مدارات

12عاماعلى أحداث 11 سبتمبر 2001 وتداعياتها.. من العام الى الخاص/ د. صالح ياسر 3- 7

"تمارين" بالذخيرة الحية لاختبار مدى صلاحية التحولات الاستراتيجية
أولا: اجتياح افغانستان: ردة فعل أم خيار استراتيجي؟
أول تمرين تطبيقي بالذخيرة الحية

لا يكفي استعراض الاستراتيجية الجديدة التي تبلورت معالمها بعد 11 سبتمبر، في أطرها العريضة، لفهم جوهر التحولات الحادثة فيها واتجاهاتها العامة، بل لا بد من الاطلاع على الآليات الكفيلة بتحويلها من قواعد نظرية صارمة الى ممارسات ملموسة على الأرض، ووضعها موضع التطبيق العملي باستخدام الذخيرة الحية إذا دعت الضرورة. لقد انطلقت الاستراتيجية الجديدة للولايات المتحدة، بمختلف مجالاتها، من التداعيات التي ترتبت على أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001 ووظفتها لتحقيق أهداف ومشاريع لابتلاع العالم وترسيخ الهيمنة الامريكية على صعيد كوني،
ومنذ سقوط العاصمة الافغانية كابول في نوفمبر 2001 بات من الواضح أن إدارة بوش تستغل "الحرب على الإرهاب" لتبرير استراتيجية جيوسياسية أكثر عدوانية، وهي نشر القوة العسكرية للقضاء على بعض التهديدات وتخويف الباقين كلهم.
الخطوة الأولى جاءت مع التوسع الجوهري في أهداف الحرب والذي أعلنه بوش في خطاب الاتحاد الذي ألقاه يوم 29 يناير 2002. وبتأكيده على أن "حربنا ضد الإرهاب قد بدأت لتوها" أعلن بوش أنه بالإضافة إلى الهجوم المباشر على شبكات الإرهاب "فإن هدفنا الثاني هو منع الأنظمة التي ترعى الإرهاب، عن تهديد الولايات المتحدة أو أصدقائها أو حلفائها بأسلحة الدمار الشامل" وحدد إيران والعراق وكوريا الشمالية "كمحور للشر". وبعد ذلك وسع (جون بولتون)، نائب وزير الخارجية الأمريكي، الشبكة واصفاً ليبيا وسوريا وكوبا بأنها دول راعية للإرهاب تسعى إلى أو لديها القدرة على أن تسعى إلى الحصول على أسحلة الدمار الشامل.
لكن الأبعاد الكاملة لاستراتيجية الإدارة الأمريكية لم تتضح تماماً إلا عندما أعلن بوش ما وصفته الفينانشل تايمز بأنه "مبدأ جديد تماماً للتحرك الاستباقي" وذلك في خطابه في وست بوينت في 1 يونيو 2002 .

وجرى تنفيذ العديد من أهداف هذه الاستراتيجية بالذخيرة الحية، الأمر الذي يتطلب التعرف على ذلك ببعض التفصيل.

لنتابع ما جري على الارض وبالملموس، ولنبدأ باجتياح الولايات المتحدة لافغانستان باعتباره أول تمرين استراتيجي بعد 11 سبتمبر 2001 ينفذ بالذخيرة الحية، منطلقين من سؤال تقليدي وهو: هل ان هذا الاجتياح مجرد ردة فعل أم خيار استراتيجي؟

لا يمكن تقديم جواب مدقق حول هذا السؤال دون أن نتذكر ما تحدث به الرئيس الأمريكي السابق جورج دبليو بوش عند تسلمه الرئاسة من بعد (كلينتون) وهو يحدد أولويات السياسة الخارجية للإدارة الجديدة. فقد أشار في حينه الى أن الأولوية رقم واحد للسياسة الخارجية للإدارة الأمريكية الجديدة (أي في ادارة بوش) وخياراتها الاستراتيجية هي المحيط الهادئ ووسط وجنوب آسيا. وعند قراءة خيار الهجوم على أفغانستان بحجة وجود بن لادن وتنظيم القاعدة فلا بد هنا من تأشير أمرين مهمين يفيدان في تدقيق الإجابة وإكسابها المزيد من الملموسية.
يتعلق الأول بالظروف المناسبة لتوفير الغطاء واستثمار الأحداث. إذ أن وجود نظام طالبان وتركيبته ومنهجه وعلاقاته الدولية ووجود أسامة بن لادن وتنظيم "القاعدة" وامتداداته وفعالياته الارهابية المعروفة على صعيد عالمي، جميعها كانت تشكل الظرف والحافز المثالي في آن واحد.
أما الثاني فيتعلق بالأبعاد الاستراتيجية لهذا الخيار وفقاً لبرنامج وتوجهات الولايات المتحدة.

