مدارات

من تاريخ الصحافة في بدايات القرن الماضي : صحافة لواء البصرة أنموذجاً / جاسم المطير

أقدم في هذه المقالة نظرة قصيرة وسريعة ومركزة عن بعض صحافة مدينة البصرة في القرن الماضي التي لم تكن انجازاتها شاملة أو ذات تأثير مباشر على الثقافة الجمعية لقرائها رغم توفر الطموح لدى مؤسسي تلك الصحف والعاملين فيها فقد تميزت اغلب صفحاتها بالاختيارات السياسية والثقافية بصورة عشوائية لكنها بصورة عامة كانت كما قال بعض دارسيها ومتابعيها أنها كانت إنسانية عامة رغم إن اغلب مقالاتها لم تكن قريبة من روح التحديث لكن يمكن تأييد قول أولئك الدارسين والمتابعين أن تلك الصحف قدمت بعض متطلبات لحظتها السياسية في تلك الفترة رغم أنها لم تكن تحمل غير إضاءة أولية لصورة من صور العمل الصحفي في لواء (محافظة) البصرة خلال العقود الأولى من القرن العشرين عبر متابعة لأخبار العواصف والأمطار والفيضانات وتلف الحاصلات الزراعية وبعض الأخبار السياسية وأخبار وفيات بعض الوجوه الاجتماعية والأعيان.
نظراً لعدم توفر مصادر هذه الإضاءة فأنني أعتمد على الذاكرة والاستنتاج أكثر من المعلومات الموثقة القليلة المتوفرة لديّ وفي بعض المواقع الالكترونية . تدخل ضمن هذا التصور جوانب من معلومات أولية مدونة في بعض أوراقي الشخصية .أول انطباع راسخ في ذهني أن الصحافة البصرية ( نسبة إلى البصرة ) نشأت في عهد السلطة العثمانية . فقد صدرت أول صحيفة عام 1989 وهي صحيفة ( البصرة) أي أنها صدرت بعد عشرين عاماً من موعد صدور صحيفة (الزوراء ) لسان حال السلطة العثمانية في بغداد .في الواقع كانت جريدة(البصرة) هي ثالث جريدة تصدر في عهد السلطة العثمانية ، إذ صدرت قبلها (الموصل ) خلال السبعينيات من القرن التاسع عشر .كان الهدف من الصحف الثلاثة (الزوراء والموصل والبصرة) هو إيصال تعليمات الدولة العثمانية إلى العراقيين ، أي أنها ناطقة بلسان المحتل الأجنبي وقد كانت تطبع باللغتين التركية والعربية ، ليس من شأنها تنمية بذور التفكير والذكاء والثقافة والمعلومات للعراقيين سواء في شمال العراق ( الموصل) أو في وسطه ( بغداد) أو في جنوبه (البصرة) . لذلك فهي لم تقدم أي تقييم نقدي حقيقي لجوانب نقاط الضعف والقوة في سياسة الاحتلال العثماني مثلما أن تلك الصحف لم تستطع من تنمية مهارات الناس الاجتماعية ولا تنمية القدرة العقلية المتواضعة لبعض نخب المثقفين العراقيين بما فيهم دعاة القومية العربية .نفس الخطوة الصحفية تكررت عند الاحتلال البريطاني للعراق من خلال احتلال البصرة عسكرياً. فقد أصدرت قوات الاحتلال البريطاني ( نشرة ) يومية كانت تحمل فيها بلاغات القيادة العسكرية حول تحركات القوات البريطانية داخل البصرة ومن ثم تابعت أخبار تحركاتها داخل العراق أثناء توجهها نحو احتلال بغداد. وكانت هذه (النشرة اليومية) تنشر أخبارها وتعليماتها باللغتين العربية والانكليزية .
خلال أقل من عام واحد حرصت قوات الاحتلال على تطوير (النشرة ) إلى ما يشبه ( الجريدة) لتأخذ شكل مخاطبة المجتمع البصري بلغة الأدب والسياسة بحدود ليست متخصصة وليست من صحافة التقييم والمتابعة بل انخرطت في برامجها الصحافية المحددة لإيصال البلاغات والتعليمات الصادرة عن القيادة العسكرية البريطانية المحتلة .
أول عدد من الجريدة صدر في أوائل عام 1915 وقد حملت السمات التالية التي جعلتها مختلفة تماماً عن النشرة :
أولاً : أنها سميت باسم ( جريدة الأوقات البصرية ) .
ثانياً : حملت أسم محررها جون فيلبي .
ثالثاً : حددت هويتها بأنها (جريدة رسمية) يومية سياسية أدبية مصورة .
وقد صدرت الجريدة بعد إلغاء جميع الجرائد والنشرات السياسية - الأدبية وغيرها الصادرة في العهد العثماني بما فيها جريدة ( البصرة ) العثمانية الرسمية . وقد أعلنت السلطات العسكرية البريطانية بوقته سيطرتها على جميع مطابع البصرة .
