مدارات

الصحافة الشيوعية في العراق تاريخ مجيد وتحديات قاسية / د. إبراهيم إسماعيل

قد تكون الصحافة الشيوعية في العراق، من بين أبرز الصحف اليسارية تواصلاً، إذ بقيت طيلة عقود ثمان، تكافح دون توقف، رغم كل ما تعرضت له من حصار وقمع وتحطيم، ورغم إصطباغ حروفها، فعلاً لا مجازاً، بدم كتابها وطبّاعيها وموزعيها، مراراً على مر تاريخ العراق المدمى.
ويكمن سرّ هذه القدرة على التواصل، كما أعتقد، في تلك الأسس التي شّيدت عليها والمبادىء التي تبنتها، والتي خلقت صلة متميزة لها مع قرائها المختلفين، صلة تغمرك برهبة لقاء عاشقين، حين تقتنيها من البائع يوم تكون علنية، أو حين يدسها في يدك، حين تكون سرية، مناضل لا تعرفه، فتسارع لإخفائها، والبحث عن مكان يخلو من عسس الطغاة، تتمكن فيه من التجلي في شميمها قبل أن تدسها أنت في أكف عاشق أخر.
ولعل من أبرز تلكم الأسس قدرتها على أن تتسع لهموم الجميع، وأن تعرض كل تلك الهموم بأبسط حلة ممكنة وبأقل عدد من الكلمات (ما أشّق «تقريم» الأعمدة في الصحف السرية)، وأن تقرن الهموم بما يلزمها من معالجات وتصورات وحلول. ولما كان الناس موضوعها (وهل لنبع كهذا أن ينضب)، قرأت تلك الصحافة الواقع جيداً، كما هو لا كما تصفه الأفكار، وخاضت صراعاً مجيداً ضد كل أشكال التخلف. ولكي يتمكن الناس من فهم الخطاب الثوري التغييري المنظم لكفاحهم من أجل غد يتوقون لنعيمه، لم تقتصر الصحافة الشيوعية على تنمية الوعي السياسي والوطني للجماهير، بل لعبت أيضاً دوراً مهماً في تحفيز الناس للأهتمام بمحيطهم وفهم الواقع وتحليله، وصارت دوماً صوتهم العنيد دفاعاً عن حقوقهم المستلبة، وقوة تغيير ثقافية وأخلاقية في المجتمع.
وكما أنارت مختلف جوانب الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، تميزت بإهتمامها بالثقافة الوطنية والدفاع عنها ونشر النتاجات الأبداعية وتبني هموم المبدعين وفي طليعتها إطلاق الحريات العامة. ولهذا إستقطبت هذه الصحافة مئات الصحفيين والكتاب وتخرج من معطفها المئات، ممن هم اليوم نجوم زاهية في سماء الأعلام العراقي.
والى جانب شغلها الأراس، الدفاع عن حقوق الشغيلة والكادحين وتوجيه كفاحهم لبناء وطن خال من كل ما ينتهك آدمية البشر، كان للصحافة الشيوعية في العراق، وربما أكثر من كل معاصريها، شرف الدفاع عن الحرية بإعتبارها قيمة إنسانية مطلقة، لا يمكن أن تتحقق أية تنمية أو تقدم بدونها، وعن الديمقراطية بشقيها المترابطين السياسي والاجتماعي.
والى جانب مشروعها الوطني في الدفاع عن الأستقلال والسيادة وحرية الوطن، تبنت هذه الصحافة تنمية الوعي بالحقوق القومية العادلة للعرب والكرد، في إطار إنساني بعيد عن الشوفينية والتعصب، وقدمت عصارة الخبرة الثورية لشعوب العالم ودافعت عن أخوتها، مناغمة بين ذلك النقل الفعال وبين التنويعات التي يظهرها الواقع المعاش ومتغيراته الدراماتيكية أحياناً.
وعلى الصعيد الداخلي، إهتمت الصحافة الشيوعية بتربية الكادر الحزبي والقائد النقابي والاجتماعي، والجمع بين الخطاب الثوري التعبوي والخطاب التنويري المنظم للكفاح.