ومن منظور استراتيجي أوسع فإن استنطاق الإجراءات ودفعها الى نهايتها المنطقية سيتيح القول بأن هذا الخيار يتعلق بإرساء ترتيبات جديدة في كل من وسط وجنوب آسيا والمحيط الهادئ والمحيط الهندي، وهو أشبه ما يكون بذلك المسعى الذي كان يهدف الى إرساء ترتيبات جديدة من خلال حرب الخليج الثانية. ومن هنا ضرورة التأمل بالإشكاليات المرتبطة بهذه المنطقة وقيمتها الإستراتيجية المتنامية باستمرار.

عندما يتفحص الباحثون الاستراتيجيون "الحملة الاميركية على الارهاب" من زاوية الصلة بآسيا الوسطى، وفي قلبها افغانستان التي كانت محور رحى الحرب في المرحلة الاولى، يتبيّن ان هناك الكثير يمكن قوله حول الاهمية السياسية والاقتصادية لهذه المنطقة التي أصبحت منذ أحداث 11 ايلول في قلب الاحداث العالمية وشاغلها. فكل عمالقة هذه الفترة موجودون مباشرة، او غير مباشرة، على المسرح هناك. فبالاضافة الى العملاق الاكبر، اي الولايات المتحدة الاميركية، هناك الصين والهند وروسيا الاتحادية ومعها دول ذات أهمية في مسألة الصراع او التفاهم الدولي كإيران وباكستان وتركيا.

ومع إدانة التفجيرات التي حصلت في 11 سبتمبر في كل من نيويورك وواشنطن، بصرف النظر عن أي دوافع او خلفيات سياسية فان هذا التشخيص يمثل جانبا مهما من القضية، ولكنه غير كاف لرؤية تلك القضية بكاملها. لذا لا بد من التساؤل عن دوافع الحملة الأمريكية على افغانستان بعد ما حصل في 11 سبتمبر 2001، وتفسير الدوافع الحقيقية لتلك الحملة وأبعادها العالمية والإقليمية وتحديدا على آسيا الوسطى. ثمة ضرورة هنا للإشارة الى بعض الملاحظات التي تتيح الاجابة على هذا التساؤل:

