مدارات

ملاحظات أولية حول طبيعة بعض الفئات المهيمنة في عراق ما بعد2003 / د. صالح ياسر


شهدت السنوات الأخيرة تحولات نوعية عميقة في البنية الاجتماعية والطبقية، وتزايد الوزن النوعي وأهمية العديد من الفئات، وتعاظم دورها في تحديد اتجاهات "التطور"، ولكن بالرغم من الدور الذي بدأت تلعبه هذه الفئات فهي ما زالت بدون تحديد واضح. ويبدو أن هناك فجوة بين الواقع الملموس لهذه الفئات وبين رؤية الفكر النظري لها، الذي بدا احيانا عاجزا عن توصيفها بدقة وتحديد "هويتها "، وكان من إحدى "ثمرات" هذه الفجوة بين الواقع وفكر الواقع ظهور العديد من المصطلحات، كلها تريد أو تحاول توصيف هذه الظواهر والعمليات منهجياً، ولهذا تزداد الحاجة إلى دراسات أكثر انضباطا - منهجية - للتكوينات الاجتماعية ولتحليل أكثر ملموسية للبنية الاجتماعية والوزن النوعي لكل طبقة وفئة بشكل صحيح.
وفي اطار التحضيرات للمؤتمر الوطني العاشر للحزب الشيوعي العراقي ثمة ضرورة للعودة مجددا الى بعض المفاهيم كأدوات تحليلية في محاولة للتدقيق في مدلولاتها النظرية والسياسية العملية ومدى قدرتها على تفسير الواقع.
جردة سريعة
عند تحليله لطبيعة النظام الحاكم في حينه، بيّن المؤتمر الوطني الرابع للحزب (تشرين الثاني/ نوفمبر 1985) كيف تحولت الفئة الحاكمة الى "سلطة البرجوازية البيروقراطية والطفيلية المرتبطة بالدولة والشركات الرأسمالية الاحتكارية".
وبالمقابل أكد المؤتمر الخامس (1993) على هذا التحليل وأعتبره "ما يزال يحتفظ بصحته" حيث أنه "يفسر سياسات النظام في النصف الثاني من الثمانينات... وما ينتهجه... من سياسات تستهدف تعزيز مواقع الطغمة الدكتاتورية الحاكمة وتأمين مصالح الفئة البرجوازية الطفيلية والبيروقراطية وتجار الحرب".
أما في المؤتمر السادس (1997) فقد تم توصيف السلطة القائمة على انها سلطة "دكتاتورية فردية استبدادية مطلقة ذات طبيعة شوفينية تعتمد اساليب فاشية وممارسات طائفية في الحكم، وتتسم بنزعة عدوانية توسعية إزاء الاشقاء والجيران".
من جهته أكد المؤتمر الوطني السابع (2001) على هذا الاستنتاج ولكنه من جهة اخرى أشار الى ان الفترة التي تلت المؤتمر السادس شهدت اتخاذ طائفة من الاجراءات الحكومية لحساب "منتسبي العائلة الحاكمة وحاشيتها وتجار الحصار والطفيليين الآخرين" الامر الذي ادى الى نتيجتين مهمتين:
1. الاولى وتتمثل بتعميق "التفاوت والاستقطاب الاجتماعيين في البلاد".
2. الثانية وتتمثل بتكريس "هيمنة البرجوازية الطفيلية على مقدرات البلاد ومصالح المجتمع"، والمهم في النتيجة الثانية هو أن الائتلاف الطبقي السابق (ائتلاف البرجوازية البيروقراطية الطفيلية) شهد تحولا في بنيته فقد بدأت البرجوازية الطفيلية تتصدره خلال هذه الفترة بعد أن كانت البرجوازية البيروقراطية قد هيمنت عليه لعدة عقود، وسيكون لهذا التحول نتيجة مهمة ستلقي بثقلها على وجه التحولات اللاحقة.
اما في المؤتمر الوطني الثامن (أيار 2007)، وفي معرض تحديده لاتجاهات التحولات الطبقية – الاجتماعية في المرحلة التي تلت سقوط النظام الدكتاتوري في 9 /4 /2003 اشار التقرير السياسي الصادر عن المؤتمر المذكور الى ان هذه الفترة شهدت ازاحة "القوى والمجموعات الاجتماعية التي كانت تحظى بدعم النظام المباد ورعايته، من مواقع النفوذ والتأثير السياسي والاقتصادي، وفقدت الامتيازات التي كانت تنعم بها والمصالح التي كانت لها داخل العراق، وبالمقابل ظهرت فئات وشرائح اجتماعية جديدة تتداخل انشطتها التجارية مع عمليات السطو والنهب التي ترافقت وانهيار النظام والدولة العراقية"، ويضيف التقرير، ان هذا التحول "اتخذ طابعا طفيليا، ذلك ان النشاطات المذكورة تتركز بصورة رئيسية في مجال التداول وليس في مجال الانتاج وخلق القيم، وتحصل الفئات المشار اليها على مداخيل وتجني ارباحا من تلك الانشطة القائمة على الوساطة، فضلا عن الانشطة اللاشرعية كالتهريب وفرض الاتاوات والاستحواذ على ثروات الاخرين"، ويستنتج التقرير "ان الفئات البرجوازية الطفيلية التي نمت بعد سقوط النظام السابق هي امتداد لتلك التي كانت قد ترعرعت في كنفه، ...وتقوم شرائح من هذا النوع بدور حلقة وصل بين اقسام من رأس المال الدولي في الخارج، وبين عمليات تفكيك وتصفية ركائز العمليات الانتاجية وانتشار الفساد الواسع واعمال السلب والنهب في الداخل".
وفي ما يخص البرجوازية البيروقراطية فقد اشار التقرير الى بعض خصائص نموها في الظروف الجديدة (أي بعد 2003) ومنها "اكتساب قشرتها العليا، من جديد، ملامح الطائفية – المناطقية وكون مراكزها الوظيفية تعتمد على علاقاتها ببعض الكتل والجماعات الحزبية، ما يعني ان تماسكها الداخلي يقوم على الانتماء الى الطائفة او على رابطة المنطقة الجغرافية، بدلا من رابطة البناء الاقتصادي".
