ذهبية لاختبار قدراتهم في اللقاء والحوار وتبادل الاراء، ومناقشة القضايا المهمة بما تستحقه من رعاية وإهتمام. في أعقاب فترة زمنية محتدمة ابتدأت بإنقلاب شباط الدموي، ثم إنقلاب تشرين وسقوط حكومة البعث، تصاعد دور اليسار في الانتخابات الطلابية، هزيمة حزيران عام 1967. عودة البعث الى السلطة بانقلاب عسكري جديد. ليس غريبا أن يكون عمر التجربة قصيرا، الأهم هو أن يكون عمر النضج اكبر، وهذا يعود الى يقظة الحس الكامن في وعي هذا الجمع، بعد أن هيأت المجلة أسباب العمل، فتوافد عليها نخبة من المبدعين في الادب والفن. تلك التجربة إستطاعت أن تعيد تشكيل إتحاد الأدباء من جديد، بعد عام 1969، إذ شهدت أروقة المجلة لقاءات وحوارات موسعة، بين مثقفي العراق من مختلف الاتجاهات والانتماءات، وتحت خيمة الثقافة الجديدة التي يمسك بعمودها الشاعر الفريد سمعان، وتلاه شمران الياسري (ابوكاطع).
إلتقى العشرات أو المئات من أدباء تلك المرحلة من الشباب الحالمين، وأولئك الشيوخ، والقادمين من مدن الجنوب والوسط وكردستان، الجميع يحملون صناديق آمالهم وأحلامهم، يجمعهم إرث طويل لوطن من الاسفار والاشعار والرؤى والاساطير. وإن أختلفت الآراء، وتنوعت الأفكار، ما دامت كل الروافد تصب في المحيط الأكبر للثقافة الإنسانية.
إن محاولة لاستعادة تلك الاسماء، ينبغي أن يندرج ضمن مشروع توثيقي آخر، تتبناه المجلة بحرص تام وعناية فائقة، لأنه الوجه الثاني المكمل للمشهد الثقافي العراقي، ولست بصدد إعادة وتكرار ما كتبه غيري أو سبقني اليه، دون إضافة نوعية تذكر، لكن ينبغي أن تظل في أعرافنا وتقديرنا، إن هذا الجهد بحاجة الى من يوثقه بكل تفصيلاته، لأنه جزء من تاريخ الثقافة العراقية في مرحلة حساسة جدا، ولابد لنا أن نشيد ببعض الدراسات التي تناولت تاريخ تأسيس المجلة، والشخصيات التي تولّت مسؤولية تحريرها وإدارتها، لذلك تعمدت الى عدم الاشارة لها بالتفصيل، ما دامت هي مدونة في المصادر لمن يرغب في الاستزادة.
كانت البداية متواضعة جدا، العدد الاول الذي صدر في عام 1969، صمم غلافه الفنان والشاعر الراحل محمد سعيد الصكار، كما رسم (ماكيت) صفحاته الداخلية، ومشق بأنامله الرقيقة عناوين موضوعات العدد، فأضاف اليه لمسات فنية جميلة، ميزت المجلة، رغم تواضع الامكانات الطباعية وقِدمِها، واستمر الصكار مع المجلة لبضعة اعداد في سنتها الاولى، ثم اوكل المهمة لي، يشاركنا الفنان والشاعر فائز الزبيدي بتخطيطاته الجريئة والجميلة، ليمنح صفحات المجلة نبضات من قلبه وإتقاد روحه.
ألفة وتعاطف، نَمَتا في نفسي، أصبحتا حباً، ونشوة سحرية تمتلك حواسي، كلما أضع خطوطي وتشكيلاتي في صفحات المجلة. ستظل البداية معلقة بأول لقاء مع الفريد سمعان مدير إدارة المجلة، ومن بعده شمران الياسري، وأتذكره حين وضعت يدي في يده في أول لقاء، لم أشعر بأنني ألتقيه أول مرة، فقد خيل لي اننا تصافحنا اكثر من مرة، كما لو كنت قد فارقته بالأمس القريب. بدأت الرحلة من هناك، أبحث عن كنز أعرف أوصافه، ويساورني قلق بضياعه، بدأت أنصت لإصوات آتية من وسط المعرفة، والثقافة والأدب، أسماء كبيرة، لها تاريخها السياسي أوالثقافي المتميز، قادة أحزاب، شعراء، كتاب، نقاد، صعاليك، ملتزمون، متمردون، من أجيال متباينة. إن مثقفي تلك المرحلة هم أقدر من تواجد إنسانيا مع أحداثها، بل هم أكثر من توتر وإنضغط وقاوم وإنفعل وصبر، لأنهم كانوا شهودا لما حصل، أوسيحصل. إن جيلا منهم، بدأ خطواته الأولى في (الثقافة الجديدة)، وحقق حضوره وإنتشاره من خلالها، بعضهم من دفعت بهم الدكتاتورية الى المنفى أوالسجن والموت، في سنوات لاحقة، ومنهم من فقدوا الأمل، وعاشوا البؤس واليأس، وآخرون من إلتهمتهم نيران الحروب والحصارات، ويمكن القول، إن من أفلت من هذا الجحيم في الداخل أو الخارج، إستطاع أن يشكل ثقافة معارضة، لا في الكتابة وحدها وإنما في الحياة وداخل المجتمع أيضا، وإمتلكت مجاميع واسعة من المثقفين الشجاعة في الوقوف بوجه الإستبداد.
كنا نحاول ان نشيّد عالما صغيرا جميلا، في أعماق ضمائرنا ونفوسنا، ونتعلم كيف نرعاه، قبل أن نجعله جزءأ من حياتنا، في هذه الورشة الصغيرة، التي تمثل نبضة من نبضات الوطن، كان فيها عنصران أليفان يتجاوران في هذا الانجاز، يستمران في حوارهما، نصغي اليهما بكل جوارحنا. . الاول: حاضر مفعم بأحلام وتداعيات وحماس فتوة وشباب، والآخر، ودٍ صافٍ لذكريات أليفة نسجت على عجل، ، تآلفت الفصول لتجعلنا أقدر على فهم العمل، ونرتقي فيه، ويرتقي بنا، مهارة في التحرير والإدارة، وصلة بالحياة.
بتعدد الاصوات والاصدارات، تدفقت الاسماء نحو الفكر الجديد وطريق الشعب، فتشعبت الاختصاصات، وإتسعت المهام، إلا ان الثقافة الجديدة ظلت مشروعا كبيرا للعمل والأمل، لم يتوقف عن النبض في شرايين حياتنا، بل ظل ممتدا في الزمان والمكان والنسوغ.