مدارات

اللوحة الاجتماعية في المجتمع العراقي: الجذور.. الواقع الراهن والآفاق / فرحان قاسم

فرحان قاسم من مواليد 1948، بكالوريوس لغة عربية، بكالوريوس لغة إنجليزية، عمل في التدريس، والإشراف الاختصاصي، عضو نقابة الصحفيين العراقيين، عضو الجمعية الوطنية للدفاع عن حقوق الانسان في العراق، نشر مقالات عديدة في العديد من الصحف العراقية.
أولا: مقدمة
في نيسان عام 2003 انهار النظام الدكتاتوري، وحل محله نظام جديد، ولا اريد الخوض في الاسباب والنتائج التي طبعت النظام الجديد، بل ما يهمني في هذه المساهمة هو التغييرات التي طرأت على اللوحة الاقتصادية - الاجتماعية في المجتمع العراقي بعد التغيير.
أصدر الحزب الشيوعي العراقي في اب 2015 وثيقة "رؤى في تحديات واقع الاقتصاد العراقي الراهن"، واظن انها من انضج الدراسات الاقتصادية التي حللت المتغيرات في الازمة الراهنة بناء على معطيات حكومية ودولية، وتوصلت الوثيقة الى استنتاج تزكيه الوقائع التي نعيشها وهي "ان العراق واقتصاده يقف على مفترق طرق، وانه في حال استمرار الاوضاع ومسارات السياسة الاقتصادية وتوجهاتها على ما هي عليها ، فان العطل في الاطار الاقتصادي العام للبلاد سيتعمق، وستكون لذلك تداعيات سلبية ثقيلة على حياة المواطنين وعملية الاعمار والتنمية، وستشتد مظاهر التفاوت والاختلال في البنية الاقتصادية – الاجتماعية"، ولم تكتف الوثيقة بالتحليل والتوصيف وإنما اعطت بدائل واقعية للخروج من الازمة من خلال "الاسراع في اجراء المراجعات والإصلاحات الادارية والمالية" (1).
اذا كانت المعطيات الدولية والحكومية والخطط والاستراتيجيات التي توفرت، ساعدت في انجاز وثيقة "رؤى في تحديات واقع الاقتصاد العراقي الراهن" فإنني اجد الحاجة ماسة لدراسة وتحليل اللوحة الاجتماعية في العراق بعد 2003، اذ يلاحظ الكثير من التخبط في استخدام المفاهيم وقسم منها تسلل الى ادبياتنا ومقالاتنا، رغم تقاطعه مع المفاهيم الماركسية عن الطبقات والفئات الاجتماعية، اضافة الى ان اللوحة الاجتماعية بعد 2003 انتجت فئات لم تكن معروفة للباحثين، مثل "الحواسم" وغيرها سأتناولها بالتفصيل.
ثانيا: الجذور
ذهب احد الباحثين الى انتقاد الراحل عزيز سباهي في ثلاثيته "عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي" مشيرا الى ان سباهي "توقف عند تاريخ العراق الذي ليس له علاقة مباشرة بتاريخ الحزب ومقدمات نشوئه وهو ليس مهمة كتاب يحمل عنوان عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي" (2)، وإذا ما رجعنا الى طريقة الديالكتيك المادية في دراسة الظاهرة بحركتها وعلاقتها مع الظواهر الاخرى وبآفاقها، فإنني اعتقد ان عزيز سباهي كان منسجما مع متطلبات ذلك المنهج في البحث، وذهب الدكتور كاظم حبيب ابعد مما ذهب اليه سباهي، فقد درس الحضارة العربية الاسلامية وتأثيراتها على المجتمع العراقي، ثم تناول بالتفصيل الاحتلالين العثماني والبريطاني (3)، وكما هو معروف فان الدكتور علي الوردي ربط بين الازدواجية والتناشز في الشخصية العراقية وبين الحضارة والبداوة، والدكتور عبد الجليل الطاهر الذي وصف الشخصية العراقية بانها متقوقعة وقلقة في آن واحد بسبب الانتماءات الفرعية التي تعكس مظهرا تاريخيا، والدكتور حاتم الكعبي الذي حدد ثلاثة أنواع من التفاعلات الصراعية داخل الشخصية العراقية "التفاعل التنازعي الذاتي، والأسري، والثوري"، وربط بين تلك التنازعات وبين قيم المجتمع التراثية (4).