وفي المؤتمر التاسع (أيار 2012)، وفي اطار تحليل ما شهده ويشهده المجتمع العراقي من حراك في بنيته وتركيبته الطبقية ووزن وثقل مختلف الطبقات والفئات الاجتماعية، اشار التقرير السياسي الصادر عن المؤتمر الى ما يلي: "ففي حين تستعيد الفئات الوسطى دورها تدريجيا، لا سيما العاملة منها في الدولة، يتعزز دور الكومبرادور التجاري والفئات الطفيلية والبيروقراطية، على حساب الكادحين وذوي الدخل المحدود".
اتخذ هذا التحول - بين ما اتخذ - طابعا طفيليا/ بيروقراطيا/ كومبرادوريا، ولعل سؤالا يطرح نفسه وهو لماذا اتخذ هذا التحول هذه الوجهة دون غيرها؟ ذلك أن النشاطات المذكورة تتركز بصورة رئيسية في مجال التداول وليس في مجال الإنتاج وخلق القيم، وتحصل الفئات المشار إليها على مداخيل وتجني أرباحاً من تلك الأنشطة القائمة على الوساطة (راسمالية المحاسيب) فضلاً عن الأنشطة اللاشرعية كالتهريب وفرض الإتاوات والاستحواذ على ثروات الآخرين.
البرجوازية الطفيلية
ولنبدأ بمفهوم "البرجوازية الطفيلية" في محاولة للإجابة على سؤال مهم هو مدى مشروعية هذا المفهوم أولاً؟ وهل أن مفهوم "البرجوازية الطفيلية" في بلادنا يرتقي الى المفهوم العلمي الذي يمكن تبنيه في فهم وتحليل الاوضاع الإقتصادية والإجتماعية الراهنة أم هو مفهوم دعائي وسياسوي، لا ينفذ الى جوهر الظواهر العينية ولا يصلح أن يكون أداة تحليلية سليمة لتشخيص الواقع الاجتماعو/ الاقتصادي الراهن، وهنا يمكن طرح مجموعة من الأسئلة من بينها: هل أن تطور "البرجوازية الطفيلية" في العقود الاخيرة يجعل منها جزءاً من "الإئتلاف الحاكم"؟ ثم هل هي بنية طبقية محددة أم أنها مجرد أنشطة وممارسات سياسية واقتصادية وايديولوجية؟ هل هي شريك في السلطة وما هي حدود هذه الشراكة، وهل يمكن لها أن تهيمن على السلطة؟ والسؤال الصعب – هل هناك "نمط انتاج طفيلي" كي نقول أن هذه الفئة لها سند قوي في قوى إنتاجية، ومن ثم تصبح مهيمنة؟
في مسعى الاجابة على هذه الاسئلة الحارقة، وغيرها، شهدت العديد من البلدان النامية ومنها بلداننا العربية خلال العقود الثلاثة الاخيرة جدلاً واسعاً يهدف الى تدقيق هذا المفهوم والتأكد من شرعيته، أو عدمها، وبدون الدخول في التفاصيل يمكن فرز اتجاهين رئيسيين هيمنا على المناقشة هما:
- الاتجاه الأول، وهو الاتجاه الرافض لاستخدام مفهوم "البرجوازية الطفيلية"، انطلاقا من قناعة ترى ان المفهوم المذكور غير شرعي من الناحية العلمية، ويستند هذا الاتجاه في رفضه هذا على إجراء مقاربة للمفهوم تقوم على الاطروحات اللينينية حول الطفيلية، وأساسا التحليل الذي صاغه (لينين) حول الطفيلية ضمن كتابه الهام (الامبريالية أعلى مراحل الرأسمالية)، وبحسب هذا الاتجاه فإن (لينين) ذكر الطفيلية مراراً، جاعلا إياها صفة الرأسمالية (الرأسمالية الطفيلية) والإمبريالية أيضا (الإمبريالية الطفيلية)، كمترادفين، وبدون الدخول في التفاصيل يمكن الاستنتاج من هذا الترادف أن الطابع الطفيلي إنما ينصرف الى الرأسمالية الغربية في مرحلة الإمبريالية، مرحلة الاحتكارات واقتسام العالم بين الشركات الاحتكارية والدول الكبرى.
وإذا تمت إعادة بناء (تركيب) الاطروحات اللينينية أعلاه فإنه يمكن الاستنتاج بأن السمة الطفيلية هي خلاصة تركيبة للتفاعل بين رأس المال المالي والدولة الريعية والاستغلال الدولي، كما أن (لينين) استخدم هذا التعبير لوصف مرحلة من تطور الرأسمالية لكنه لم يستعمله لوصف طبقة معينة.
إن هذا المأخذ يبدو، في جانبه المنهجي صحيحا، إذ أنه يطرح بالتحديد، قضية الاختلاف وضرورة انتاج معرفة عنه، لكنه ينسى، كما يبدو، أن للحقل النظري الخاص الذي نقل عنه هذا المفهوم طابعا كونيا، هو الطابع الكوني نفسه الخاص بنمط الانتاج الرأسمالي، في هذا الإطار من تكوّن النظام الرأسمالي كنظام عالمي، ولا سيما في طوره الامبريالي.