أولا : هناك ما يسمى بـ "الهلال المتوتر" من الناحية الجيواستراتيجية، الذي يمتد من آسيا الوسطى الى شمال افريقيا. وإذا كان " النظام الدولي الجديد " الذي أراد المنتصرون في حرب الخليج الثانية (1991) فرضه قد فشل في تحقيق أهدافه، فإن المطلوب من هذه الحملة الجديدة التي جاءت بعد عشر سنوات (2001) إعادة الروح لهذا النظام، حيث كانت الادارة الاميركية تريد اعادة ترتيبه وفقا لمصالحها، لأن حرب الخليج الثانية في 1991 لم تحسم كثيرا من الامور في هذا الهلال من جهة باكستان، ايران، بعض الجمهوريات الآسيوية المستقلة حديثا، حتى مصر والسعودية. لهذا فإن المطلوب هنا كان يتعلق باعادة ترتيب هذه المنطقة بما يتلاءم مع النفوذ والمصالح الاميركية، وبما ينسجم مع اعادة ترتيب "النظام العالمي" بتأكيد قيادة الولايات المتحدة له (22).
ثانيا : إن "نظرية القطب الواحد" لم تكن راسخة ومؤكدة في العقد الماضي، ولهذا فإنه يراد لها اعادة تجديد وتأكيد، ولو من باب " التحالف لمكافحة الارهاب ". طبعا لابد من الإستدراك لتأكيد القول بأن هناك تفاوتا بين التمنيات والامال الأمريكية وحقائق الواقع الصارمة.
وارتباطا بذلك ثمة سؤال حاسم يطرح نفسه هنا بقوة وهو: لماذا آسيا الوسطى تحديدا؟
الاجابة على هذا السؤال واضحة: إنها منطقة مهمة من الناحية الإستراتيجية. وتكمن أهميتها في عدة عوامل من بينها:
- وجود الاسلحة النووية في الهند وباكستان منذ عام 1998 ومساعي إيرانية جادة لامتلاكه.
- هذه المنطقة مهمة من ناحية تواجد النفط والثروات الطبيعية، كونها بالقرب من بحر قزوين الواعد. إن الاحتياطي النفطي لبحر قزوين، بالإضافة الى إنتاجه الفعلي، وكذلك احتياط الغاز لهذا البحر، بالإضافة الى إنتاجه الفعلي (وقد جرت الاشارة الى ذلك كله في مكان اخر من هذه الدراسة)، هما مثار اهتمام أمريكي لا يقل عن اهتمام الولايات المتحدة بنفط الخليج العربي. فالمطلوب بالنسبة الى الشركات المتعدية الجنسية العاملة في صناعة النفط العالمية أو تسويقه مد الذراع الأمريكية العسكرية الضاربة الى هذه المنطقة من اجل توفير إحكام السيطرة خلال العقد التالي على نفط قزوين وغازه، وبذلك تصبح الولايات المتحدة " سيدة " نفطين أساسيين في المنطقة: الخليج وقزوين، وهما يشكلان الرقمين الثاني والثالث في العالم، وأيضا تحويل خط أنابيب نفط قزوين من اجل استبعاد كل نفوذ روسي اقتصادي. وكما معروف فان تنفيذ اتفاق باكو - تبليسي عاصمة جورجيا - وجيهان المرفأ التركي على البحر الابيض المتوسط كان الهدف منه استبعاد مرور الخط عبر البحر الأسود.
- كما ان هذه المنطقة تتاخم الصين وروسيا الاتحادية، إذ برغم التصريحات المتكررة عن " وحدة المصالح " فان هناك تعارضاً بين المصالح الأمريكية من جهة والمصالح الروسية والصينية من جهة أخرى وان اختلفت منطلقات كل منهما. فالصين مثلا منافس قوي على الصعيد العالمي حيث شهدت الصادرات الصينية نموا متصاعدا بلغت حيث بلغت في عام 2000 نحو 249 مليار دولار، ارتفعت إلي 585 مليار دولار في عام 2004، في حين قدرت قيمتها لعام 2010 بنحو 1274 مليار دولار.
- كونها منطقة متاخمة لمنطقة الخليج والشرق الأوسط بما تمثله هاتان المنطقتان من قيمة إستراتيجية دولية كبيرة وموقع جيو- سياسي هام.
- كما لا يجوز، في اية مقاربة استراتيجية، نسيان حقيقة وجود نقطتين اساسيتين في منطقة اسيا الوسطى هما: كشمير وأفغانستان اللتان تمثلان القلب الاستراتيجي لآسيا.
طبعاً مسألة بن لادن و "القاعدة" وطالبان كانت عنوانا لمكافحة "الإرهاب"، ولكن كما جرى بالنسبة الى السياسة فإن عولمة الاقتصاد تضمن ازدهاراً أمريكيا وأوربيا (طبعا بالنسبة للقوى المهيمنة).
ولهذا يمكن القول ان الأهداف الآنية والبعيدة المدى التي سعت الإستراتيجية الأمريكية لبلوغها من محاولة السيطرة على أفغانستان بعد سبتمبر 2001 عديدة، ومن بينها:
- مراقبة تحركات الصين باعتبارها منافسا اقتصاديا وسياسيا وعسكريا حقيقياً، وقطع الطريق عليها لإقامة أية تحالفات تتيح لها الإطلال من هذه المنطقة على دول أسيا الوسطى وإيران والخليج عموما. إذ أن ذلك - بحسب الرؤية الإستراتيجية الأمريكية - يشكل تهديدا لهيمنتها على مكامن النفط في هذه المنطقة من جهة، ووأد طموحاتها في السيطرة على دول أسيا الوسطى والوصول إلى الاحتياطي الهائل القابع في بحر قزوين، من جهة أخرى.
- قطع الطريق على روسيا الاتحادية وتحجيم دورها الذي ما زال قائما في دول أسيا الوسطى، وبخاصة تلك التي تطل على بحر قزوين.
- يظلّ منع تبلور محور أو تحالف دولي في هذه المنطقة أعمدته الأساسية الصين وروسيا والهند أحد أهم أهداف الإستراتيجية الأمريكية وتواجدها الملموس في أفغانستان.
- مراقبة النشاطات النووية التي تجري في " منطقة المصالح الحيوية للولايات المتحدة " والتي تجري في بلدان عدة ومن بينها الهند وباكستان وإيران عن كثب. ولا شك أن التواجد في هذه المنطقة سيعين الولايات المتحدة على احتواء تلك النشاطات بحيث لا تشكل خطرا على ما تسميه بالأمن القومي الأمريكي.