بسبب البيئة الفيضية الغنية بالموارد الزراعية، وبسبب الموقع الجغرافي للعراق، كان تاريخه سلسلة متعاقبة من الصراعات والحروب الداخلية بين القبائل البدوية والمستقرة وبين القبائل والحكومات وبين الدولة الفارسية والعثمانية وتعرض لغزوات المغول وأقوام أخري، ودخل المشهد الاستعماري منذ الحرب العالمية الأولى، كما اعتبر بعض الباحثين "حادثة هابيل وقابيل" رمزا للصراع الدموي بين القبائل البدوية "الرعاة" وبين القبائل المستقرة "الفلاحين" (5)، ورغم تلك البيئة الفيضية الغنية بالموارد الزراعية إلا ان بلاد وادي الرافدين تخلو من المواد الأولية الضرورية لبناء الحضارة كالمعادن والأخشاب الصالحة للبناء والأحجار، وهو عامل موضوعي فرض على السكان اللجوء الى التجارة الخارجية من البلدان المجاورة والبعيدة للحصول على تلك المواد الأولية، لذلك كانت بلاد وادي الرافدين منذ نشوئها تجارية الى جانب كونها زراعية تستلزم منظومة ري متكاملة، وهذا الواقع فرض مستلزمات تترك آثارها على السكان وحياتهم من الناحية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية ومن تلك المستلزمات الطرق الخاصة بالمعاملات التجارية وطرق المواصلات وأوضاع امنية مرتبطة بنشوء دولة مركزية قوية واحدة، وهنا نشأت نظرية الحكم في بلاد وادي الرافدين، حيث تحكم الالهة البشر، وتنيب عنها ملوكا يسوسون الناس، لذلك نجد ان العراق هو من اوائل الدول ذات الطابع المركزي الريعي في التاريخ، اسسها سرجون الأكدي بعد توحيده دويلات المدن، بسبب العلاقة الجدلية بين الدول الفيضية وبين الحاجة الموضوعية فيها لدولة مركزية ريعية، ارتباطا بملكية الدولة للأرض والماء أولا ولان الحاكم فيها – كما اعتقدوا – كان مفوضا من الاله على ابناء شعبه، وهذا الواقع انتج عنصر الاستبداد والقمع الذي يصنع الولاء والطاعة العمياء ومنظومة خلقية متهرئة رافقت مجتمعنا قرنا بعد قرن.
لعبت الميثولوجيا دورا كبيرا في المجتمع العراقي، وخلف لنا الادب البابلي ملحمة جلجامش – ملحمة جنوح الانسان للخلود ة أهمية الأسطورة في تكوين الشخصية العراقية في العصور القديمة، وكيف تختلط قوة الالهة الخارقة مع سعي الانسان لبلوغ أهدافه، وبعد ظهور المجتمعات الطبقية لعبت الأديان دورا كبيرا في صيرورة وتطور المجتمعات، وأصبحت جزءا هاما من تراث البشرية لا يمكن التقليل من شانه او تجاوزه، وفي مجتمعنا حيث لعب الدين وما يزال دورا كبيرا في مختلف المجالات، وخصوصا في بناء وعي الشخصية العراقية بمختلف طبقاتها وفئاتها، فتكونت معالم شخصية ولائية سلبية، عاجزة عن الانعتاق من سحب الحاضر الى الماضي، لتكون بعيدة عن معرفة أسباب تعاستها الحقيقية، ولا يختلف هذا الانحراف في الوعي من طبقة الى أخرى او من مستوى تعليمي الى اخر، فقد اتسع افقيا وعموديا.
ومن جهة اخرى أثر الاحتلال العثماني والاحتلال البريطاني بشكل مباشر على عنصرين مهمين في الحياة الاجتماعية في العراق: العنصر الاول هو البناء التحتي اي العلاقات الانتاجية والكيان او الوجود الاجتماعي ككل، والعنصر الثاني البناء الفوقي اي الوعي الاجتماعي بعناصره المختلفة، فالدولة العثمانية انشأت العلاقات شبه الاقطاعية من خلال القوانين التي اصدرتها عام 1868 وما اعقبها من قوانين وإجراءات، اضافة الى انها ولأسباب فرضتها حاجات موضوعية فتحت عهدا جديدا في بناء الجيش والأنظمة الادارية وتطوير انظمة الري والزراعة وإنشاء بعض الورش والمصانع الصغيرة التي تسد حاجات قواتها المسلحة.. اما الاحتلال البريطاني فقد كرس تلك العلاقات شبه الاقطاعية - شبه الرأسمالية "الاستعمارية"، عبر سلسلة من القوانين والإجراءات اضافة الى انه فتح عيون العراقيين على الحضارة الغربية، ولنفس الاسباب والحاجات الموضوعية انشأ الاحتلال البريطاني عددا من المشاريع في قطاعات مختلفة.
وبعد اكتشاف النفط، اصبح العراق هدفا تتصارع حوله البلدان الاستعمارية، وتكمن خلف النفط سلسلة من المؤامرات التي سببت كوارث اقتصادية واجتماعية وسياسية، تركت اثارها على البنية الطبقية في العراق، وعلى المنظومة القيمية للشخصية العراقية.