وهناك من الباحثين من يعتقد بأن هذا التعبير (الطفيلية) هو تعبير هلامي، ولهذا فإن الباحثين الذين أنتجوا واستخدموا مفهوم (الطفيلية) كانوا مضطرين الى إضافة جملة من الاستدراكات والتحفظات على تحديداتهم. ولهذا يتساءل هؤلاء عن معنى "الطفيلية"، وهل تشمل نشاطا دون آخر، أو بتعبير أدق هل تعني النشاط الذي لا يساهم في عمليات الإنتاج المادي؟ وإضافة لذلك هل "الطفيلية" وصف لفئة دون أخرى؟ ولهذا يعترض هؤلاء على تعبير (الطفيلية) لأن المطلوب، بحسب هؤلاء، هو توصيف سمات التطور الرأسمالي في "العالم الثالث" في ظرف مثل هذا وليس صفات الطبقة نفسها، إذا سلّمنا بأن البرجوازية تنطلق من تحقيق أقصى ربح ممكن من خلال نشاطها، وإذا كان الإطار العام للنشاط الاقتصادي في بلد ما يجعل من المقاولة، على سبيل المثال، النشاط الأكثر ربحية أليس هذا النشاط عقلانيا من وجهة نظر البرجوازية؟ وبالتالي ينطرح تساؤل اخر: من هو الطفيلي؟ أهو إطار النشاط العام الذي يشترط كل المجتمع عمليا في ظل التبعية؟ أم هو طبقة (أو فئة) معينة ضمن الطبقات الأخرى؟
- الإتجاه الثاني، وهو الاتجاه الذي يعتقد بمشروعية استخدام هذا المفهوم كأداة تحليلية لتوصيف التطور الملموس لفئة اجتماعية محددة وبروزها في البنية الاجتماعية في بلدان عديدة، وتوسع نشاطها ومسعاها للسيطرة على توجيه الاقتصاد والسياسة في هذه البلدان.
وينطلق هذا الإتجاه من حقيقة أن ملاحظة الواقع وكذلك من الدراسات التي أجريت في بلدان عدة تبين أن هناك نمواً سريعاً ومتعاظماً لفئة اجتماعية، تقدر ثرواتها بأرقام "فلكية" ومن دون أن يكون لهذه الثروات وجود مادي ملموس في أصول إنتاجية.
ومن بين العوامل التي ساعدت على هذا النمو السريع لهذه الفئات يشار الى إرتباطها بالفساد في قمة السلطة وإختراقها لأجهزة الدولة والقطاع الحكومي وتمكنها بالفساد والإفساد أن تسخر موارد الاقتصاد العينية والمالية لخدمتها وتحقيق ثرائها، إضافة الى الإستفادة من الإختلالات في الاقتصاد وانتشار المضاربات والتهرب من الضرائب الجمركية والضرائب على الدخول.
وقد تمكنت هذه الفئات بحكم نفوذها السياسي المتزايد من ناحية، وبفضل ثرائها الاسطوري المتنامي، وسيطرتها على بعض أوجه النشاط الاقتصادي من ناحية أخرى أن تهيمن على المفاصل الاساسية للإقتصاد والمجتمع.
وبهدف تعميق المعرفة بالظاهرة الطفيلية في الاقتصاد يلح أنصار هذا الاتجاه على ضرورة التفرقة بين عدة مفاهيم، الأول ما يمكن تسميته بـ "الأنشطة الطفيلية"، والثاني ما يمكن تسميته بـ"الدخول الطفيلية" والثالث ما يمكن تسميته بـ "عناصر وفئات الرأسمالية الطفيلية".
ويجري تعريف "النشاط الطفيلي" على أنه "نشاط ناقل للثروة ومجاله الاساسي حقل التبادل... فهو نشاط غير منتج للثروة أو القيمة، وممارسته تتم في المقام الاول خارج حقل الانتاج".
إن مصطلح "الأنشطة الطفيلية" يعتبر مفهوما أعم وأوسع، ويغطي عددا من الأنشطة الاقتصادية والممارسات الاجتماعية التي ينخرط فيها أقسام واسعة من الناس على اختلاف مواقعهم الاجتماعية.
أما "الدخول الطفيلية" فتعرف على أنها تلك الدخول التي تتولد ".... من اعمال وساطة في معاملات يكون طرفها القطاع العام من جانب والقطاع الخاص من جانب آخر، فقد يكون طرفها الآخر مؤسسة أجنبية في الخارج تتعامل مع القطاع عن طريق هذه الوساطة... وقد تنشأ هذه الدخول عن اعمال (مقاولات الباطن) التي يعهد بها القطاع العام الى القطاع الخاص".
وحين يجري الحديث عن "الرأسمالية الطفيلية" فيجب تركيز الانتباه وبذل جهود أكبر لجهة تمحيص واختيار هذا المفهوم وماذا يقصد به تحديدا، ويجري التساؤل حول هل برزت فئة رأسمالية جديدة ومتميزة عن كافة الفئات والشرائح الرأسمالية التقليدية المتعارف عليها بالتصنيفات الطبقية (رأسمالية زراعية، رأسمالية تجارية، رأسمالية صناعية... الخ) أم أن مصطلح "الرأسمالية الطفيلية" هو تسمية جديدة لفئات رأسمالية قديمة نعرفها جيدا ونتعايش معها منذ فترة غير وجيزة؟
وإذا تم توصيف "الرأسمالية الطفيلية" على أنها فئة لها خصائصها التكوينية والتشريحية المتميزة يبرز على الفور سؤال آخر: هل هذه الفئة (الرأسمالية الطفيلية) هي الفئة المسيطرة (أو المهيمنة) على الاقتصاد والمجتمع أم لا؟ إذا كما تشير التجربة فقد توجد وتتبلور في المجتمع "شرائح" رأسمالية طفيلية يمكن رؤيتها بالعين المجردة، دون حاجة لمجهر، ولكن قد تظل فئات هامشية (غير مركزية) في تبيان مجمل التشكيل الاجتماعي القائم، عندها ينطرح تساؤل آخر: أين توجد "الرأسمالية الطفيلية" بالدقة؟ هل هي تقع خارج "العملية الانتاجية"؟ وما هي حدود هذه العملية؟
في مسعى الاجابة على هذه الاسئلة يمكن القول أن المجال الرئيسي لنشاط "الرأسمالية الطفيلية" يوجد في مجال التداول وليس في مجال الانتاج وخلق القيم.