الخلاصة: الأهداف غير المعلنة لا تطابق بالضرورة الأهداف المعلنة !
إذا تجاوزنا الخطاب الأمريكي المعلن في حينه والذي انطلق من مفهوم " الحملة العالمية على الإرهاب " وتساءلنا عن الأهداف الفعلية لهذا التواجد في هذه المنطقة، أمكننا القول أنها تتمثل في :
1. ضرورة العودة بوجود عسكري كثيف الى جنوب شرق آسيا بعدما أغلقت أمريكا قاعدتيها العسكريتين في الفيليبين، سوبيك باي وكلارك، عام 1992 ثم بعدما أُجبر الرئيس الإندونيسي السابق (سوهارتو) على الاستقالة عام 1988. والجدل كان قائماً قبل 11 أيلول بكثير ولا علاقة له بمكافحة الإرهاب. ففي آيار 2001 وجهت مجموعة من الأكاديميين ورؤساء الشركات الكبرى، في رعاية مجلس العلاقات الخارجية، مذكرة آلي بوش أشارت فيها الى "أنها اللحظة المناسبة لإدارتكم للتركيز على منطقة غابت كثيراً عن شاشات راداراتنا وشكل ذلك خطراً علينا". وخلفية هذه الدعوة تستند الى الهزيمة الأمريكية في فيتنام، ثم الى الانسحاب من الفيليبين واستقالة سوهارتو الذي كانت واشنطن تعتمد عليه كثيراً.
لنتابع تطور الاحداث بمزيد من الملموسية. في كانون الثاني 2002 بدأت مجموعة من 660 جنديا اميركيا تصل الى الفيليبين في اطار ما سمي في حينه بـ "مهمة تدريب" مدتها ستة اشهر تنتهي منتصف حزيران "لتعزيز خبرات القوات الفيليبينية في مواجهة الارهاب"، وذلك وسط حملة من التصريحات الاميركية الرسمية والمقالات الصحافية التي ركزت على الخطر الداهم من "مجموعة ابو سياف" الفيليبينية وعلاقاتها بتنظيم "القاعدة" واسامة بن لادن. وسرعان ما تبين ان "مهمة التدريب" كانت التفافاً لغويا على الدستور الفيليبيني الذي يمنع انتشار قوات اجنبية في البلاد كما يمنع استخدامها أسلحة في هجمات ولا يسمح بها الا في حال الدفاع عن النفس. وقد وجدت حكومتا البلدين مخرجا لم تكتمه الصحف الاميركية ونشرت "النيويورك تايمس" في آذار من عام 2002 ان "الضباط الاميركيين والفيليبينيين قالوا ان الجنود الاميركيين سيتعرضون حتما للنار مما يجعل مشاركتهم في الهجمات محتملة". ولم يمض وقت طويل حتى بدأ الحديث عن تمديد وجود هذه القوة ربما ستة اشهر اخرى.
وأثار هذا الانتشار الاميركي في الفيليبين شكوكا كثيرة في النيات الحقيقية الكامنة وراءه. ويبدو أن الشكوك كانت في محلها. ففي أكثر من مناسبة جرت الاشارة الى عدم وجود أدلة ملموسة على علاقات بين "ابو سياف" و"القاعدة". إذ أشارت مجلة "تايم" الاميركية في حينه الى ان الروابط بين المجموعتين "تلاشت" وان ضرب "ابو سياف" يفيد محليا بيد انه لا يقدم شيئا في الحرب على الارهاب. ولكن اذا كان "ابو سياف" عنوان التدخل الاميركي في الفيليبين، فان اميركا لم تشعر بحاجة الى تبرير مقنع، الامر الذي زاد الشكوك. وحتى الحديث عن تلاشي العلاقة لم يغير الموقف الاميركي. فقد قال وزير الدفاع في حينه (دونالد رامسفيلد) انه "حتى لو لم تكن العلاقات موجودة بين مجموعة ابو سياف والقاعدة، فان نشاطات المجموعة الارهابية الفيليبينية تهدد مصالح اميركا. وما تقوم به اميركا لتعطيل عمل امثال ابو سياف في العالم سيكون درسا لمجموعات اخرى بأن المناخ الاستراتيجي بعد 11 ايلول لا يلائمها". واكثر من ذلك، نشرت الصحف والمجلات الاميركية مقالات كثيرة عن أهداف تتجاوز حتى تلقين من تسميهم أميركا مجموعات ارهابية درسا. وقالت "النيويورك تايمس" مطلع نيسان 2002 ان "الولايات المتحدة تحتاج الى الفيليبين للمدى البعيد. فإذا أمكن فرض استقرار في جنوب الفيليبين حيث الانفصاليون المسلمون ينشطون منذ زمن، فان الجزيرة قد تكون موقع تنصت مثاليا ونقطة انطلاق جيدة لحراسة المصالح الاميركية الكثيرة في منطقة الهادئ".