المشهد الاجتماعي الناتج عن الاحتلالين اظهر الى الوجود الاقطاعيين، وشرائح من الفلاحين الفقراء والمتوسطين والأغنياء، وقطاع حرفي واسع الانتشار في المجالين الزراعي والصناعي والانتلجينسيا والبرجوازية المحلية بشرائحها المختلفة الكومبرادور والصناعية والصغيرة، والطبقة العاملة المرتبطة نشأتها الاولى بالرأسمال الأجنبي والبيروقراطية التي ستلعب ادوارا مهمة في مسارات الدولة العراقية لاحقا.
وأصبح العراق نتيجة للاحتلال بلدا يقع ضمن البلدان التابعة في تقسيم العمل الدولي، بلدا مصدرا لموارده الطبيعية، مستوردا للبضائع المصنعة في بلدان الانتربول وخصوصا الاحتكارات البريطانية.
ثالثا: إشكالية المفاهيم
مفهوم الطبقة:
"ان مفهوم الطبقة لم تبتدعه الماركسية فقد اصبح متداولا منذ ان ظهر القانون الروماني"، وكما قال ماركس نفسه "لا فضل يرجع لي في اكتشاف وجود الطبقات في المجتمع، ولا في وجود الصراع بينها، فقبلي بزمن طويل وصف المؤرخون البورجوازيون التطور التاريخي للصراع بين الطبقات"، ورغم ذلك فان تعريفها يعتبر إشكالية كبرى، اذ ذكر معجم الماركسية النقدي انه "هل يعقل ان يحبر ماركس 2500 صفحة عن صراع الطبقات بدون ان ينبس ببنت شفة حول تعريف الطبقات" (6)، ويبدو ان هذا الاستغراب منطقي ولكن تطور هذا المفهوم المتسارع والمتنوع والمتحرك تبعا للتطورات الاقتصادية والاجتماعية دوما، يجعل حذر ماركس منطقيا جدا ولا يدعو للغرابة. والمفكر الوحيد الذي وضع تعريفا شاملا للطبقة، ويكاد يكون عرضا وشرحا اكثر منه تعريفا، هو لينين حيث قال "الطبقات هي جماعات واسعة من الناس، تمتاز بالمكان الذي تشغله في نظام الإنتاج الاجتماعي، محدد تاريخيا بوسائل الإنتاج، وبدورها في التنظيم الاجتماعي للعمل، وبطرق الحصول على الثروات الاجتماعية، وبمقدار حصتها من هذه الثروات" (7)، وذكر احد الباحثين ان لينين في تعريفه اغفل الحديث عن الوعي (8)، وما جلب انتباهي في هذا التعريف أيضا هو عبارة (جماعات واسعة)، اذ اصبح شائعا في الادب الماركسي منذ بداياته عبارات "اقلية تملك وسائل الإنتاج وأكثرية تبيع قوة العمل" و"كلما تطورت الرأسمالية وخصوصا في مرحلة الامبريالية ازدادت القلة غنى وازدادت الأكثرية فقرا"، ولا ادري اذا كان لينين يعني باتساع الطبقة البرجوازية النسبي او شيئا اخر، فتعريف لينين مترابط اذ ان تجزئته بانتقائية تؤدي الى تشويهه، فالاتساع الكمي هو احد المعايير في التعريف، لان هناك فئات أوسع عددا من الطبقة العاملة والبرجوازية لكنها لا تتمتع بمواصفات الطبقة.
على العكس من بعض الاراء فأنني وجدت تعريف لينين هو المعين الأفضل على الأقل في تحديد الطبقات الرئيسية التي يحتويها الصراع التناحري والطبقات والفئات التي تقف على حافتي ذلك الصراع.
مفهوم "الطبقة الوسطى"
بدءا هذا المفهوم يتقاطع كلية مع التحليل الماركسي للوحة الاجتماعية، لأنه يعتمد مقياس الدخل والإنفاق عند بعض الباحثين ومقياس التعليم عند البعض الاخر وليس مقياس الموقع في العلاقات الإنتاجية، فهو مفهوم ملتبس و"مشحون سياسيا ومثير للجدل تاريخيا وغامض اجتماعيا وغير مفهوم بما يكفي" (9)، اذ يوحي بوجود طبقة غنية وأخرى فقيرة وهي تقع بينهما، فهو يضم فئات وشرائح لا يجمعها جامع، ولو طبقنا المعايير التي حددها الباحثون في هذا المفهوم على اللوحة الاجتماعية في العراق بعد وقبل 2003، لوجدناها فضاء مفتوحا يضم البرجوازية المحلية وشريحة الفلاحين الغنية والمتوسطة والتجار والضباط وقسما واسعا من الحرفيين وفئات من العمال وجميع المثقفين (الانتلجينيسيا) كما وجدت من يتحدث عن الطبقة السياسية او طبقة السياسيين او طبقة رجال الدين في العراق.