إن الأنشطة والدخول الطفيلية لا ترتبط بالعملية الانتاجية، وإنما ترتبط بعمليات الوساطة والتوزيع والتداول. ويعني ذلك أن الارباح التي تجنيها "البرجوازية الطفيلية" ناتجة عن نشاط لا يضيف شيئاً الى الانتاج، وهنا يجب أن لا نخلط بين هذه وبين التجارة، التجارة هي القيام بوظيفة محددة، ولكن هناك أنشطة طفيلية بمعنى أنها لا تضيف شيئا الى عملية الانتاج والتوزيع ولا تقوم بأي وظيفة اقتصادية.
يتخذ رأس المال العامل في المجالات التي تنشط فيها البرجوازية الطفيلية سمات محددة ويقوم على استغلال النفوذ وممارسة الفساد، واستخدام قوى "غير اقتصادية" في التعامل وتحقيق الدخول والارباح الطائلة، ويهيمن عليه طابع المضاربة الواسعة.
ويلاحظ أن هناك درجة عالية من السيولة في حركة رأس المال التجاري والمضارباتي، إذ ينتقل أصحاب رؤوس الاموال الطفيلية من نشاط الى آخر بسرعة شديدة سعيا، وراء أعلى ربح ممكن وأعلى معدل سرعة لدورة رأس المال، وثمة ظاهرة متميزة يجب ابرازها وهي "السيولة البالغة" التي تنتقل بها بعض العناصر من مراتب "البروليتاريا الرثة" الى مراتب الطفيلية الجديدة.
كما يمكن القول أن "الشرائح" الرأسمالية الطفيلية بامكانها أن تكون حلقة وصل بين أقسام هامة من رأس المال الدولي في الخارج، وبين عمليات تفكيك وتصفية ركائز العمليات الانتاجية وانتشار الفساد الاقتصادي الواسع وقيم السلب والنهب في الداخل.
ومن جهة أخرى يتعين التأكيد على أن الطفيلية ليست ظاهرة قاصرة على القطاع الخاص أو النشاط الخاص، بل إنها تمتد الى القطاع الحكومي، ويعني ذلك أن الطفيلية مرتبطة بالشرائح المختلفة للبرجوازية.
كما ويمكن الحديث أيضا عن نمو "الطفيلية" من خلال القطاع العسكري، وخاصة في بلد كالعراق يتمتع بموارد اقتصادية كبيرة.
وبالمقابل يلاحظ ان "البرجوازية الطفيلية" بحكم طبيعتها تبدد الفائض الاقتصادي في صرف واستهلاك بذخي أو تهربه للخارج، فخلال الفترة التي تلت 9/4/2003 حققت البرجوازية الطفيلية ارباحا سريعة وهائلة عن طريق الفساد ونهب اصول قطاع الدولة والتداول السريع لرأس المال. ومن المؤكد أن هناك اقساما منها سوف تنتقل الى ممارسة انشطة انتاجية، ومخاطر ذلك انه لن يكون هناك فرق جوهري بين النشاط الرأسمالي الطفيلي والنشاط الرأسمالي الانتاجي، باعتبارهما من مكونات الرأسمالية بـ "طبعتها العراقية الجديدة"! ولكن الخطورة تكمن في الدور القيادي للنشاط الطفيلي، مما يترك البلاد لقمة سائغة للمؤسسات الرأسمالية الدولية ويفاقم تبعية الاقتصاد الوطني الى هذه المؤسسات.
ومن المهم ونحن نحلل هذه الفئة أن نتناولها ايضا في تطورها التاريخي باعتبارها احد روافد "الرأسمالية" التي نشأت وتطورت خلال فترة النظام الدكتاتوري وتعاظم دورها على وجه الخصوص خلال سنوات الحصار حيث ادت العقوبات الدولية الى منع تصدير النفط الخام، وبالتالي تقلص الى حد كبير تدفق الريوع النفطية مما أدى الى تقلص دور البيروقراطية المدنية والعسكرية وتعاظم دور البرجوازية الطفيلية التي انتعشت على وقع اتفاق "النفط مقابل الغذاء"، ونهب اصول القطاع الحكومي عن طريق "الخصخصة" التي اجراها النظام الدكتاتوري بدءا من اواسط الثمانينات من القرن الماضي.
كما ان الفترة التي تلت 2003 شهدت ظاهرة تنامى دور البورجوازية الطفيلية التي باتت تضم شرائح "رجال الأعمال الجدد" الذين عمل بعضهم مقاولين ثانويين للقطاع الحكومي وقبلها مع (مؤسسات اعمار العراق) التي انشأها الاحتلال، أو في مجال الوساطة في عقود التجارة الخارجية التي كانت "العمولة" تشكل نسبةً كبيرةً من قيمتها الإجمالية، وخلال هذه الفترة نشأ التحالف "غير المرئي" بين "النخبة" البيروقراطية وبين الفئة الطفيلية في إطار ديناميات العلاقة الزبائنية بينهما وتعاظم دور الفساد حتى أصبح "مؤسسة" يشار لها بالبنان!
البرجوازية البيروقراطية
من جهة اخرى جرت محاولات عديدة لصياغة المفهوم النظري للبرجوازية البيروقراطية في العديد من البلدان، وقد سعت تلك المحاولات لبناء عناصر للتحليل تساهم في الكشف عن "العوامل الموضوعية" التي أدت الى "ميلاد" هذه الفئة الاجتماعية ونموها واتساعها المذهل وسيطرتها، خلال فترات قصيرة، على كامل البناء الاجتماعي في بلدان عدة. ولهذا لن ننشغل في تفاصيل كثيرة، بل سنحاول تقديم بعض الملاحظات المكثفة التي بامكانها أن تساعد في فهم هذه الفئة والاشكالات المرتبطة بها.
