مدارات

استذكار الحاضر دوما: كامل شياع / جاسم الحلفي*

ذات يوم وقبل بضعة اشهر من اغتياله، جاءني الصديق كامل شياع، ليحدثني عن ما آلت اليه اوضاع وزارة الثقافة، بسبب المحاصصة الطائفية، والتي عدها، كما نحن، نتيجة لأزمة النظام السياسي وانعكاسا لها. كان قلقا من تداعيات الازمة على جميع اوجه الحياة، اذ شكل القلق هاجسا كبيرا له عمّا تخبئه الأيام القادمة، وحاله كحال المفكر، بدأ بطرح اسئلته عن الجدوى من بقائه في الوزارة، وهو محاصر، دون ان يسهم في ارساء مشروعه الثقافي باتجاه الدولة المدنية الديمقراطية؟
ولأنه، وكما هو معروف، لا يتعنت برأيه، اقتنع حينما قلت له، ان مجرد وجود شخصية مثقفة، من طراز كامل شياع في الوزارة، هو مقاومة للأزمة، تشيع الامل في انفراجها، وتعضد المتطلعين الى الثقافة الانسانية الرحبة، ضد ثقافة التهميش والاقصاء والانعزال.
ولأنه مثقف عضوي، كما هو تعريف المفكر اليساري الايطالي غرامشي، لا ينظر للأوضاع من برج عال، بل ينغمس في هموم الناس وقضاياهم، اردف سؤالاً آخر: وهل اكتفي بمجرد التواجد دون فعل؟ قلت له ( ان اهل مكة ادرى بشعابها) أي انت المثقف، وانت الذي ساهمت مع زملائك في وضع برنامجاً شاملاً لإعادة بناء المؤسسة الثقافية ودورها، عليك ان تعمل، وإن عم الخراب.
اصدقائي:
اذا لم يكن بين اهتمامات كامل وهمومه، منطلق شخصي بحت، الا بالحدود المؤثره على الوضع العام، والاشتراك في التغيير، عبر وضع بدائل ممكنة التحقيق، تأخذ بالاعتبار الواقع الملموس بالزمان والمكان، أليس هو مثقف عضوي من الطراز الذي اراده غرامشي؟
فكامل لم يعش بعيدا عن هموم الناس وحاجاتهم، ولم ينشغل بموضوع الثقافة، الا باعتبارها اهم ادوات بناء الوعي وتنمية قدرات التحسس للجمال والاعمار والتطلع للحريات والتمتع بالحقوق، وليس من الطراز الذي ينأى بنفسه عن الاهتمام بالأوضاع العامة، وينزوي في نقاش كجدل أهل بيزنطة في شأن الملائكة: ذكور هم أم اناث؟ بينما مدينتهم على وشك السقوط أمام جيوش القائد العثماني محمد الفاتح. لذا لا حاجة لنا للتأكد من ان قضية إصلاح الأوضاع وتعمير البلاد وتنمية الموارد وتحسين الخدمات، وتحقيق العدالة الاجتماعية هي من بين القضايا التي شغلته.
هذه الاستذكارات، وغيرها الكثير، تتطلب منا نحن الذين نرفض الواقع المر ألا نقف متفرجين بل أن هناك دوراً ينبغي لنا أن نؤديه.. فالدماء التي سفكت هي دماء العراقيين، والمال الذي سرقه الفاسدون هو المال العام، مال العراقيين. ولا يجوز أن يتواصل هدر دم وأموال العراقيين من اجل أن يحقق هذا السياسي أو ذاك أهدافه «الطموحة» التي هي ليست أهدافنا نحن العراقيين الراغبين في بناء وطن جميل.
اصدقائي الاحبة:
ستبقى أسئلتنا مفتوحة، مشرعة، تطالب بالكشف عن منفذي الجريمة، وغيرها من الجرائم التي طالت المواطنين الأبرياء، في الأسواق وفي الشوارع وفي المعامل وعلى الأرصفة، وعمال المساطر، وقادة العمل والفكر والضمير.
الى متى يبقى القاتل مجهولاً؟ نعم ليس الإرهابي، الذي تطاول على احد اهم قاماتنا الثقافية، وحده مجهولاً في العراق، انما مصير البلد ومستقبله أصبح مجهولا أيضا. ولا احد يتكهن بمستقبله القريب، مادام المتنفذون في حال عناد شديد، وصراعهم المحموم من اجل السلطة وامتيازاتها وما توفره لهم من جاه ومال ونفوذ، على حساب دم العراقيين والجوع المتفشي في احزمة الفقر، في الحواضن الهامشية، احياء التنك.
نعم ليس كامل شياع وحده الذي لم تتمكن الحكومة العراقية من إعلان إلقاء القبض على قاتليه، ولكي نطرح ذلك بموضوعية، دعونا نستثني من استشهد عبر التفجير والتفخيخ الذي لا يفرق بين هذا وذاك، ونستثني أيضا من استشهد بنيران طائشة، وكذلك ضحايا الإرهاب، ونستثني... ونستثني.... ولكن كيف يمكن أن نستثني من اختار بدقةٍ الشهيد القائد و(البرلماني) وضاح عبد الأمير «سعدون» هدفا للاغتيال؟ وكيف نستثني منفذي العملية الوحشية في تصفية النقابي هادي صالح، بعد ربطه وتعذيبه، وكيف نستثني قتلة الصديقين ياسر عبود وشاكر جاسم، في مقر الحزب الشيوعي العراقي ببغداد الجديدة، وكيف نستثني القتلة، على خطى أقرانهم السابقين «فدائيو صدام» وهم يوغلون في تصفية العزيزين ياس خضر حيدر وعبد العزيز جاسم في مدينة الثورة؟ كيف نستثني قتلة ابن الموصل الحدباء مثنى محمد لطيف؟ وكيف نستثني قتلة القائد النقابي الميداني نجم عبد جاسم ؟
كيف نستثني كل هؤلاء؟ وكيف نكف عن المطالبة بالكشف عن مصير العزيز شاكر الدجيلي أحد ابرز نشطاء التضامن مع الشعب العراقي وقت الحصار؟ وكيف نتهاون في المطالبة بالكشف عن مصير الدكتور شاكر اللامي الداعي إلى صياغة أدب يلتصق بالهمّ اليومي للمواطن؟
لا يمكن استثناء قاتل من الملاحقة، ولا سبيل غير القانون. فان كانت الدولة دولة المؤسسات والقانون، فان من واجبها الإمساك بالقتلة، دون أن تستثني أحدا منهم، وان لا تميز بين شهيد وشهيد، أو بين فقيد وفقيد!
ذات يوم قال الشاعر المبدع عواد ناصر: هل أعطيك أرقام السيارات التي لا تحمل رقما؟ مستهجنا سؤال أزلام وزارة الداخلية العراقية، حينها، عن أرقام السيارات التي استخدمها القتلة وهم ينفذون جريمتهم البشعة المتمثلة باغتيال الشهيد شاكر محمود في بداية السبعينيات. فمن أين يأتي المشتكي بأرقام سيارات لا تحمل أرقاما، كي يثبت حقه!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* القيت في جلسة استذكار الشهيد أمس الأول الجمعة في بغداد.