الانتلجينسيا "المثقفون"
هي فئة قديمة ارتبط ظهورها بانفصال العمل الفكري عن العمل العضلي (10)، وبعد ظهور الرأسمالية أصبحت الحاجة ماسة لهم، بسبب نمو الإنتاج والتبادل التجاري وازدياد دور النقود، وقسمهم غرامشي الى مثقف عضوي ومثقف تقليدي، وفي بلدنا فان الباحثين يكاد يجمعون على انهم شريحة واسعة من المجتمع العراقي لعبت دورا رائدا ومميزا في حركة التنوير منذ تأسيس الدولة العراقية، وتعرضوا لسلسلة من عمليات القمع والتهميش خلال تعاقب الدكتاتوريات على الحكم، بلغت قمتها ايام الحصار خلال التسعينيات من القرن الماضي، وبعد الاحتلال الامريكي لبلدنا انقسم المثقفون الى ثلاث فئات، الفئة الاولى تلفعت برداء القوى السياسية المهيمنة سواء قوى الاسلام السياسي او بعض القوى "العلمانية"، وتحولت الى سلاح ايديولوجي لتلك القوى، لتأبيد سطوة تلك القوى المهيمنة على السلطة، والفئة الثانية تبنت مشروع اللبرالية الجديدة ودخلت في لعبة الفساد المالي والصفقات والتسلق الى سلطة القرار من خلال مافيات رأس المال المالي، وفئة ثالثة حافظت على دورها التنويري في ظل الاجواء القاتمة التي تخيم على بلدنا.
هذه الفئة (أي الانتلجنسيا) يكون موقعها عادة في البناء الفوقي، لأنها تختص بالعمل الفكري أصلا، مما يجعل تأثيرها سلاحا ذا حدين، فقد انحازت غالبية هذه الفئة منذ بداية تأسيس الدولة العراقية الى قضايا الشعب، ولعبت دورا اساسيا في رفع مستوى وعي المواطنين باتجاه معاداة الاستعمار ودافعة باتجاه الاستقلال والسيادة الحقيقيين، ولكنها تعرضت وما زالت لقمع وتطويق وتهميش مخطط من قبل اغلب الحكومات المتعاقبة، لغرض تحويلها الى اداة بيد تلك الحكومات تستخدمها لحرف الصراع وتزييف الوعي، وهي في النهاية تنضوي تحت مفهوم فئة من فئات البرجوازية الصغيرة الواسعة في لوحتنا الاجتماعية.
مفهوم "الحواسم" سراق المال العام
وهو مفهوم لا يمت بصلة الى المفاهيم الاقتصادية او الاجتماعية، وليس لديه جذور لغوية او اصطلاحية اكاديمية، وأصبح مفهوما اجتماعيا شائعا فرضته احداث ما بعد الاحتلال ويعني "سراق المال العام"، وإذا ما اعممنا هذا المفهوم فانه سيشمل قطاعا واسعا من اللوحة الاجتماعية الراهنة وينضوي تحته عدد من السجناء العاديين الذين اطلق سراحهم قبيل الاحتلال، وأعداد من الفقراء والمهمشين، وقسم من عصابات الجريمة الموجودة أصلا في عهد الدكتاتورية، وعصابات مدفوعة لأغراض سياسية من قوى داخلية وخارجية لتدمير ما تبقى من مؤسسات الدولة العراقية، وجميعهم اغتنوا عن طريق سرقة البنوك ومؤسسات الدولة، ويتحمل هذا المفهوم إضافة جميع الفاسدين من موظفي الدولة صغارا وكبارا منذ الاحتلال حتى اللحظة الراهنة، لان اغلبهم انتقلوا من مواقعهم الطبقية السابقة وانضموا بقوة الى راس المال المالي والتجاري والصناعي بنسبة بسيطة، وتوزعوا ضمن شرائح البيروقراطية والطفيلية والكومبرادور، وشكلوا مافيات تحت مظلة الأحزاب المهيمنة تتحكم بمسارات السياسة الاقتصادية في العراق.