في البلدان التي وصلت فيها البرجوازية الى السلطة يعتبر القطاع الحكومي بطبعه رأسمالية دولة، نوعا من أنواع الملكية الرأسمالية الجماعية، ذلك لأن البرجوازية استخدمت وتستخدم هذا القطاع من أجل خلق القاعدة الاقتصادية لتركيز سلطتها وتطورها كـ "طبقة مستقلة"، ومع نمو "المؤسسات العامة" تتضخم أجهزة الدولة وتتعدد الاجهزة الإدارية، وقد اصطلح على هذه المجموعات "الحاكمة" مصطلح البيروقراطية التي تعتبر ظاهرة متميزة في معظم البلدان "النامية"، وتستغل الدواوينية البيروقراطية مركزها في الخدمة والوظيفة لا لإبتزاز المداخيل القانونية بصورة رواتب عالية فحسب، بل وأيضا لإبتزاز المداخيل غير القانونية (الرشوات، العمولات، ..... الخ)، ويصبح جهاز الدولة وسيلة هامة لتكوين البرجوازية البيروقراطية، والمقصود هنا تكوين البرجوازية من بيئة الدواوينية المفسدة.
وبمشاركة الدولة في النشاط الانتاجي، واتساع القطاع الحكومي، تنمو القاعدة الاجتماعية لهذه الفئة، بحيث تضم جماعات مهنية متباينة، كالبيروقراطية والتكنوقراط من ضباط المؤسسة العسكرية وموظفي جهاز الدولة وغيرهم، أولئك الذين يستغلون الامكانيات المتوفرة، في "تطوير" المجالات غير الانتاجية والخدمات مما يؤدي الى تضخم الجهاز الاداري الذي تقبع على قمته اعداد مضطردة النمو من البرجوازية التي تلعب السلطة السياسية دور رأس المال بالنسبة لها، باعتبارها (أي السلطة السياسية) وسيلة استقطاع جزء كبير من الفائض الاقتصادي، بل وطريقا الى تحقيق تراكم رأسمالي يتيح لهذه الفئة أن تشارك القطاع الخاص، بحيث ينشأ تداخل بين مصالح بعض اطراف هذا القطاع وبين البرجوازية البيروقراطية سواء عن طريق مشاريع مشتركة، أو خاصة، أو بواسطة الصفقات والاتفاقات غير المعلنة وغير المشروعة، وتكون النتيجة الطبيعية هي الاندماج، عبر جهازها البيروقراطي، مع الرأسمال الخاص، ويحدث "عقد قران" طبقي من نوع جديد، وتتم عملية "طبيعية" للتركز الرأسمالي.
إن الدخول العالية لكبار موظفي الدولة وكبار العسكريين والفئات العليا من التكنوقراط، أي تلك الشرائح التي تحتل مركز القيادة واتخاذ القرارات في الدولة ومواقع الانتاج وتحصل على تلك الدخول من خلال الدورة الثانية (اعادة توزيع) لتوزيع الدخل القومي، تستعمل دخولها عادة على شكل توظيفات رأسمالية مباشرة في قطاع التداول وفي فروع مختلفة من الانتاج المادي، وبفضل توفر الشروط الاجتماعية/ الاقتصادية، يتحول رأس المال البيروقراطي الى رأسمال تجاري وصناعي، وهكذا من ثم توجد امكانية موضوعية لنشأة رأسمالية بيروقراطية تتحد مع رأس المال الطفيلي الكبير وتحدد مصائر تطور البلد المعين، وهو ما حدث في بلادنا في حقبة النظام الدكتاتوري وما جري لاحقا منذ 2003.
وبسبب الطابع الريعي للاقتصاد العراقي وتعاظم العوائد النفطية، بيّنت التجربة التاريخية ان استكمال مظاهر السلطة السياسية لا يتم عادة إلا من خلال السيطرة على الجهاز البيروقراطي وضمان ولائه وانقياده لمتطلبات النظام السائد في البلاد، وبالتالي فإن البيروقراطيين يحتلون عموما مواقع استراتيجية تؤهلهم للاستئثار بقدر متعاظم من السلطات والنفوذ السياسي.
وكما تشير التجربة التاريخية فإن البرجوازية البيروقراطية تحاول ممارسة السلطة والحكم مقدمة نفسها على أنها قوة فوق الطبقات وبعيدة عن الصراعات الناشئة في البنية الطبقية، وتحكمها لصالح المجتمع، بينما هي في واقع الحال تحكم لمصلحة البرجوازية كطبقة مهيمنة، للحفاظ على وتوطيد علاقات الانتاج الرأسمالية، غير أن تحررها من الارتباط العضوي بأي من "الاجنحة" المتعددة للبرجوازية، يتيح لها استخداما "أكثر دهاءً" ويمكّنها من القدرة على المناورة على صعيد داخلي وحتى على صعيد خارجي، إن هذه الميزة للبرجوازية البيروقراطية وقدرتها على التصرف بمرونة كبيرة قد تدفع البعض الى اعتبارها "طبقة مستقلة" وهذا غير دقيق من الناحية المنهجية. فمن المعلوم أن الطبقة لا تتحدد فقط بالمشاركة في انتاج وتوزيع الدخل القومي، بل تتحدد كذلك بدور مستقل في البنية الاجتماعية، وبجذور مستقلة في اسس المجتمع الاقتصادية، كما أن كل طبقة تبلور اشكالها الخاصة في الملكية، في حين نلاحظ أن البيروقراطية لا تملك أيا من هذه الملامح الاجتماعية وليس لها موقع مستقل في صيرورة الانتاج والتوزيع، ولا جذور مستقلة في الملكية، فوحدتها لا تستند الى دورها في الانتاج وعلاقتها بوسائل الانتاج، وإنما الى وظيفتها الادارية التي تستمد امتيازاتها منها، أما وظائفها فعائدة في جوهرها، الى التقنية السياسية للسيطرة الطبقية.
إن حضور البيروقراطية، مع اعتبار كل الاختلافات في اشكالها، ومع اعتبار لوزنها النوعي الخاص، يطبع كل نظام طبقي، وليس قوتها، سوى انعكاس لواقع طبقي محدد، فالبيروقراطية التي ترتبط بشكل وثيق للغاية بالطبقة المسيطرة اقتصاديا، تتغذى بجذور هذه الطبقة الاجتماعية، وتبقى ببقائها، وتسقط بسقوطها.
