مدارات

أورغواي تغادر مفاوضات التجارة العالمية للخدمات

رشيد غويلب
يدور صراع فكري وسياسي في العالم بين جميع القوى المضادة للعولمة الراسمالية بكل تنوعها الفكري والسياسي والتنظيمي، ومراكز القرار في النظم الليبرالية الجديدة، والطغمة الإقتصادية والمالية والشركات العالمية التي ترتبط بها. ومنذ سنوات يتركز الصراع على مجموعة ما يسمى بإتفاقيات التجارة الحرة العالمية بين الولايات المتحدة الأمريكية والإتحاد الأوربي، والمعروفة "اتفاقية التجارة الإستثمارية العابرة للمحيط" (TTIP ( ، واتفاقية التجارة العابرة للمحيط (TIPP) بين الإتحاد الأوربي وكندا، واتفاقية التجارة العالمية للخدمات (TISA) . وفي سياق هذا الصراع يعد خروج الأورغواي من المفاوضات حول الإتقاقية الأخيرة حدث هام بالنسبة للمناهضين للعولمة الراسمالية. ويبدوا ان البلدان الأخرى تستطيع التعلم من هذا البلد الصغير، الذي يوصف بـ "سويسرا" امريكا اللاتينية.
والأورغواي البالغ عدد سكانها 3,2 مليون نسمة تعتبر دولة الرفاه الوحيدة في امريكا الجنوبية، وتمتلك طبقة وسطى ذات مستوى تعليمي جيد. وفي عقود الإنتصار الظاهري لليبرالية الجديدة، كانت المكتسبات الاجتماعية المتحققة هدفا لـ"الإصلاحات". وقد أدى هذا الى تنامي مقاومة النقابات العمالية مدعومة من قوى اليسار،وأوساط واسعة من الطبقة الوسطى مثل المعلمين والموظفين والفنيين والمهندسين. هذا الواقع مكن حكومة تحالف يسار الوسط من فتح مناقشة واسعة للراي العام في البلاد.
ويشترك في التفاوض على الإتفاقية ألأخيرة عدد اكبر من البلدان المشتركة في التفاوض على الإتفاقيتين الأخريين هي الولايات المتحدة الأمريكية و28 دولة اوربية، وكذلك كندا واستراليا، تشيلي، كولومبيا، كوستريكا، هونكوك، ايسلندا، اسرائيل، يابان، المكسيك ، نيوزيلندا، النرويج، باكستان، بنما، باراغواي، بيرو، كوريا الجنوبية وسويسرا وتايوان وتركيا. وتستأثر هذه الدول بـ 70 في المائة من تجارة الخدمات في العالم، والتي تطلق على نفسها "مجموعة الأصدقاء الحقيقيين للخدمات".
وقد كانت المفاوضات بشان الإتفاقية تجري بشكل مغلق، وبقي موقع المفاوضات سريا، وقد عرف لاحقا ان جنيف تضيف هذه المفاوضات منذ بدايتها في عام 2012. ويشير مشروع الإتفاقية، الذي كان مقررا ان يبقى غير متاح للرأي العام حتى بعد توقيعه بخمس سنوات. ويعود الفضل لموقع ويكيليكس في معرفة بعض تفاصيل الاتفاقية. وبموجب هذه التفاصيل ينبغي للاتفاقية ان تؤدي الى خصخصة الخدمات الى الأبد، حتى في الحالات التي أثبتت الممارسة لسنوات طويلة، ان ذلك خطأ فادح. واذ ما وقعت الاتفاقية، فسيكون من الصعب على الحكومات والبلديات إعادة توفير الماء والكهرباء والطاقة والصحة والتعليم الى الملكية العامة. وهذا مجرد جزء من سيناريو مرعب.
وعلى أساس هذه الخلفية، قامت الوزارات المختلفة بدراسة الآثار المحتملة للاتفاقية. وفقا لتقرير من وزارة العمل، فان الاتفاقية تتعارض مع معايير منظمة العمل الدولية، وأكدت وزارة الصناعة، ان الاتفاقية تنطوي على مخاطر كبيرة لقطاع الاتصالات، وزارة الزراعة ترى ان منتجات اللحوم الناجحة في البلاد ستتعرض الى خطر، وحذرت وزارة الصحة من الأضرار التي سيتحملها ذوي الدخل المحدود من توقيع الإتفاقية.
وحالما عرفت هذه التفاصيل، بدأت النقابات العمالية، والأوساط الاجتماعية الداعمة لها بتنظيم المقاومة، التي توجت بإضراب عام. وبعد صدور قرار الأكثرية في الجمعية العامة للتحالف الحاكم بالانسحاب من المفاوضات، وجه رئيس الجمهورية اليساري تاباري فاسكيز، وزير خارجيته بتنفيذ هذا القرار. ولم يكن القرار محط اتفاق جميع قوى التحالف الحاكم، ففي حين طالب الحزب الشيوعي، والحزب الاشتراكي، و حزب "حركة المشاركة الشعبية" الى الانسحاب، دعا حزبان اجتماعيان ديمقراطيان الى استمرار المشاركة في المفاوضات. وفي الخامس من أيلول الحالي حسم الأمر بالتصويت داخل التحالف، إذ صوت لصالح قرار الانسحاب 117 مقابل 22 فقط تطالب بعدم الانسحاب. وحاول اليمنيون الشعبويين العمل على شق التحالف الحاكم، من خلال عرض التحالف مع أنصار الاتفاقية، ولكن سعيهم لاقى رفضا واسعا من جميع أطراف التحالف الحاكم.
ومن المفيد الإشارة الى ان انسحاب هذا البلد الصغير سيعيق مسيرة الشركات الكبرى لتعزيز سلطتها المعولمة، ولكن ما حدث يؤكد إمكانية رفض مشاريع المراكز الرأسمالية، فضلا عن تجربة هامة في طرح هكذا اتفاقيات الى المناقشة العامة، يمكن ان تتكرر في بلدان أخرى.