ويبدو أن الامر لا يتعلق بالفيليبين وحدها، أنما بمنطقة جنوب شرق آسيا بأسرها. ما شهدته أندونيسيا في موازاة ما كان يجري في الفيليبين يكمل المشهد. مسؤولو وزارة الدفاع الاميركية "البنتاغون" ووزارة الخارجية ومكتب التحقيقات الفيديرالي الذين زاروا الفيليبين، زاروا ايضا اندونيسيا ومارسوا ضغوطا عليها لمطاردة المقاتلين الاسلاميين الاصوليين. وتحركت ادارة بوش في اتجاهين: الاول الكونغرس ليرفع الحظر عن التعاون العسكري مع جاكرتا والذي كان فرضه عام 1999 بسبب قضية تيمور الشرقية، والاخر جاكرتا نفسها لاقناعها باعادة علاقات عسكرية وثيقة تشمل احتمال نشر قوات اميركية في اراضيها. وفي أجواء تسريبات صحافية شبه يومية في أميركا عن لجوء مقاتلين من "القاعدة" الى اندونيسيا، كتبت صحيفة "يو اس آي توداي" في آذار مقالا عنوانه "البنتاغون يريد ارسال جنود الى اندونيسيا". وبعد محادثات كثيرة توصلت واشنطن الى ان أي نشر فوري للجنود هناك ستكون له نتائج عكسية بسبب رد الفعل الشعبي، واكتفت بالحديث عن احتمال معاودة التعاون العسكري في اطار مكافحة الارهاب ومكافحة المخدرات.
2. الأهداف الاقتصادية حاضرة هنا كذلك، والتي تستند أساسا الى وجوب عدم تجاهل منطقة ضخمة تضم (في حينه) 525 مليون نسمة، ويبلغ ناتجها القومي 700 مليار دولار سنويا وهي خامس اكبر شريك تجاري للولايات المتحدة وتحتل الاستثمارات الأمريكية فيها المركز الثاني بعد اليابان. يضاف الى ذلك عاملان حاسمان، حسب المذكرة نفسها:
الأول، مستويات إنتاج النفط والغاز واحتياطهما في إندونيسيا وبروناي، خصوصاً أن إندونيسيا هي العضو الآسيوي الوحيد في منظمة البلدان المصدرة للنفط "أوبك"، وان حقول نفط وغاز تكتشف حديثاً في الفيليبين وماليزيا وفيتنام.
والثاني، تقاطع الخطوط البحرية العالمية حيث تمر نصف التجارة العالمية بما فيها إمدادات النفط من الخليج الى اليابان وكوريا الجنوبية والصين وحيث أي إعاقة لوصول النفط تؤثر على اقتصادات شرق آسيا وتالياً على اقتصاد أمريكا.
3. الأهداف الجيوسياسية حاضرة كذلك، وتكمن في ما يسمى بـ "الخطر القادم" من قوى إقليمية يمكن أن تشكل مصدر خطر على المصالح الحيوية للولايات المتحدة في هذه المنطقة. وهذا التوجه كانت قد عكسته بوضوح دراسة أعدتها عام 2000 (مؤسسة راند) المرتبطة بـ"البنتاغون" وبالصناعات العسكرية الأمريكية وبإدارة بوش نفسها. حذرت هذه الدراسة، بوضوح، من " الخطر المتنامي للصين " على مصالح الولايات المتحدة في جنوب شرق آسيا ومن احتمال أن تنافسها في غضون عشر سنين على السيطرة على المنطقة وترى أن لا مجال لحماية النمو الاقتصادي لدول المنطقة وتأمين المصالح الأمريكية إلا بوجود أمريكي فيها وبوصول لا محدود الى الخطوط البحرية، واقترحت برنامجاً من المساعدات الأمنية الضخمة لحلفاء أمريكا هناك وخصوصاً الفيليبين وإندونيسيا هدفه ردع الصين.