إنها، بالمعنى اعلاه، تأمر وتحكم وتدير وتوزع، لكنها لا تخلق (بعكس كل طبقة مسيطرة) أساساً اجتماعيا لسيطرتها (بشكل شروط خاصة للملكية).
إن ما يميز البرجوازية البيروقراطية هو علاقاتها النوعية بالسلطة كمؤسسة وانتماؤها الى جهاز الدولة، بمعنى أنها نتاج لعلاقة الدولة بالبنية الاقتصادية من ناحية وبالطبقات واقسامها المختلفة من ناحية اخرى، إن ما يسمى بـ "السلطة البيروقراطية" ليس في الحقيقة الا ممارسة الدولة لوظائفها، ويتطابق اداء البيروقراطية في التحليل النهائي مع المصلحة السياسية للطبقة المسيطرة (أو الائتلاف الطبقي المهيمن)، وذلك عبر العلاقة المعقدة بين الدولة والسلطة السياسية للطبقة المسيطرة وليس من خلال الانتماءات الطبقية للبيروقراطية، وهذا يتضح في الحالة التي تكون الطبقة التي بيدها مقاليد السلطة غير الطبقة المسيطرة، عندئذ تمارس البيروقراطية السلطة لحساب تلك الطبقة، ومن هنا يتضح خطأ النظريات التي تؤسس علاقة البيروقراطية بالسلطة السياسية للطبقة المهيمنة على وحدة انتماءاتها الطبقية فنتجت عن علاقات القرابة والمصاهرة التي تربط عناصر البيروقراطية العليا بأعضاء الطبقة المسيطرة، إن هذه العلاقات يمكن ادماجها في التحليل باعتبارها علاقات ناجمة عن مصالح مادية وتنشأ على هذا الاساس وليس على أساس علاقات "مصاهرة أو قرابة" فقط.
إن البرجوازية البيروقراطية تتزايد وتتجدد بفضل تراتب اداري، وتأتي امتيازاتها من استغلال القطاع الحكومي لا من علاقات انتاج محددة، وهذا يعني ان الرأسمال البيروقراطي لا يستمد موارده الرأسمالية من المؤسسات الصناعية والتجارية مباشرة وإنما يستحوذ على فائض القيمة الاجتماعي (العائد للمجتمع ككل)، إن هذا الواقع يفسر كيف أن مؤسسات الرأسمالية البيروقراطية تسجل خسائر كبيرة في كثير من الاحيان ولكن البرجوازية البيروقراطية، برغم ذلك تزداد ثراءً!
ومن جهة اخرى لا تتوقف الوظيفة الخاصة للبيروقراطية، كفئة اجتماعية، على طبيعة انتماءاتها الطبقية، أو على النشاط السياسي للطبقات التي خرجت من صفوفها، وإنما تتحدد هذه الوظيفة بالدور الملموس الذي يلعبه جهاز الدولة داخل التكوين الاجتماعي ككل وعلاقاته المعقدة بطبقاته، وهذا بالتحديد هو ما يفسر لنا وحدة البيروقراطية وتماسكها بالرغم من اختلاف وتباين منابعها الطبقية، وكذلك لا يمكننا ارجاع هذه الوحدة الى وحدة الطبقة التي بيدها سلطة الدولة.
إن المعيار الذي يحدد انتماء الفرد الى هذه الفئة ليس حجم دخله ولا موقعه أو منصبه، وإنما في الاساس، مدى نفوذه في اتخاذ القرار السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي، أي دوره في عملية اعادة الانتاج الاجتماعي، إن البرجوازية البيروقراطية لا تمتلك وسائل الانتاج، إلا أنها بحكم مواقعها تمتلك امكانية التحكم في الانتاج ذاته، كما أنها تسيطر على وسائل الانتاج ليس بالملكية وإنما بالحيازة، وفي ظروف الافتقار الى قواعد الرقابة وضعف أو إنعدام وجود مؤسسات ديمقراطية وضعف مؤسسات المجتمع المدني، تستطيع البرجوازية البيروقراطية أن تمتلك حرية التصرف المطلق بالفائض الاقتصادي العائد للمجتمع، ومن جانب آخر فإن علاقات القرابة والمصاهرة المتشابكة مع "قادة السلطة" تكفل لهم الحماية والاستقرار، وتؤمن لهم حرية التحرك "بدون رقيب أو حسيب في اعمالهم".
قلنا ان البيروقراطية تستحوذ على جزء كبير من فائض القيمة لعموم المجتمع، الا ان هذا الواقع – رغم اهميته – غير كاف لتحويل البرجوازية البيروقراطية الى طبقة مستقلة، ان البرجوازية البيروقراطية تستطيع ان تكون في مراحل معينة من التطور وكيلا مؤتمنا للطبقة البرجوازية ككل، ان هذا "الوكيل" قد يجلس حقا على رقبة سيده وينتزع احيانا "قطعة" ضخمة من فمه، إلا انه رغم ذلك يبقى مجرد وكيل، والبرجوازية كطبقة ترتاح إليه لأنها في فترات معينة تكون هي ونظامها في "اسوأ الاحوال"، والبرجوازية البيروقراطية تبتلع جزءاً من الثروة القومية، كما انها تمثل وضعا فائق الامتياز لا بمعنى الحقوق السياسية والادارية وحسب، بل وكذلك بمعنى المنافع المادية الضخمة، إلا ان كل ذلك لا يجعل منها طبقة مسيطرة مستقلة، وبهذا المعنى فان البرجوازية البيروقراطية لا تستمد امتيازاتها من العلاقات الخاصة على صعيد الملكية كـ "طبقة" بل من علاقات الحيازة بالذات.