وفي ترسيخ وحدة الإرادة والعمل في صفوف المنظمات الحزبية، لاسيما في المنعطفات الخطيرة، تأكيداً على بداهة تقول: أن الإنضباط الواعي الشرط الذي لا بديل له للنجاح، بل والصمود بوجه عقود من القمع الدموي. وكان سلاح هذه الصحافة للوصول الى مبتغاها هذا إعتمادها إسلوباً يتسق مع المستوى الثقافي للناس، ومكافحة رواسب البداوة والأنانية وغيرها من مشاكل التخلف الاجتماعي.
وإذ واجهت صحافتنا الشيوعية، ومنذ زلزال غورباتشوف (هل أقول عنه سيىء الصيت أم أردد القول «وعسى ان تكرهوا شيئاً وهو خير لكم») تحديات فكرية وإعلامية قاسية، فإن ما تمر به بلادنا ومنذ عام 2003 قد ضاعف من تلك التحديات كماً وعمقاً. ففي ظل الإنقسام الطائفي والعرقي المريع وتراجع دور الهوية الوطنية الجامعة وضعف ثقة قطاعات واسعة بها، وغياب السلم الأهلي والأستقرار النفسي للناس، وضعف الإيمان بالقيم الديمقراطية لدى النخب (حاكمة ومحكومة) وسيادة الأمية والبطالة وإتساع دائرة الفئات المهمشة في المجتمع وضعف مؤسسات المجتمع المدني، تبدو مهمة إعلامنا كبيرة جداً وبالغة التعقيد، في إيصال خطابنا الوطني الديمقراطي للناس. ويبدو إن عواملاً كثيرة لابد أن تتضافر لتتحول أدواتنا الأعلامية الى فضاء للجميع، مفعم بالحركة والمعرفة والأختلاف الخلاق، فضاء قادر على تعبئة الجميع نحو غد فاضل لهم، قدمنا من أجله قوافل الشهداء من خيرة رفاقنا. ولعل في مقدمة تلك العوامل التحرر من أية أنساق مغلقة على مسلمات الحتمية التاريخية، والتناغم بين إقتحام أية تابوات مصطنعة وبين إعمال العقل في الواقع وما يطرحه من متغيرات وأفكار ورؤى ومفاهيم. وضروة تلازم النقد العميق والمعلل فكرياً لإطروحات الأخرين مع المراجعة الدورية للذات وتدقيق إطروحاتها صوب تجديدها وتطويرها. كما يتطلب الأمر أيضاً إتقان فن سماع المختلف والحوار معه، والمساهمة الجريئة في التحديث، الذي هو جوهر أية تنمية سياسية، لاسيما إذا ما عرفنا بأن الأعلام لابد أن يسبق العملية التنموية ممهداً لها ومشاركاً في إنجازها.ومن أجل تنشيط مساهمة المرأة والشباب في العمل السياسي، وفي بلد جل أبنائه من الشباب، لابد من تطوير صحافتنا لسبل الصلة بهم، أن تعيش همومهم، وأن تشترك معهم في البحث عن حلول لها، والتي غالباً ما تكون جديدة وغريبة عما نعرفه، وأن نتجنب تقديم المشورة والأجابات الجاهزة في علب مزينة بتعويذات مقدسة. إن الحلول التي يجدها الشاب الثائر بنفسه، وعلى أساس ما يختاره من حكمتنا بحرية تامة، هي القادرة على تعميده على طريق الكفاح المستمر. كما لابد أن يتجاوب إعلامنا مع التطور التقني، لاسيما في مجال الأتصالات كصفحات التطور الاجتماعي والأنترنيت وغيرها، مما يشكل قنوات إتصال للشباب بديلة عن الورق، الذي ربما لم يعد غيرنا، نحن الكهول، شغوفاً به.
وختاماً أقول، لصانعي الكلمة المقاتلة، للصحافة الشيوعية الباسلة، بورك عيدكم التاسع والسبعون وكل عام وأنتم بخير