من الجدير ذكره: أن قوات الاحتلال جهزت لهذه الجريدة كتـّاباً ومحررين من عدد من الجنسيات ( هنود .. إنكَليز .. عراقيين .. إيرانيين ) . .
من تلك الفترة بدأت أشكال مختلفة من الأعمال الصحفية تظهر في الصحافة البصرية التي كانت قد فاقت في موادها الأدبية والسياسية ليس فقط الصحف الصادرة ببعض المحافظات (الألوية) الأخرى مثل بغداد والموصل بل أنها قدمتْ تأثيراً أولياً ، لكنه ظل محدوداً ،على أفكار الفقراء لتزيد تدريجيا ، بصورة أولية أيضاً ، من دور العقل الصحفي العراقي وتجربته:
1ــ بعد احتلال العراق وإعلان الهدنة بين الحلفاء والأتراك تم نقل جريدة ( الأوقات البصرية) إلى بغداد لتحل محلها الأوقات البغدادية .. وتم بعد مدة قصيرة تغيير اسمها إلى ( جريدة أوقات ما بين النهرين ) ثم غيّروها إلى أسم ( الأوقات البغدادية ) في أوائل مايس عام 1921
2-حدث فراغ صحفي واسع نتيجة هذا التطور الرسمي في صحافة البصرة تحت الاحتلال. كان عدد من الشعراء والكتاب البصريين قد تداولوا في هذا الأمر حتى تم الاتفاق على صدور جرائد عديدة لا علاقة لها بسلطات الاحتلال أو الحكومة . كانت أول جريدة قد صدرت باسم ( جريدة الحياة ) في 21 /11/1921 وهي جريدة أدبية - انتقاديه- اقتصادية - صدرت مرتين كل أسبوع . كانت الجريدة مسجلة باسم ( هرمز أخوان ) وكان مديرها المسؤول ( توما هرمز ) وقد صدر منها 20 عدداً وأغلقت ..أهمية هذه الخطوة أنها شجعت الآخرين على السير في طريق تجاوز صعاب النشر والإصرار على متابعة صدور الجرائد فكانت جريدة ( الإخاء ) في 20 آب 1926 وهي جريدة يومية أدبية علمية اجتماعية وكانت أول جريدة تتخذ مكتبها في داخل مطبعتها ( مطبعة الكاظمية ) بالعشار وقد احتجبت عن الصدور قبل إكمال سنة صدورها . وأسم صاحبها هو ( عبد الرحمن ) .
3 ــ شعر كتـّاب البصرة بضرورة وجود جريدة يومية قادرة على استيعاب جزء من النتاج الشعري والأدبي في فترة تميزت بنهوض أولي لعدد من الكتاب والشعراء يتمنون أن يضعوا أصبعهم على زر صحافي يؤمن لهم نشر نتاجهم فصدرت جريدة ( الثمرات ) تبحث في ( الأدب والعلم والأخلاق ) وصدر أول عدد منها في 10 آذار 1929 وقد استطاعت أن تستقطب كتـّاب البصرة وبغداد وبعض المدن الأخرى فنشر فيها كتـّاب وشعراء كثيرون من أمثال كاظم مكي حسن والشاعر محمد ناجي طاهر ثم توقفت عن الصدور بسبب الضيق المالي . أعتقد أن هذه الجريدة هي أول جريدة عراقية تعلن مباشرة في آخر عدد لها أنها تتوقف عن الصدور لأنها (لا تملك مالاً وأنها لا تريد أن تواصل خسارتها) . كان صاحبها عبد الرضا الدجيلي .
4 ــ أما الصحيفة التي يمكن اعتبارها قد حققت تطوراً ملحوظاً في مادة تحريرها وفي شكلها الطباعي فقد كان أسمها ( جريدة الأيام ) . وهي جريدة سياسية جامعة أصدرها عبد الرزاق الناصري . أما مديرها المسؤول فكان عبد الجليل برتو .
صدر العدد الأول من هذه الجريدة في 4 كانون الثاني 1930 وقد احتجبت في آب من نفس العام . كانت تصدر ثلاث مرات في الأسبوع جاءت اكثر تطورا نسبيا كما أنها اهتمت بتقديم بعض مواد صحافية وفكرية أكثر غنى بموادها ومعالجاتها الأدبية والسياسية والاجتماعية .
5 ــ تلتها مرحلة جديدة من صدور صحف عديدة أخرى منها جريدة ( الرقيب ) في أواخر 1931 حتى العام 1934 ثم جريدة ( الثغر ) مرة واحدة أو مرتين أسبوعيا حتى صدرت هذه الجريدة يومية سياسية جامعة أصدرها ورأس تحريرها الأديب شاكر النعمة وكان مديرها المسؤول أحمد العطية ثم الدكتور صبيح مصطفى وهما طبيبان يدخلان الميدان الصحفي لأول مرة في البصرة .