ثانيا: غزو و احتلال العراق.. تمرين ثاني بالذخيرة الحية

العودة الى تاريخ تطور الاحداث واتخاذها مسارات محددة امر مطلوب لفهم مغزى اعتماد هذا التمرين الثاني ونتائجه. فكما معروف فانه وبعد فوز (جورج بوش الابن) في الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة وصعود الجمهوريين الى الحكم هناك، ووقوع أحداث 11 سبتمبر 2001 والتطورات والتداعيات التي تلتها، شهدت العلاقات الدولية مزيدا من التعقيد والرهانات الجديدة، خصوصا مع تعزز مواقع التيار الأكثر تطرفا في الإدارة الأمريكية الجديدة الذي كان يريد توظيف هذه الاحداث سبتمبر الهيمنة الأمريكية على العالم بقوة المدفع.
ففيما أشرفت المرحلة الأولى من ما سمي بـ " الحملة العالمية ضد الإرهاب " وذلك بالإطاحة بحكومة طالبان في أفغانستان وتحطيم تنظيمات " القاعدة "، تصاعدت الأصوات داخل الإدارة الأمريكية الجديدة حينذاك لإضفاء المزيد من التشدد وتوسيع دائرة الاستهداف لتشمل العديد من البلدان التي " تؤوي الإرهاب " أو تشكل قواعد خلفية له أو تقدم الدعم في هذا المجال لـ " الحركات والمنظمات الإرهابية ".
وشهدت هذه المرحلة تدقيقا لأولويات الاستراتيجية الأمريكية حيث لاحظنا حينها صياغة مفهوم " محور الشر " الذي ضم في حينه كلا من العراق وإيران وكوريا الشمالية. ولم يكتف صناع السياسة والقرار في الولايات المتحدة في حينه بذلك بل لوحظ كذلك مسعاهم الدائب لتوسيع مفهوم الإرهاب ليشمل إنتاج أسلحة الدمار الشامل والتي كان النظام العراقي انذاك - بحسب الرؤية الأمريكية – يعتبر المتهم الأول في إنتاجها. ومن هنا تصاعدت الحملة ضد هذا النظام بما في ذلك التهديد بإزاحته من خلال خيار الحرب، واتخاذ الإدارة الأمريكية المزيد من الإجراءات والممارسات بهذا الاتجاه. ورافق ذلك تحول هام في العقيدة العسكرية للولايات المتحدة، الذى جرت الاشارة بالتفصيل في مكان اخر من هذه الدراسة، تمثل بالانتقال من " سياسة الاحتواء " الى " استراتيجية الردع الوقائي ".
ومن المؤكد أن التمرينات والاستعدادات العسكرية والمشاورات التي كانت تجري في غرف محكمة الإغلاق والتي قامت بها الولايات المتحدة حينذاك، رافقها على الأرض حملة إعلامية بدخان كثيف وما صاحبها من صخب كبير جعلها تفعل فعلها في أوساط عديدة، خالقة مناخا حربيا وحالة رعب.
منذ انهيار النظام الدكتاتوري في 9/4/2003 والعراق يعيش حالة مخاض عسيرة ويمر في أوضاع غاية في الصعوبة والتعقيد والخطورة، والناجمة عن خيار الحرب والاحتلال واستحقاقاته وما تركه من تداعيات، ونشاطات القوى الارهابية والتكفيرية والصدامية، والاستراتيجيات " الملتبسة " التي اعتمدتها القوى المهيمنة على السلطة بعد ذلك التاريخ. والمتابع لهذه التطورات واضطراب الاوضاع الامنية تبدو الامور وكأنها تمثل أول تطبيق عملي لنظرية "الفوضى البناءة" حيث لم يتم تغيير النظام فقط حسبما اعلنت الحكومة الأمريكية باعتباره هدفها الرئيسي من حرب العراق‏،‏ بل ان الذي تم هو تحطيم النظام وهدم الدولة والذي اقترن بعدم وضع بديل جاهز موضع التطبيق العملي‏.‏
ولهذا يمكن الاتفاق مع الذين ينفون الفكرة القائلة بان حكومة بوش ووزارة الدفاع‏،‏ لم يكن لديهما خططا جاهزة للعراق في فترة مابعد الحرب‏، فالمتابع‏ للكثير من الوثائق الرسمية الأمريكية يستطيع ان ينفي هذا القول‏.‏ فمن المعلوم ان وزارة الخارجية الأمريكية كانت قد أعدت قبل بدء الحرب دراسة شاملة ومستفيضة تضمنت خرائط تفصيلية لـ "خطط اعادة اعمار وادارة العراق " ودربت العديد من العراقيين على تنفيذ مفاصلها المختلفة‏،‏ لكن (البيت الأبيض) تجاهل هذه الدراسة كما لم يعرها البنتاغون (وزارة الدفاع) اهتماما‏.‏ هكذا إذن فانه في ظل عدم تطبيق بديل معين فان ازاحة النظام الدكتاتوري قد خلقت فراغا‏،‏ لم تملؤه سوي " الفوضي البناءة " !!‏.‏

