مدارات

ليلة التقينا مع "اتحاد الشعب "! / مصطفى محمد غريب

حفزني أن اكتب هذه الخاطرة بمناسبة "العيد الثمانون للصحافة الشيوعية العراقية باعتبارها صحافة الشعب العراقي" كذكرى لتلك الواقعة التي حدثت بالمصادفة فأصبحت ضرورة للتحفيز والمتابعة ثم الانتماء، ولعلي لم أجد أفضل من يوم الاحتفال بعيد الصحافة الشيوعية الذي يحل في الحادي والثلاثين من شهر تموز 2015 الذكرى السنوية الثمانون لصدور أول عدد لأول جريدة يصدرها الحزب الشيوعي العراقي ، جريدة "كفاح الشعب".
أن الواقعة التي اسردها بدون رتوش هي تقريباً مرتبطة بصحافة الحزب الشيوعي العراقي، تلك الواقعة التي بقيت معلقة في الذاكرة وهي أمر اعتز به لأنني واكبت هذه الصحافة منذ أكثر من (55) عاماً بالتمام والكمال وعندما أقول واكتب فهذا لا يعني أنه لا توجد انقطاعات زمنية بسبب الظروف السياسية ونهج معاداة الحركة الوطنية والصحافة الوطنية والديمقراطية وبالذات صحافة وأدبيات الحزب الشيوعي العراقي.
على ما أتذكر أن الواقعة كانت أوائل عام 1958 وتحديداً في شتائه وفي حينها اتفقنا وكنا من محلة واحدة أنا وإبراهيم السنوي وياسين ملا كريم " اخو أبو دارا براغ" الذهاب إلى سينما روكسي لحضور عرض سينمائي وكان اسم الفيلم الأمريكي " سميراميس " وذهبنا الساعة التاسعة مساء لكي نتخلص من زحمة المشاهدين لشهرة الفيلم ولان الوقت متأخر وفعلاً كنا في صالة سينما روكسي متخلصين من البرد في أجواء سينمائية دافئة وطبعاً في موقع (40) فلساً وكنا نسميه للمداعبة والمزاح " أبو الأربعين " حيث تتقسم الصالة إلى ( 70 ) فلساً و(120) فلسا? مع وجود " لوج محاط بسور واطئ" لأربعة أشخاص.. موقع (أبو الأربعين) فلساً كأنه مخصص للفقراء والعمال والكادحين والجنود المكلفين الذين لا يستطيعون حضور العرض المتأخر لان الانضباط العسكري يمنع تأخرهم وقد يلقي القبض عليهم ويتم تسفيرهم إلى وحداتهم العسكرية، وهكذا قضينا أكثر من ساعتين ونصف تقريباً في " أبو الأربعين" وسافرنا برومانتيكية لطيفة مع فيلم سميراميس وممثلته الأمريكية والتاريخ العراقي ومع جمالها وحروبها ومدى دهائها وذكائها وعرفنا أنها تشكل أسطورة من الأساطير العراقية القديمة.. المهم بعد انتهاء الفيلم خرج?اً من عالم الخيال الذي صنعوه في هوليود الى واقع بغداد والباب الشرقي وسرنا باتجاه كمب الأرمن من خلال أزقة فضوة عرب عابرين شارع غازي ( الكفاح بعد ثورة تموز 1958 ) وفي الزقاق الضيق المحاذي لحمام رجالي وبجانبه حمام نسائي المؤدي إلى شارع الشيخ عمر الذي يطل على بداية مقبرة الغزالي وقبل أن نصل الشارع سمعنا صوت ارتطام على الرصيف المقابل وتصورنا في بداية الأمر حسبما تحدثنا بعدها قد يكون جسد إنسان صدمته سيارة أو القيَ منها ..وبحذر اقتربنا من نهاية الزقاق وفجأة شاهدنا رزمة ورقية تحتل جانب حافة الرصيف فبادر إبراهيم ال?نوي بعد أن كان يتلفت نحو جهات الشارع العام ثم بحذر التوجه نحوها وكنا أنا وياسين واقفين حذرين غير بعيدين نراقب الجهات الأربعة وإذا بإبراهيم السنوي بعد أن أنحنى على الرزمة يقول بصوت خافت ومتقطع
ــــ جرائد.. الرزمة جرائد..