5ــ لم يخل تفكير أدباء البصرة في مرحلة ما من الاهتمام بأدب وفعاليات الشباب فتم صدور جريدة (صوت الشباب ) ..أصدرها ( طه الفياض ) عام 1934 ..
6 ــ صدرت جريدة ( الأنباء ) في بغداد أول مرة وكان صاحبها عبد الرزاق الناصري . ثم نقل محل صدورها إلى البصرة في 5 تموز 1936 وهي أول جريدة في العراق يجري نقل صدورها من العاصمة إلى لواء البصرة . وقد أغلقها صاحبها بعد تعيينه مدرساً للغة العربية في ثانوية البصرة للبنين لكنه استقال من الوظيفة عام 1940 فعاد إلى العمل الصحفي وأصدرها من جديد في البصرة .
7 ــ لا بد من التطرق إلى أن أهم جريدة سياسية في البصرة كانت جريدة ( الناس ) التي أخذت على عاتقها من أول صدورها مهمة نشر الوعي السياسي والوقوف صراحة ضد تجاوزات الدولة والاحتكارات الأجنبية . رئيس تحريرها عبد القادر السيـّاب وهي امتداد لنفس الجريدة الأسبوعية التي صدرت في بغداد في 9 حزيران 1935 وهي أول جريدة بصرية تنطق باسم حزب وطني سياسي هو ( حزب الإخاء الوطني ) . كما أنها أول جريدة ناقشت موضوعات مهمة (حرية التعبير) وناقشت بروح النقد قانون المطبوعات رقم 57 الصادر في عام 1933 كما تناولت الجريدة في مناقشاتها موضوعات قومية كقضية فلسطين والإسكندرونة والخليج العربي .
8 ــ إضافة إلى تلك الجرائد فقد شهدت البصرة قبل كثير غيرها من ألوية العراق يمكن ذكر أبرزها كما يلي :
ــ مجلة متخصصة بالشؤون الاقتصادية عنوانها ( الاقتصاد) باللغتين الانكَليزية والعربية أصدرها يوسف هرمز وبديع شوكت عام 1928 .
ــ مجلة ثقافية عامة اسمها ( مجلة الثقافة ) أصدرها المحامي عبد الجليل برتو 1927 ..
ـ مجلة أدبية باسم ( شط العرب) أصدرها خلف شوقي الداوودي..
ــ مجلة علمية باسم ( النشء الجديد ) أصدرها عام 1927 عبد الرزاق الناصري وكانت هي أول مجلة تنقل من البصرة إلى بغداد..
9 ــ في العقد الأخير من 1940 ــ 1950 كانت حافلة بالنشاط الصحفي حيث صدرت العديد منها لكن أهمها كانت صحيفة الناس والثغر والخبر والمنار . وفيما عدا جريدة الناس والسجل اللتين كانت لهما مواقف في مكافحة التدخل البريطاني وفي فضح الاحتكارات النفطية واحتكار نهب الثروات الزراعية فأن الصحف البصرية الأخرى كانت صحف إخبارية مهتمة بنشر الإعلانات محققة من وراء ذلك كسباً مادياً .كانت صحافة ذلك الزمان مملوكة للقطاع الخاص بالكامل ومن أهم معاناتها كان التمويل المالي حيث لم تستطع الصحف الأدبية والثقافية غير المعنية بالإعلانات من مواصلة الصدور.كذلك فأن من أصعب الأمور في تلك الفترة هو تحرير الأخبار والموضوعات السياسية في جرائد كالناس والسجل والإخاء وغيرها من الصحف السياسية . فكانت الأخبار والتقارير ينقلها المحرر بصعوبة بالغة حيث لم تكن آلات التسجيل قد ظهرت في العمل الصحفي بعد .أما لغتها فكانت الأخطاء الكثيرة تشوه العديد من الأفكار والعبارات وغيرها إذ لم يكن تقليد تصحيح المواد قد انتشر بعد فقد كان عامل التنضيد هو الذي يقيم لغة المواد التي تنشرها الجريدة ويقوم بتصحيحها بعد تنضيدها بالطريقة اليدوية .من القضايا المهمة التي لا بد من الإشارة إليها في هذا الصدد ما يلي :
ـ ممارسة حرية الكتابة والتعبير في صحافة البصرة خلال العشرينيات إلى حد الكتابة في الأمور الإلحادية التي كتب بعضهم إلى جانبها خصوصاً في الفترة التحضيرية لـتأسيس حزب باسم ( حزب الإلحاد ) ..
ــ ظهرت من خلال صحف البصرة أولى الدعوات لحركة القومية العربية ..
ــ كان لصحف ومجلات البصرة دور مهم في وضع أسس المسرحية والقصة العراقية من خلال اهتمامات صحيفة « الأيقاظ « التي كان يصدرها في البصرة الشخصية السياسية سليمان فيضي .