ثمة ملاحظة ضرورية هنا لا بد من الاشارة اليها وهي انه وبالنظر للطموح الهائل لهذه الفئة للاستفادة من السلطة السياسية الى اقصى حد، بسبب من طابعها الاجتماعي وعلاقاتها الفعلية مع البناء الفوقي للمجتمع، وبالنظر لأن عملية التطور الاقتصادي – الاجتماعي تجري في ظروف معقدة وشائكة حول آفاق التطور اللاحق، وبالنظر للدور الذي تلعبه مختلف القوى الاجتماعية التقدمية ونضالها الرامي الى اجراء تغيرات ملموسة في البنية الاقتصادية – الاجتماعية، فان البرجوازية البيروقراطية يمكن ان تقوم ببعض الانجازات الاجتماعية – الاقتصادية التي تبدو احيانا تقدمية المظهر، ولكن الهدف الكامن وراء ذلك هو احتواء التناقضات الطبقية الكامنة والحفاظ على الاستقرار السياسي، ولهذا فانه عند تقييم مواقف هذه القوى يجب الاستناد دوما الى مقولة لينين الصائبة القائلة بان "السياسة يجري تقييمها ليس بموجب التصريحات بل بحسب المحتوى الطبقي الواقعي"، واذا فان توضيح الطبيعة الطبقية للمجموعات الحاكمة يصبح القضية المهمة في المعركة الايديولوجية الراهنة واللاحقة، ان هذا يتطلب الدراسة التفصيلية والملموسة للبنية الطبقية على اساس المعاينة المتواصلة للتغيرات في تلك البنية واستخلاص الاستنتاجات الضرورية بصددها كي تخدم في توفير الادوات الضرورية للكفاح ضد الفئات المهيمنة ومن اجل صياغة صحيحة للخط السياسي واستراتيجية الكفاح ضد تلك الفئات.
بسبب ان مصطلح "البرجوازية البيروقراطية" هو ليس مصطلحا اقتصاديا بحتا، بل هو مصطلح اقتصادي – اجتماعي، وبسبب ان البنية الطبقية لا تزال في طور التشكل فان البرجوازية البيروقراطية تمتلك خصائص الفئات الاجتماعية الانتقالية والوسيطة، بمعنى اخر ان عمليات التطور والتناقضات الاجتماعية ستجد انعكاساتها على هذه الفئة ويمكن ان تحدث داخلها عمليات اصطفاف متوالية تؤدي الى الاطاحة بقسم منها لمصلحة القسم الآخر المتنفذ فيها، ان مثل هذه "التحولات" يعني ان القسم المتبقي منها سيلجأ لتثبيت مواقعه ليس فقط بالوسائل السياسية والاقتصادية "المشروعة" بل والى تغليب استخدام الوسائل القمعية والفاشية ضد خصومه الطبقيين من جانب وكذلك ضد حلفاء الامس وحتى ابناء جلدته "ابناء طبقته" او حتى "طائفته" ! ملموسيا، هذا ما قام به الجناح المتنفذ من البرجوازية البيروقراطية في العراق في اواخر السبعينيات من القرن العشرين، فقد تحقق بفعل هذه العملية القيصرية اصطفاف جديد داخل "الائتلاف الحاكم" كان ممهورا بالدم وادى الى تسريع وتيرة ارتمائه في احضان الرأسمال الاجنبي والاحتكارات المتعدية الجنسية وكذلك احتضانه في حينه من قبل الرجعيات العربية لقاء اجراءاته الداخلية المتعددة، ومثل هذه السيرورات يمكن ملاحظتها ايضا عند معاينة التطورات والاصفافات والاستقطابات التي شهدتها وتشهدها بلادنا خلال الفترة التي تلت 2003.
واخيرا، لا بد من الاشارة الى ظاهرة ملفتة في بلادنا وتتمثل في تعزيز وتدعيم، وان بمستويات متفاوتة، مواقع المؤسسة الامنية والعسكرية وكبار المسؤولين فيها بفعل السيطرة على مقاليد السلطة والانتفاع بها، واستشراء الفساد والإفساد واستنزاف ثروات البلاد، ويمكن القول، اذن، بحدوث "تلاحم متين" بين جناحي البيروقراطية: المدني والعسكري، وسيكون لذلك تأثير كبير بل وحاسم على اتجاهات التطور التي ستشهدها البلاد خلال الفترة التالية.
البرجوازية الكمبرادورية
بعد عام 2003 وبسبب طبيعة "الراسمالية" الناشئة في بلادنا التي وضع اسسها الحاكم المدني لسلطة الاحتلال (بول بريمر) و"طورتها" باتقان تحسد عليه! القوى المتنفذة التي توالت على السلطة لاحقا، بدأت بالتطور العاصف فئة البرجوازية الكومبرادورية، ونشاطها لا يعتمد اساسا على رأس المال فرأسمالها هو صلاتها القوية بالاحتكارات الاجنبية، وبجهاز الدولة، وتعتبر البرجوازية الكومبرادورية أخطر شرائح الرأسمالية التجارية شأنا بالنظر لموقعها الحاكم في قطاع التجارة، وصلاتها العضوية الواسعة بالاحتكارات الدولية، وبرأسمالية الدولة، والقطاع العام.
نشأت "البـرجـوازية الكمبـرادورية" كجناح مهم من أجنحة الرأسمالية في معظم البلدان النامية ومنها بلداننا العربية، وهكذا أصبحت الكمـبرادورية المتخصـصة في التجارة والتداول المالي مع العالم الرأسمالي المتطور مَعلماً رئيسـياً من معالم البنية الاقـتـصادية والسياسية.
بعد تدفـق عائدات النفـط إلى الدول النفطية (ومنها إلى بقـية العالم العربي على شكل منح وقروض وأجور عمال) في السبعـينيات من القرن الماضي، أصبح هناك نوع من التـداخل العضوي الوثـيـق بين جهاز الدولة الذي يملك النفـط وبين البرجـوازية الكمـبرادورية التي تـشرف على بيعه و"تمريـر" عائـداته، وبهذا تحولت البرجـوازية الكمبرادورية في العالم العربي إلى قـوة سياسية واجتماعية مهمة تـؤثر على السلطة التشريعـية وتـتـدخل في سياسة الدولة واسـتراتيجـياتها، وتتحكم في مسار الاقتصاد العام ونمط مشروع التـنمية في بلدانها.