مفهوم اشباه البروليتاريا
هم جمهرة واسعة جدا من السكان، هامشية ورثّة في مستوى معيشتها (11) وهم ضحية مشروع الاحتلال الاقتصادي الذي انتج نسبا عالية من البطالة والفقر، قسم منهم عاطل واخر عمال موسميون وباعة مفرد ومتجولون و"عتاكة" وجمهرة الحمالين والكناسين والشحاذين وأعداد من المتسربين والمتسربات من التعليم الابتدائي والمتوسط والثانوي، إضافة الى اعداد من الارامل والأيتام الذين خلفتهم الحروب والاحتراب الطائفي، غالبية هؤلاء من الأطفال والشباب نساء ورجالا، انهم يعانون من الفقر المالي والفكري ويعيشون تحت خط الفقر لسكان العراق، ويندفعون امام أي فرصة يعتبرونها انقاذا لهم من الوضع الشائن الذي هم فيه، ويكونون عرضة للانحراف بمختلف "يافطاته".
مفهوم الطلاب
من المعروف ان علماء الاقتصاد والاجتماع يعتبرون الطلاب احدى فئات البرجوازية الصغيرة في ظل الظروف الاعتيادية للبلدان المستقرة اقتصاديا وأمنيا، ولكنهم في العراق فئة سريعة الحركة والانتقال بسبب الظروف الاستثنائية التي يمر بها البلد، فالتسرب من التعليم ظاهرة تتصاعد كل سنة، والخريجون يواجهون غالبا البطالة، والأمر الذي يستدعي التوقف عنده هو نسبتهم بين سكان العراق ودورهم في اللوحة الاجتماعية الراهنة، فهم بمجموعهم يشكلون ثلث سكان العراق تقريبا، هناك اشكاليتان تواجه هؤلاء من ناحية الدور الذي يلعبونه: الأولى هي النظام التعليمي الذي يعتمد التلقين أساسا في بناء شخصية المتلقي، إضافة الى عوامل الانحطاط الأخرى التي تطبع النظام التعليمي كله، والثانية الاسرة التعليمية التي ارتفع مستواها المعيشي عما كانت عليه في زمن النظام الدكتاتوري، لكنها فقدت الكثير من مهمتها التنويرية بفعل انغماس جزء من أعضائها مع الطائفية والبراغماتية، الامر الذي انعكس على مستوى وعي الطلاب، ودورهم السلبي غالبا في الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية في البلد.
مفهوم الطبقة العاملة
بدأت البروليتاريا في البلدان المستعمرة بالتكون في ظروف الاحتلال الاستعماري، وهي طبقة ترتبط اصلا بالقرية مما يضفي عليها طابعا نصف فلاحي (12)، ان ضعف البروليتاريا لا يأتي فقط من اصولها الفلاحية ولا من ضالة عددها فحسب، وإنما هي الى جانب هذا مبعثرة وضعيفة التنظيم والوعي، وهذا ما يجعلها تتأرجح ايديولوجيا، ويؤدي الى وقوع اجزاء منها تحت تأثير الايديولوجية والأحزاب البرجوازية وانخراطها احيانا في تنظيمات رجعية وشوفينية او طائفية.
تتشكل نواة البروليتاريا من العمال الدائميين، ان بروليتاريا الانتاج الكبير تشكل العمود الفقري لجيش العمل المأجور وهي في البلدان المتخلفة قليلة العدد، وتضم عمال المصانع والمناجم والنقل والمواصلات وجزءا من عمال البناء وبعض عمال الزراعة، ويشكل عمال الانتاج الصغير المجموعة التي تلي البروليتاريا الحديثة مباشرة، وهي تشمل عمال المانيفاكتورة والورشات الحرفية والمؤسسات الصغيرة العاملة في مجالات النقل والتجارة والخدمات، والعديد من اصحاب المؤسسات الصغيرة يعملون تماما كما يعمل عمالهم ولا يختلفون عنهم بشيء، ان نسبة المشتغلين في الانتاج الصغير هي اكبر بكثير في البلدان الاقل تطورا، والمؤسسات الصغيرة تحتل في قطاعي التجارة والخدمات مواقع اكبر من مواقعها في الصناعة.
نمت الطبقة العاملة في العراق مع المشاريع التي انشأها الاحتلال البريطاني، لحاجات موضوعية ارتبطت بإدامة وجوده وتعميق سيطرته على العراق، من خلال علاقات انتاجية شبه اقطاعية - شبه رأسمالية تعبد الطريق امام نشوء قاعدة اجتماعية محلية ساندة له، من اقطاعيين وكومبرادور وبيروقراطيين، ان هذه النشأة منحت الطبقة العاملة واحدة من اهم خصائص وهي انها ربطت كفاحها من اجل مصالحها الطبقية مع نضال الشعب العراقي بأغلبية فئاته الاجتماعية الاخرى ضد الاحتلال الاجنبي، ورغم محدودية وعيهم في بداية نشأتهم، فان العمال شاركوا بقية قطاعات الشعب النضال ضد الاحتلال البريطاني، وكان اول شهيد عشية ثورة العشرين نجارا (13).
