مدارات

محاولات شق الصفوف جارية

رشيد غويلب
التظاهرات جاءت تعبيرا عن غضب طبيعي نتيجة لإنعدام الخدمات، وانتشار الفساد في أبشع صوره، وفقدان الحد الأدنى من الأمان، ناهيك عن احتلال الإرهاب لمساحات شاسعة من الوطن، وفقدان الثقة بالنظام السياسي القائم. وأرى أن عراق ما بعد التظاهرات سوف لن يكون العراق الذي عشناه قبلها. والنتائج المتحققة لا تزال محدودة، ولكنها لم تكن قبل أشهر بالحسبان، فالتظاهرات فجرت القدرة على التحرك وكسرت ممنوعات عمل متنفذي نظام المحاصصة الطائفية على تكريسها بواسطة نشر الكره الطائفي وتوظيف مقدسات الملايين. وبهذا المعنى فالتظاهرات حدث كبيروتطور نوعي في الصراع ضد الفساد ونموذج المحاصصة الطائفية، ومحطة أساسية على طريق اقامة دولة المواطنة المدنية الديمقراطية. وستتوقف نتائجها على موازين الصراع في داخل العراق وفي المحيط الإقليمي، وقبل ذلك على قدرة القوى المشاركة فيها على الوصول الى أهداف مشتركة عامة، وخطاب يلبي الحاجة في التغيير. والتظاهرات حققت الآن تغيرات مهمة، ويمكن لها ان تكون مدخلا للتحول الكبير المنشود.
ويبدو لي أن كل ما تحقق مرهون بحركة الصراع الحذرة بين معسكر الفساد ومعسكر الإصلاح وبالتأكيد ما تحقق قليل أمام الخراب الذي ما زال سائدا. وما أرجو تحقيقه هو اصلاح حقيقي يشمل مجالات الحياة المختلفة، ويأتي على أساس حراك مجتمعي ملموس، ويعمل على تعزيزه، أي الإصلاح مستقبلا.
ان ما حدث من حالات اندساس أو ما يعرف بركوب الموجة وغيره كان متوقعا وما زال محدودا، اذا ما أخذنا الرعب الذي انتاب مراكز الفساد، والمنظومات الطائفية المتصارعة والقوى التي تدعمها من خارج الحدود. وأعتقد أن الصراع الدائر هو صراع عالي الجدية، ودخل مرحلة من الصعب الرجوع عنها، وسيفرز مسار التظاهرات راكبي الموجة، عندما يصل الإصلاح الى مديات لا يمكن لهؤلاء اخفاء مواقفهم الحقيقية ضده. وبالتأكيد ان التظاهرات ليست غاية بذاتها، ويمكن للصراع الدائر ان يتخذ اشكالا اخرى. ولكن الضغط الجماهيري سيشكل دوما الضمانة الأقوى لإستمرار عمليات الإصلاح الجارية.
ان المحاولات لشق صفوف المتظاهرين جارية على قدم وساق، والأصوات المتطرفة التي تدعو في الإطار العام لإسقاط العملية السياسية تشكل خطرا كبيرا، لأنها توفر بالمقابل للفاسدين والطائفيين غطاء لتمرير مخططاتهم، فضلا عن طبيعة القوى التي تدعو لذلك وهي بمجملها قوى تدميرية مرتبطة بالإرهاب وبقايا الدكتاتورية المنهارة. ولذا على المتظاهرين مواجهة هؤلاء بالسلمية والخطاب الواقعي المعتدل وسقف المطالب التدريجي والمستند الى وضوح لا غبار عليه، والتأكيد على الطابع الوطني العام للمطالبة بالإصلاح.
ان ايجاد قيادة للحركة الإحتجاجية بمضمون ديمقراطي يعطي التظاهر زخما هاما ومطلوبا، ومنظمو التظاهرات يمتلكون مؤهلات أساسية للوصول الى ذلك ولكن عليهم تجاوز الأنا والبحث عن أدوار مستقبلية، والإبتعاد عن ذهنية المكاسب الضيقة والسريعة التي كرسها الخراب الاجتماعي منذ أكثر من ثلاثة عقود. أقترح تشكيل لجنة من القوى الفاعلة تدار بالتناوب وتؤكد على آلية ديمقراطية في الوصول الى القرارات وتبتعد عن روحية الهيمنة بكل انواعها، ويمكن لهذا الشكل اذا ما تحقق ان يكون مدخلا مهما لإيجاد صيغ تحالفت ديمقراطية ببعديها السياسي والإجتماعي مستقبلا.