اقتربنا بسرعة وأصبحنا عند الرزمة بينما إبراهيم السنوي وهو أكبرنا سناً كان يحاول فتحها لكنه توقف وبأنفاس متقطعة قال
ـــ جريدة اتحاد الشعب
وفي حينها كان عمري حوالي ( 17) عاماً ولنا علاقة باتحاد الطلبة العراقي ونطلع على البعض من أدبياته والأدبيات الحزبية التي يأتي بها كريم حسين اخو دكتور متخصص للأطفال أسمه عبد اللطيف وكنا نسمع بعلاقته مع عائلة المستشار القانوني المحامي الوطني المرحوم خالد عيسى طه وبخاصة احد أولاده الذي كان يعمل في احد البنوك العراقية، وقد اطلعت حينذاك على البعض من نسخ جريدة اتحاد الشعب العائدة للحزب الشيوعي العراقي، كان هؤلاء يأتون بها وفي حينها كنا نقرأ فقط ونعيدها بشكل سري ونطلع على الكثير من الأخبار والوقائع التي تحدث.
نعود للواقعة حيث أن إبراهيم السنوي استقام ورفع الرزمة على أساس أخذها وقال :
ـــ سوف نأخذها ونوزعها بدلاً من منية الجماعة .
وأشار على ما اذكر أنها ربما سقطت من سيارة بدون علمهم فقلت لياسين ـــ أو ربما كانوا يعتقدون غير ذلك مثلاً هناك من ينتظر الرزمة وعندما ألقيت ظهرنا نحن فتواروا متصورين أننا من رجال التحقيقات الجنائية. فأيدني ياسين ملا كريم واتفقنا بعد عناد إبراهيم السنوي على ترك الرزمة في مكانها والابتعاد بالسرعة الممكنة وحتى عدم الالتفات نحوها، وهذا ما جرى حيث توجهنا نحو بداية مقبرة الغزالي من طرف كمب الأرمن وواصلنا السير نحو سكك الحديد المرتبطة بمحطة غربي بغداد التي تربط بغداد بكركوك ثم اربيل، وفعلاً تفرقنا كل واحد منا نحو?بيته بعدما التقى إبراهيم السنوي بفتاح لا أتذكر اسم والده واخبره بالموضوع والمكان .. كنا نجتمع مساء في مقهى شعبي في المنطقة وفي اليوم الثالث على ما أتذكر أو الرابع من الواقعة فالتقينا بفتاح حيث بادر بالقول ذهبنا أنا ورستم زينل ولم نجد الرزمة وهذا تولد لدينا انطباع بأخذها من قبل من كان ينتظرها، بعد فترة قصيرة جاء كريم حسين وعرفنا منه أن اتحاد الشعب صدرت وقد حمل البعض من النسخ وعلى ما يبدو انه سمع بالواقعة من ياسين ملا كريم وحصلت حينذاك على نسخة خاصة بي وليس القراءة فحسب بل أصبحت زبوناً دائماً لتلك الصحيفة ال?ناضلة التي بواسطتها والعديد من أدبيات الحزب الشيوعي العراقي تنامى عندي الشعور بالوطنية وحب الوطن والكراهية للاستعمار والرجعية وتعمق عندي الوعي الاجتماعي وأخذت استوعب معنى الصراع الطبقي والاستغلال الرأسمالي.. نعم اذكر ذلك جيداً نحن سكنة باب الشيخ وبخاصة قرب محطة سكك غربي بغداد كيف كان الإلهام الثوري يتزايد بيننا وكان دور من كانوا يحملون الفكر التقدمي كبيراً ورائداً وهم يجلبون ليس جريدة اتحاد الشعب فحسب بل العديد من المنشورات والأدبيات بما فيها البعض من الكتب لمكسيم جوركي وأدباء وكتاب وشعراء عراقيين..
تحية ليوم الصحافة الشيوعية في العراق، لأنها صحافة الشعب. تحية لأولئك المجهولين الإبطال الذين كانوا يقبعون خلف ماكنات الرونيو للطباعة السرية لكي يصدروا تلك المنشورات والأدبيات الثورية معرضين حياتهم لأخطار جمة بما فيها الإعدام في سبيل تنور شعبنا العراقي بالوطن الحر والشعب السعيد.