وبسبب طبيعة نشأتها تلك، تعرضت الطبقة العاملة الى سلسلة متواصلة من الاجراءات القمعية والتهميش ووصلت تلك الاجراءات بالقانون رقم ( 50 ) لسنة 1987 الذي حول العمال الى موظفين في الدولة، كما سعت الحكومات المتعاقبة الى انشاء نقابات صفراء بدلا من النقابات الحقيقية الممثلة لمصالح العمال.
يكثر الحديث بين اوساط من الماركسيين واليسار وأوساط اخرى معادية للماركسية عن الطبقة العاملة في العراق ودورها في الفترة الراهنة، والسبب وراء اللغط الحاصل يعود الى عاملين أساسيين: الاول هو عدم توافر قاعدة معلومات دقيقة عن المتغيرات في اللوحة الاجتماعية بشكل عام والطبقة العاملة بشكل خاص، والعامل الثاني هو المواقف الايديولوجية المتشنجة مسبقا تجاه الكلاسيكيات الماركسية تصدر عن محسوبين على اليسار او عن قوى دينية وشوفينية وليبرالية جديدة تسعى على الدوام الى الحط من المفاهيم الماركسية، و"عجزها" عن تحليل ظواهر البلدان المتخلفة، وتتعدد منظورات تلك الطروحات بين من ينفي وجود طبقة عاملة بالمطلق في بلدنا او ينفي وجود بروليتاريا بمعناها الاصطلاحي او من يقصر وجود العمال على القطاعات الخدمية، ان انهيار القطاعات الانتاجية الزراعة والصناعة بعد 2003 خصوصا، وفر لتلك الطروحات الارضية لتجد من يسمعها ويقتنع بها.
ان واقع الطبقة العاملة الراهن يشير الى وجود البروليتاريا في عدد من القطاعات الانتاجية الاستخراجية والتحويلية في القطاع العام والخاص مثل شركات النفط وغيرها والصناعات التحويلية المتواجدة في عدد من المحافظات، وكذلك نجد قطاعا واسعا من العمال سواء في قطاع الخدمات العام والخاص او القطاعات الحرفية والمعامل الصغيرة، اضافة الى ما يطلق عليها البروليتاريا الزراعية، وهم العمال الزراعيون الذين يعملون بأجر.
مفهوم الفلاحين
يشكل الفلاحون في البلدان المتخلفة نسبة مهمة من السكان، ولعب انتشار العلاقات السلعية – النقدية وتطور العلاقات الرأسمالية دورا في حدوث تمايز طبقي بين الفلاحين، وأصبح هناك فائض سكان نسبي ادى الى انضمام جزء من الفلاحين الى العمل المأجور، وقسم اخر ابتعد عن الاشكال التقليدية للإنتاج، وتزايد عدد الفلاحين الذين لا يملكون ارضا او اقتصرت ملكيتهم على رقع صغيرة او يبيعون قوة عملهم التي اصبحت المصدر الاساسي لعيشهم، وهذا التمايز في الريف العراقي أفرز ثلاث شرائح توزعت على الفلاحين الاغنياء والفلاحين المتوسطين والفلاحين الفقراء.
بعد 2003 عانى الفلاحون من شحة الماء وتدهور خصوبة الارض وعودة المشيخات والمشايخ والإقطاع وتقاليده البالية وأساليب توزيع المحصول الزراعي الى الواقع العراقي في الزراعة (14)، كما تراجعت اعداد نفوس سكان الريف لصالح سكان المدينة الفقراء والمعوزين والعاطلين ولصالح القوات العسكرية، وتواجه اي باحث في دراسة وضع الريف العراقي والتغيرات التي حصلت عليه - وهي كثيرة جدا - شحة المعلومات الاحصائية التي تساعد على التوصل الى استنتاجات سليمة.
ان فتح الحدود العراقية امام المنتجات الزراعية لدول الجوار وغيرها بدون ضوابط والتجميد العملي لقانون حماية المنتج الوطني ادى الى عزوف الكثير من الفلاحين عن الزراعة لعدم قدرتهم على المنافسة في السوق مع المنتجات المستوردة واللجوء الى مصادر عيش خارج القرية، وما اتساع العشوائيات حول المدن العراقية، وانتشار العمال المياومين القادمين من الريف للعمل في القطاعات الخدمية، اضافة الى تطوع ابناء الفلاحين في القوات المسلحة، وبيع اراضيهم لمجاميع مافيات العقارات في الاراضي الزراعية إلا مظهر من مظاهر تفاقم الفقر في الريف العراقي.
