مدارات

كامل شياع .. المثال المضيء / رضا الظاهر

الأحزان على رحيل كامل شياع لابد أن تكون، الآن، قد هدأت، إذ وجدت سبيلها الى الأعماق، غير أن الاحساس بفقدان إنسان نادر المثال، قدمت سيرة حياته صورة ساطعة للتفاعل بين المثقف والسياسي، بعيداً عن ابتذال الآيديولوجيا، وقريباً، دائماً، من القيم الجمالية الرفيعة للثقافة الروحية، هذا الاحساس لم ولا ينبغي أن يهدأ.
لا ريب أن الظلاميين أرادوا، بقتل كامل، قتل النموذج الذي منه يرتعبون، والأمل الذي يخشون، والعقلانية التي يريدون إبادتها .. أما الأسئلة حول مصرعه فيجيب عليها تألقه كمثقف سعى الى الابتعاد عن ازدواجية الفكر والسلوك.
سأحاول أن أوجز حديثاً عن جانب من آخر لقاء لي مع كامل، وكان قبل حوالي ثلاثة أشهر من استشهاده. فقد اعتاد كامل أن يأتينا من منفاه البلجيكي الى المنفى اللندني، ولم يكن يطيل المكوث في الأخير.. وقد ظل على هذه العادة حتى بعد قراره العودة من منفاه الى بغداد.
على مدى ثلاث ساعات في مساء رائق في حانة بحي هامرسميث غرب العاصمة البريطانية تحدثنا، من بين أمور أخرى، عن مقاله الساطع (عودة من المنفى)، حتى لكأننا كنا أمام هاجس موته .. لكنه كان، كما تجلى في محياه وفي روحه، هاجس التشبث بالضفاف.. غالباً ما كان يبدو رفيق أرق في مجابهة أسئلة الواقع وهو يجسد موازنة قلقة بين الهم اليومي والمرتجى الجمالي.
تجادلنا بشأن منهجنا الذي يحمل عنوان: إعادة النظر، بمعنى إعادة القراءة .. رؤية الماضي بعيون جديدة، والدخول الى نص قديم من وجهة نقدية جديدة. وما أزال أتذكر إنه قال: لا يمكن إنجاز مثل هذا الكشف الا عبر وعي مختلف جذرياً عن الوعي السائد الذي يصوغ الأفكار.. فأكملت قائلاً: لا يمكن اختراق النظام المغلق للثقافة السائدة الا عبر وجهة نظر ترتاب بقيم هذه الثقافة وافتراضاتها، سعياً لنقدها والاطاحة بها..
تحدثنا عن نظرة جديدة في نقد الرأسمالية في سياق مساهمة متواضعة في إعادة قراءة فكرنا الماركسي .. وتحولنا الى حديثنا الأثير عن جماليات الأدب والفن.. والتباسات ما بعد الحداثة .. والرواية التي كانت له نظرات عميقة فيها.. والموسيقى الكلاسيكية التي أحبها.. ما زلت أتذكر الى أي حد كان، في لقاء سابق، مرهف الحس، ونحن نستمع الى كونشرتو الكمان لباغانيني .. كان يصغي بالصفاء ذاته الذي يتحدث به: عميق الفكرة .. جلي العبارة .. رفيع اللغة .. شفاف الروح .. كثير التواضع .. وفيه فيض من ذلك الحياء الذي سماه ماركس عاطفة ثورية..
تواعدنا على اللقاء قريباً في بغداد لكي نكمل جدالنا حول المشروع الثقافي في العراق، وإعادة الاعتبار للثقافة ومبدعيها .. وكان هذا أحد محاور حديثنا اللندني .. وما كنت أظن أن لقاء مرتقباً يمكن أن يتحول الى كابوس.. من منا كان يظن أن بغداد يمكن أن تتحول من حلم الى كابوس ؟
انطفأ مشعل كامل شياع الذي كان يجول في شوارع بغداد فيرعب الظلاميين القتلة .. غير أن هذا المشعل سيظل في أوراحنا ينبوعاً للتنوير .. وأفقاً للتغيير..
هل كان كامل واهماً ؟ لا أستطيع الا أن أراه بصورة قديس حالم في زمن تكسرت فيه الاحلام ..
اختار كامل شياع العراق .. فخسر أغلاله، ليربح عالماً بأسره ..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*مساهمة قدمت في حفل استذكار الشهيد كامل شياع الذي نظمته مؤسسة الروسم يوم الجمعة الثالث والعشرين من آب 2013على قاعة فندق قصر السدير ببغداد