غير ان الذي حدث بالملموس ترافق مع عدة تطورات، من بينها اثنين مهمين هما:
التطور الأول: الانهيار السريع للنظام الدكتاتوري الذي كان يفرض " الأمن والاستقرار " بقبضة من حديد. وانطلاقا من الرؤية المعتمدة على نظرية الفوضى البناءة لم تستطع قوات الاحتلال أن تضبط الأمن بشكل قوي خصوصا أن سلطة الاحتلال اصدرت قرارا حلت بموجبه الجيش النظامي، وسائر الاجهزة والمؤسسات العسكرية والأمنية والاستخباراتية، في حين لم يرافق ذلك تشكيل اجهزة بديلة لها وبالسرعة المطلوبة وعلى اسسس جديدة. الذي جرى ان هذه المؤسسات وخصوصا الامنية منها لم يتم بنائهاعلى اسس الكفاءة والمهنية والوطنية بل على اساس طائفي- قومي.
التطور الثاني، هو أن سقوط نظام صدام حسين ترافق مع رغبة القطاع الأعظم من العراقيين في إعادة توزيع السلطات بين مختلف مكونات المجتمع على أسس وقواعد جديدة مختلفة كليا عن تلك التي سادت خلال الفترات السابقة. ولكن الذي جرى بالملموس هو ان إعادة توزيع السلطات (والثروة طبعا باعتبارها انعكاسا للأولى) تمت انطلاقا من نظام المحاصصات الطائفية – القومية الذي هندس اسسه الاحتلال "بكفائة يحسد عليها"!!، فقطعت الطريق امام تبلور نظام جديد يقوم على اساس المواطنة العراقية العابرة للطوائف مما يخلق الشروط لانبثاق دولة ديمقراطية عصرية تحتاجها بلادنا بعد هيمنة نظام دكتاتوري قمعي. ويمكن القول أن هذه اللحظة النادرة للانتقال الديمقراطي ذبحت في المهد من طرف المنتصر في الحرب (قوى الاحتلال)، وقوى الارهاب من مختلف التلاوين، و " ابطال " نظام المحاصصات.
إن كل ما جري في العراق لحد الان، وما يمكن أن يجري في الفترة المقبلة، مرتبط بهذين التطورين الكبيرين وبذيولهما ونتائجهما، هذا اضافة الى عوامل اخرى طبعا. وقد بينت تجربة الفترة التي تلت انهيار النظام الدكتاتوري أنه ليس هناك حل أمني - عسكري - سياسي محض أمريكي لمشكلة العراق المتعددة الجوانب بل ان الحل الحقيقي هو بيد العراقيين الراغبين في الرهان على بناء عراق جديد، عراق ديمقراطي حر ومستقل.
غير ان مسار الاحداث اتخذ طريقا اخر تمثل في انبثاق نظام المحاصصات الطائفية – القومية وتجذره، وتمترس الطوائف خلف رؤيتها للوضع، مما أوهن أو حدَّ من كل محاولات بناء نظام عابر للطوائف وحروبها العبثية.
وبالمقابل اخفقت او فشلت المقاربات المتتالية التي بلورتها الإدارة الأمريكية لحل "المعضلة العراقية" بدءا بالإدارة العسكرية المباشرة بعد سقوط النظام، انتهاء بصيغة الاحتواء المزدوج لـ "الطائفتين الشعبية والسنية".
كما لم ينجح النموذج البلقاني ولا النموذج الأفغاني في العراق، لسبب محوري هو أن التدخل العسكري الأمريكي في العراق حدث دون مظلة إقليمية ودولية. وهكذا فإن منظّري واشنطن الذين اسكرتهم القوة (تشيني، رامسفيلد، وولفويتز، بيرل.. الخ) كانوا مستعجلين لاستخدام آلة الحرب الاميركية من اجل تحقيق حلمهم في "اعادة رسم الشرق الاوسط"، لكن مسار تطور الاحداث الفعلي بيّن أن " حسابات البيدر لا تطابق حسابات الحقل " كما يقال، فكان لا بد أن تدفع الولايات المتحدة ثمن انفرادها بقرار الحرب وإدارة الاحتلال ونتائج ذلك معروفة.
ورغم ذلك كله هناك هدفان يقعان في صلب الاستراتيجية الاميركية، وهما الهيمنة على موارد الطاقة وممارسة سيطرة اكبر على الكرة الارضية. وبغض النظر عن النتائج فإن هذين الهدفين يظلان ماثلين على الدوام، وليس هناك ما يدعو – من وجهة نظر صقور المحافظين الجدد وغيرهم كذلك – الى التخلي عنهما أو التقليل من اهميتهما.

المشروع الاقتصادي لسلطة الاحتلال
إعلان " ميثاق جديد للتنمية " تحت الحراب الامريكية !
بداية، لا بد من الإشارة الى أن الفهم الدقيق لطبيعة المرحلة التي تلت سقوط النظام الدكتاتوري ومعرفة جوهر تناقضاتها، يستلزم ربط ذلك بالمشروع الاقتصادي (كجزء من مشروع استراتيجي أوسع) الذي طرحته سلطة الاحتلال – للاختصار، سنشير له لاحقا (المشروع) - ممثلا بما عرضة الحاكم المدني الأميركي للعراق السيء الذكر (بول بريمر) في مقال نشره في (وول ستريت جورنال)، فقد مثّل هذا المشروع " المانيفست/البيان الاقتصادي " لسلطة الاحتلال. وتكمن أهمية ذلك المقال في إنه يكشف، ولو بتكثيف، عن المشروع الاقتصادي لسلطة الاحتلال، الأمر الذي يستدعي قراءته قراءة مركبة تكشف المعلن، والمستور، في هذا المشروع وما تركه من آثار على الاقتصاد العراقي (23).
العناصر الأساسية للمشروع الاقتصادي لسلطة الاحتلال
لانجاز هذه المهمة لا بد أولا القيام بعرض مكثف لمفردات المشروع، هذا مع ملاحظة أن الجمل الموضوعة بين قويس تمثل اقتباسات من مقال (بريمر) المشار إليه أعلاه.
ينطلق (المشروع) من الوعد ( بمستقبل اقتصادي أفضل) مفترضا :
- انه ولكي ( يزدهر العراق، يجب تغيير اقتصاده).
- وأن العراق ( يواجه..... مشكلات فريدة)، غير أن مهندسي المشروع يستدركون قائلين: (لكننا نمتلك الخبرة من البلدان الاشتراكية السابقة وتحليلا لنجاحات البلدان الرأسمالية، لإغناء منظورنا).