مفهوم البرجوازية الكومبرادورية
هي الفئة العليا من البرجوازية في البلدان المتخلفة (15)، وتشمل التجار الوسطاء واصحاب المصارف والمرابين وجزءا من البرجوازية الصناعية، وهي مرتبطة بشكل وثيق بالرأسمالية الدولية، وهناك قسم اخر جلبهم المحتلون الامريكان معهم، عراقيون وعرب، ومنحوهم مقاولات لمشاريع كثيرة، وخلقوا منهم قاعدة اجتماعية لتوسيع صلاتهم بشرائح مختلفة انضمت الى حلقاتهم، وأصبحوا قوة اقتصادية تفرض سيطرتها عبر عمولات وإغراءات أخرى على صناع القرار العراقي.
مفهوم البرجوازية البيروقراطية
وهي الفئة الغنية من الموظفين، وهي طفيلية بطبيعتها، وتنمو بسرعة كبيرة ويزداد تأثيرها في كل مكان، وإن رأس المال البيروقراطي ليس مرتبطا بشكل مباشر بشروط الانتاج المادي، وتتألف مصادره من الرواتب وبقية الامتيازات للشخصيات الحكومية والسياسية التي تشكل النخبة الحاكمة، ومن خلال الفساد يجمع هؤلاء ثروات طائلة، وكلما كان البلد اكثر تخلفا كانت هذه الفئة أقوى، لأن نشاطها يتسم بالطابع غير الاقتصادي، وهو يقتصر على الرشوة والعمولات والكسب عبر المضاربات، وان الوظيفة الحكومية في بعض البلدان المتخلفة كانت مصدرا من مصادر التراكم الابتدائي عبر انواع النهب، واحدى الميزات المهمة في اللوحة الاجتماعية هي التداخل بين هذه الشرائح والفئات حيث تجد الوزير يصبح جزءا من الكومبرادور والطفيليين وقد يرتقي الوزارة من كان يحتل موقعا مؤثرا بين الطفيليين والكومبرادور، إضافة الى ان هؤلاء استطاعوا عبر العلاقات المافيوية والرشى من الوصول الى البرلمان من خلال أسماء أخرى لا تنضوي تحت توصيفاتهم الطبقية، كما استطاعت البيروقراطية والطفيلية ان تجر الكثير من شيوخ العشائر والشخصيات المؤثرة الى صفوفها، عبر منحهم مقاولات ومشاريع تدر عليهم اكبر الأرباح، وغالبا ما شاب تلك المشاريع الفساد، واستثمروا تلك العلاقات مع المشايخ لتحقيق مكاسب انتخابية لكتل سياسية ينتمون إليها.
الحرفيون
يشكل الحرفيون وصغار التجار الفئة الاكبر عددا في مدن البلدان المتخلفة لغلبة الانتاج السلعي الصغير والأشكال الدنيا من الانتاج الرأسمالي مع ما يلازمها من علاقات سوقية قديمة، ولعب هذا القطاع دورا كبيرا خلال الثمانينات وفترة الحصار بعد التسعين من القرن الماضي، وازدادت نسبة مساهمته في الناتج المحلي، لأنه ساهم في سد احتياجات السوق المحلية نتيجة محدودية الاستيراد خلال فترة الحصار، ولكنه هو الآخر تعرض لانهيار كبير بعد عام 2003، بسبب البضائع الخارجية التي اغرقت الاسواق وبأسعار لا يستطيع هذا القطاع منافستها، فانهار القطاع الحرفي في انتاج الاحذية والجلود والملابس والغزول وبقية قطاعاته الاخرى، ولجأ الكثير من العاملين فيه اما للعمل المأجور او الهجرة الى الخارج.
رابعا: الخاتمة
بعد ما يقارب الثلاثة عشر عاما التي اعقبت الاطاحة بنظام الدكتاتورية البغيض، اصبحت اللوحة الاجتماعية والسياسية رغم تعقيدها واضحة المعالم وخلاصة ما توصلت اليه من العرض السابق ان اللوحة الاجتماعية للواقع العراقي الراهن تقسم الى:
1 - البرجوازية الكبيرة: وتضم تحالفا اتسعت اطرافه لتشمل الفئات البيروقراطية والكومبرادورية والطفيلية بمسمياتها المختلفة وهي من الناحية السياسية تتمثل بالكتل السياسية المهيمنة على السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، والتي اعتمدت المحاصصة بأنواعها شكلا للنظام السياسي، والفساد المالي والإداري اداة للاستحواذ على المال العام. وتضم هذه الطبقة ايضا فئة صغيرة من البرجوازية المحلية الصناعية التي دفعتها مصالحها المتضررة ووعيها الوطني ايضا ان تكون خارج ذلك التحالف.