ومع تعاظم دور الشركات الأجنبية والنمو الهائـل في المبادلات الخارجية في البلدان العربية، أخـذت الفـئات الكمبرادورية في هذه البلدان تمـد نشاطها إلى شتى أنواع الخدمات التجارية والمالية وتحتكـر شتى أنواع الأنشطة المتعـلقـة بالتصدير والاستيـراد وأعمال الوكالة والشحن وتخليص البضاعة، فوصلت بذلك إلى وضع تـنطبق فيه عليها التسـميات الشائعة: "برجـوازية الصفـقات" و"البرجـوازية السمسارية".
من المفيد الاشارة هنا الى ان سياسة "التحرير الاقتصادي" بحسب وصفة صندوق النقد الدولي وقبلها "المشروع الاقتصادي" لسلطة الاحتلال الذي طرحه (بول بريمر)، الحاكم المدني لسلطة الاحتلال في تموز 2003 قادت لتدهور أوضاع الرأسمالية المحلية المنتجة، وهي التي كانت ضعيفة اصلا نتيجة ممارسات النظام الدكتاتوري المقبور والحصار الاقتصادي الظالم، وصعدت محلها فئات جديدة من الرأسمالية الطفيلية والكمبرادورية، وبدأت تنسج علاقات مع سلطة الاحتلال سواء من خلال العمل في مشاريع "اعادة اعمار العراق" التي نفذها المحتل او من خلال قنوات التجارة الخارجية، استيرادا وتصديرا، هكذا اذن شهدنا تعاظما للاستغلال وانسيابا متصاعدا للدخل القومي الى الخارج عبر قنوات التجارة الخارجية، فمثلا خلال الفترة 2003 - 2014 بلغت قيمة استيرادات العراق 446.828 مليار دولار أي بمتوسط سنوي قدره 40.6 مليار دولار. وبالمقابل تصاعد اعتماد البلاد على الريوع النفطية ليتعاظم اكثر فاكثر الطابع الريعي – الخدماتي للاقتصاد الوطني، كما لوحظ ضعف الرأسمالية المحلية وتقلص دور مؤسسات قطاع الدولة بسبب رهان القوى المسيطرة على الخصخصة دون قيد او شرط! رهانا اصبح بمستوى الرؤية الايديولوجية وليس استنادا الى تحليل ملموس لأوضاع هذه المؤسسات وما اذا كانت قادرة على مواصلة النشاط ام لا.
وثمة ملاحظة مهمة لا بد من ذكرها هنا وتتعلق بـ "خصوصية" النظام السائد في بلادنا وهي انه في حين أن هذا النظام هو نظام رأسمالي من حيث علاقات الإنتاج وتوزيع الفائض، فهو في نفس الوقت ما قبل رأسمالي من حيث آليات الحركية الاجتماعية وشبكة العلاقات التي يتم من خلالها الصعود في الهرم الطبقي، ويتم ذلك أساسا عبر علاقات شخصية غير رسمية كالرشـوة والمحاباة والتحالفات وحماية المصالح المتبادلة، ولذلك فعلى الرغم من تغلغـل أشكال الإنتاج الرأسمالي في جميع المجالات الاقتصادية، يظل هناك نوع من التـنازع والصـراع بين العلاقات الرأسمالية الجديدة وبين علاقات الولاء التقـليدية للهويات الفرعية (الطائـفـية والعرقـية والقـبلية والمناطقية).
نتيجة لهذا الوضع المعقـد فإن العـوامل غـير الاقتصادية النابعة من البنى الطائـفية والعرقية والقـبلية ذات أهـمية ملحوظة في تحديد طبيعة البنية الاقتصادية-الاجتماعية في بلادنا ومساراتها المفتوحة. هنا تتداخل مجموعات المكانة التقـليـدية مع التكـوين الطبقي، فتعـيق عملية "الفـرز الطبقي" وتمايز الطبقـات في المجتمع وبالتالي تنعكس سلبيا على تبلور الوعي الاجتماعي انطلاقا من مقولة الوجود الاجتماعي يحدد الوعي الاجتماعي، واضافة لذلك وبعد 2003 لعب الاحتلال دورا مركزيا في تعـزيز الانقسامات العرقـية والطائفـية والقبلية في العراق، وبالتالي في زيادة حدّة الملامح العرقية والطائفية والقبلية للبنية الطبقية، إن هذا التداخل أدى إلى نشوء علاقات اقتصادية - اجتماعية - سياسية مركبة كتلك التي تدعى "علاقات الاستـزلام"، وهذه علاقات شبه إقطاعية على اية حال.
ان تدهور الوزن النسبي لمساهمة قطاعات الانتاج السلعي وخصوصا الزراعة والصناعة في تكوين الناتج المحلي الاجمالي رافقه تزايد الوزن النسبي لقطاعات الخدمات، وفي مقدمتها قطاع التجارة الذي يتضخم باستمرار بحيث اصبحت حصتها في عام 2014 مثلا تشكل 43.8 % من الناتج المحلي الاجمالي للعراق بعد استبعاد النفط، والدلالة الاقتصادية – السياسية لهذا "التحول" هو انه يأتي تعبيرا عن عملية كبت التراكم الرأسمالي الانتاجي، أي كبت تحول الرأسمال التجاري الى رأس مال صناعي، وقد شهدت السنوات الاخيرة وبنتيجة ايديولوجيا السوق الحرة وتطبيقاتها المتطرفة انفصالا متزايدا لأجزاء من رأس المال التجاري عن دورة رأس المال المحلي ليصبح مجرد حلقة من دورة رأس المال المعولم الجهنمية.
خلاصة القول، إن إئتلاف البرجوازية الطفيلية – البيروقراطية – الكومبرادورية وضع، بسياساته وممارساته، مصائر بلادنا وشعبنا العليا على كف عفريت، وبهذا فقد انفتح الافق على معضلات جديدة وتناقضات جديدة عمقت التناقضات القديمة وزادتها حدّة واحتداما ما جعل الاوضاع مفتوحة على كل الاحتمالات.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجلة "الثقافة الجديدة"
العدد 382
آيار 2016