مدارات

مساهمات "فهد" الصحفية المبكرة * / عبد المنعم الاعسم

ان افكار واسم - الشيوعية- لم تكن، اذن غريبة عن النخب العراقية المثقفة وجمهرة العمال النقابيين النشطاء، التي وجدت نفسها خارج المؤسسات السياسية للدولة وبعيدا عن التدجين في أروقة الأحزاب الاقطاعية والمحافظة والبلاط الملكي، بالاضافة الى تلك القطاعات الشعبية التي كانت تخوض المعارك الوطنية والطبقية من اجل توزيع عادل للثروة والفرص واشاعة الحريات.
وهذا ما دفع داعية الاستعمار توماس ليل الى القول عام 19922 ما يلي: انه لمن الجنون أن نتخلى عن بلاد المسلمين أو عن قسم منها مادامت بذور البلشفية مبثوثة بينهم جميعا.. لقد أوضحت رأيي، فالسبيل الوحيد الذي يجب ان نتبعه في سياستنا أن نثبت في الشرق.. أن نبث دعايتنا ونحسن سمعتنا بين المسلمين، وأن ننهض بمصادر العراق الاقتصادية لتساعد بريطانية في ماليتها واعمالها.
من جانبها كانت ثورة اكتوبر البلشفية في روسيا 1917 ومعارك ترسيخ الدولة السوفيتية الفتية ملهما رئيسيا لتلك الأفكار ولروادها، كونها مثلا حيا على امكانية القضاء على الاستغلال والأستبعاد.. فتحت تأثير هذا العامل، انتشرت الأفكار الشيوعية في اقطار متخلفة لم تظهر فيها الطبقة العاملة بعد، وحمل الرواد الشيوعية علما، من قبل أن تنشأ الظروف الموضوعية محليا، ويلاحظ السياسي والمؤرخ حسين جميل في عرضه للتأثيرات المبكرة على افكاره ان: "اول المؤثرات الخارجية، الثورة العربية في الحجاز، الثورة الكمالية في تركيا، الثورة البلشفية?في روسيا"، كما أن ثورة 1920 الوطنية ضد الاحتلال البريطاني لم تكن إستثناء لحالة النهوض الثوري الذي أحدثته ثورة اكتوبر، بل كانت في الواقع مثالا ناطقا على امتدادها.. وها هي صحيفة "الفرات" التي صدرت عن قيادة الثورة، تخصص مكانا بارزا في عددها الأول لتشرح لقرائها البشفية.
ويلاحظ أن مخاوف الدوائر الأستعمارية والحكومات الموالية لها صارت تتسع ازاء - خطر الشيوعية - منذ مطلع العشرينيات، وقد حذرت جريدة "المفيد" في عددها 286 كانون الثاني
1925 حكومة العراق من انتشار افكار ثورة اكتوبر ودعت الى المراقبة "بعين ساهرة كل الدعاية التي يقوم بها البلاشفة.. وايران هي الطريق الوحيد التي تصلنا منها البلشفية"، وأشارت جريدة "العالم العربي" الى تلك المخاوف في عددها 7 كانون الثاني 1925 حيث نشرت مقالا تعترف فيه بانتشار افكار الشيوعية في العراق "ودعت رجال الدين الى محاربتها".
وتصل تلك المخاوف حذ التلويح باستعمال القّوة، ففي اجتماعه بالسابع والعشرين من نيسان 1926 اتخذ مجلس الوزراء العراقي سبعة قرارات هامة بشأن التنسيق مع السلطات السورية لتطويق "النشاط الشيوعي" في البلدين.
فهد صحفيا..
ويدلل، من جانب ثان، نشاط "فهد" السياسي والفكري والصحفي في العشرينيات وأوائل الثلاثينيات على سعة جذور الشيوعية في العراق، وقد برز من بين جميع رفاقه الرواد الماركسيين بعمق معرفته للمزاج الشعبي ووضوحه في اطار وعيه الوطني.