2 - البرجوازية الصغيرة: وتضم طيفا واسعا من الفئات الاجتماعية، قديمة وجديدة التشكيل بمسمياتها المختلفة، وتتمثل بالقطاع الحرفي والإنتاج الصغير في المجالين الزراعي والصناعي، والمثقفين من شغيلة الفكر في كافة المجالات، سواء العاملين في قطاع الدولة او القطاع الخاص، عدا الذين وظفوا قدراتهم وطاقاتهم الفكرية لخدمة التحالف المسيطر، والتجار الصغار من اصحاب المحلات او الوسطاء في العمليات التجارية الصغيرة، والطلاب.
3 - شغيلة اليد: وتضم الطبقة العاملة بفئاتها المختلفة، والفلاحين الفقراء، والمهمشين بمختلف مسمياتهم وتصنيفاتهم.
ومن خلال التقسيم السابق يمكن الحديث عن التحالف المسيطر الذي يضم البيروقراطيين والكومبرادور والطفيليين وفئات اخرى وظفت قدراتها لخدمة هذا التحالف من مثقفين ومشايخ ورجال دين من طوائف مختلفة، يحظى مشروعها بدعم من قوى دولية واقليمية تحولت يوما بعد يوم لتصبح عاملا داخليا مؤثرا ومقررا في احيان كثيرة، ان هذا التحالف الاجتماعي والمعبر عنه عبر احزاب سياسية داخلية وقوى دولية يتوحد من جهة الاهداف الاقتصادية الكبرى لمشروعه ويختلف ويتصارع عبر مظهر الطائفية والمحاصصة للحصول على المكاسب السياسية والاقتصادية المؤثرة في مشهد مشروع الدولة العراقية الموعودة الذي لم يكتمل بعد.
اما القوى الاجتماعية الاخرى والأحزاب التي تمثلها، في الحقلين الثاني والثالث المكونة من البرجوازية الصغيرة وشغيلة اليد اضافة الى منظمات المجتمع المدني والبرجوازية الصناعية المحلية المتضررة من المشروع الاقتصادي بعد الاحتلال، فيفترض انها تشكل التحالف الواسع المقابل الذي من مصلحته بناء دولة مدنية ديمقراطية معاصرة، لكن تجربة السنوات الاثنتي عشرة الماضية اثبتت ان تحقيق مثل هذا التحالف الواسع، يواجه عقبات كثيرة وجدية ابرزها تدني الوعي ونمو النزعات الطائفية والشوفينية الضيقة الى قطاعات شعبية واسعة، التي ابعدت تلك القوى عن الصراع الحقيقي، الامر الذي يجعل مهمة اقامة التحالف الواسع ما زالت هي المهمة الأرأس التي تواجه شعبنا من اجل بناء الدولة المدنية الديمقراطية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مصادر الدراسة
(1) الشيوعي العراقي، "رؤى في تحديات واقع الاقتصاد العراقي الراهن"، متاح على الانترنيت على الرابط التالي:
http://www.iraqicp.com/index.php/party/from-p/30360-2015-07-06-08-12-33
(2) جاسم الحلوائي، "محطات مهمة في تاريخ الحزب الشيوعي العراقي" (بغداد: دار الرواد المزدهرة، 2009).
(3) د.كاظم حبيب، "لمحات من عراق القرن العشرين"، 11 مجلدا (أربيل: دار أراس للطباعة والنشر، 2013).
(4) د . معن خليل عمر، "رواد علم الاجتماع في العراق" (بغداد: دار الشؤون الثقافية العامة، 1990).
(5) طه باقر، فاضل عبد الواحد علي، عامر سليمان، "تاريخ العراق القديم" (بغداد: جامعة بغداد، 1980).
(6) جورج لابيكا، "معجم الماركسية النقدي" (بيروت: دار الفارابي، 2003)
(7) محاضرة في الفلسفة، منشورات لجنة العمل الفكري المركزية.
(8) تاج السر عثمان، "المفهوم الماركسي للطبقة"، متاح على الانترنيت على الرابط التالي:
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=149366
(9) بحث عن الربيع العربي اعدته اللجنة الاقتصادية لغرب اسيا في الامم المتحدة.
(10) د. كمال مظهر أحمد، "صفحات من تاريخ العراق المعاصر – دراسات تحليلية" (بغداد: منشورات مكتبة البدليسي، 1987).
(11) د.كاظم حبيب، "آراء حول الطبقة الوسطى بالعراق وقضايا اقتصادية أخرى". متاح على الانترنيت على الرابط التالي:
http://altahreernews.com/inp/view.asp?ID=21171
(12) مجموعة من العلماء السوفييت، "التركيب الطبقي في البلدان النامية" (دمشق: وزارة الثقافة، 1972).
(13) د.كاظم حبيب، "لمحات من عراق القرن العشرين"...، مصدر سابق.
(14) المصدر السابق.
(15) مجموعة من العلماء السوفييت، "التركيب الطبقي في البلدان النامية.."، مصدر سابق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجلة "الثقافة الجديدة"
العدد 381
آذار 2016