لقد مارس فهد الكتابة الصحفية كنافذة لا غنى عنها لايصال افكاره، واختبارها، وتوظيفها في خدمة حركة الطبقة العاملة والشعب.. كان مراسلا لصحيفتي - الأهالي والوطن - والأخيرة كانت لسان حال الحزب الوطني العراقي الذي كان "فهد" عضوا قياديا فيه، لقد كان يتصل بالصحف البغدادية منذ عام 1927 كما سافر الى عدد من البلدان العربية لدراسة اوضاعها الأقتصادية والأجتماعية والسياسية، وقد نشر ملاحظاته ومشاهداته في جريدة "البلاد" العراقية.
ويكشف فهد في مقاله المنشور في صحيفة (نداء العمال) باسم "فتى المنتفك" عن نظرة متقدمة الى حقوق كادحي المدن والريف اطارها المفهوم الطبقي لتلك الحقوق، وتفاصيلها المهمات الأكثر تماسا بمصائر البشرية.. يقول : "ان حركة العامل، تلك الحركة التي عليها تتعلق جل امالنا وأسمى أمانينا، لايراد بها الا تحقيق ما تصبو اليه البشرية في الحياة من مساواة واخاء وعدالة".
و"فهد" أول عراقي يقف أمام المحكمة مدافعا عن الشيوعية بعد أن القي عليه القبض عام 1933 (63) بتهمة توزيع نشرات باسم مستعار هو "عامل شيوعي" في مدينة الناصرية، ويومها لم يكن الحزب قد ولد كما لم تكن القوانين التي تحرم اعتناق الشيوعية قد صدرت بعد، وليس من دون معنى ان يجري اعتقاله والتحقيق معه - كما جاء في كتاب متصرفية المنتفك (42) في 21 شباط 1933- باهتمام وتكتم، "وكان يجيب باصرار: نعم انا شيوعي وليس لدى الشيوعي مال عدا الألبسة والأضطهاد".
وعندما ولد الحزب الشيوعي العراقي لم يكف"فهد" عن نشر آرائه بواسطة العديد من الصحف العلنية.. فصحف: المجلة، الحكمة، الحارس، المثل العليا، الشعب، الانقلاب، الرأي العام، الأهالي والعصبة كانت تنشر مساهماته التي كانت تثير انتباه القراء والنخب المثقفة، من غير أن يقلل ذلك من اشرافه على صحافة الحزب السرية وتحريرها، فضلا عن مهماته القيادية، والمهم لمن يبحث هذه الظاهرة ان فهد اسس قاعدة من قواعد العمل الاعلامي للحزب لمواجهة قوانين التحريم والمنع والحجر باستخدام اساليب جديدة في الوصول الى قراء الصحف الحكومية او المرخ? لها في ظل امكانات الواقع ومعرفة مؤشراته.
وقد غدت الصحف الوطنية بعد ذلك "تفتح صفحاتها لأقلام الشيوعيين والتقدميين "وشهدت الفترة بين تأسيس الحزب 1934 وانتهاء الحرب العالمية الثانية 1945 تطورات هامة في العراق: (انقلاب بكر صدقي1936، حركة مايس العسكرية 1941، أغتيال الملك غازي، تشكيل حكومة جديدة لنوري السعيد بحجة وجود مؤامرة على النظام.. الخ) فاتسعت خلالها هيبة الاشتراكية، ومجالات النشر للشيوعيين، جنبا الى جنب مع تزايد ثقلهم في النضال الوطني والطبقي.. دون أن ينجحوا حتى ذلك الزمن بانتزاع حقهم المشروع في اصدار صحيفة علنية ناطقة بأسمهم، معبرة رسميا عن سي?ستهم.. وكانت صحافة الحزب السرية هي التي تتولى تلك المهمة.
ولم تكن صحف تقدمية مثل "المجلة" التي صدرت عام 1938 في الموصل أو "الحكمة" عام 1936 في مدينة الحلة، أو "الحارس"، عام 1936 في بغداد تمثل رأي الحزب - خلافا لما يعتقد البعض.. لربما كانت "بمثابة المتنفس" بالنسبة للشيوعين.. وتجدر الاشارة هنا مثلا الى أن أكثر تلك الصحف اقترابا من الشيوعيين وهي صحيفة "المجلة" كان قد وضعها صاحبها ذو النون ايوب تحت تصرف الحزب "ليزكي نفسه سياسيا من تهمة النازية" حسب زكي خيري.
ـــــــــــــــــــــــ
* من كتاب «من العصبة إلى طريق الشعب».