ولكن (المشروع) وفي الوقت الذي كان يشير الى أنه (يعود الى العراقيين تحديد الوجهة النهائية لمستقبل العراق الاقتصادي)، غير انه يحسم الأمر بتحديد وجهة التطور عندما يقول: (سيعتمد النمو الاقتصادي على ولادة قطاع خاص نابض بالنشاط)، أي أنه يحدد مقدما النمط التنموي الذي سيتم تطبيقه. وسيتطلب هذا النمط من النمو – بحسب المشروع – ثلاثة شروط :
1. (إعادة توزيع إجمالية للموارد والأشخاص بإبعادهم عن سيطرة الدولة الى المؤسسات الخاصة) ؛
2. (تعزيز التجارة الخارجية)؛
3. (حشد رأس المال المحلي والأجنبي).
ويميّز (المشروع) بين ما ينبغي عمله على المدى القصير والمدى الطويل.
ويحدّد (المشروع) هدفه المركزي الأول في هذه المرحلة وهو (العمل مع العراقيين لوضع بلدهم على المسار الاقتصادي الصحيح).
أما على المدى البعيد فيطرح المشروع مفهوم التنمية المراد تحقيقها، منطلقا من التأكيد على أن الأمر ليس (مجرد إعادة بناء الأبنية الحكومية أو إصلاح الأنابيب المتضررة)، أي أن مهمته ليست فنية محايدة كما يعتقد البعض، بل أن (المشروع) له " مهمة تحويلية " تتمثل في التأسيس لنمط آخر من النمو يتطلب (تحولا عن سوء إدارة وإهمال وبنية صناعية ستالينية دامت ثلاثة عقود)، وينطلق من نقد للنمط التنموي الذي اعتمده النظام السابق حيث (...كان يجري توزيع رأس المال على أسس بيروقراطية وسياسية وليس استجابة لقوى السوق. وكان أكثر من ثلث الاقتصاد موجها الى دعم المؤسسة العسكرية العراقية الشرهة التي كانت مساهمتها ضئيلة، إذا وجدت أصلا، في كل ما يتعلق بتوفير الرفاهية للمستهلك)، إضافة الى طائفة من القضايا والإشكاليات التي وسمت النظام السابق، وهي معروفة.
وعلى أساس نقد التجربة السابقة، يطرح (المشروع) السؤال التالي: ماذا يقتضي لإبطال تأثير هذا الإرث؟ إنه يستحث – بحسب الروية هذه - انتقالا من نمط تنموي الى نمط آخر يرتبط بـ :
1. (ضرورة تشجيع القطاع الخاص على إعادة توزيع الموارد لاستخدمها على الوجه الأكثر إنتاجية) إضافة الى (تحفيز نمو المؤسسات الخاصة الصغيرة والمتوسطة، القادرة بصورة أفضل من غيرها على الخلق السريع لفرص العمل).
2. (تقليص الدعم للمؤسسات المملوكة للدولة).
3. (وتبني قانون اقتصادي واضح وشفاف).
(المشروع) إذن هنا واضح في توجهه: تشجيع القطاع الخاص (وان لم يحدد أي قطاع خاص يريد؟)، و " طرد " الدولة من الاقتصاد، وهو نفس التوجه الذي تروج له المؤسسات المالية والنقدية الدولية.
ولكن (المشروع) يستدرك عندما يشير الى أن (الجزء الأصعب من عمليات الانتقال هذه عندما يحين موعد تقليص نظام الدعم). ويفترض (المشروع) أن هذا يتطلب (أولا وضع شبكة حماية اجتماعية من اجل العمال الذين سيتأثرون من إغلاق بعض الشركات المملوكة للدولة. على الرغم من ان تقليص الدعم يشكل عنصرا حاسما في السياسة الاقتصادية، إلا انه يجب أن يكون رحيما) علما بأن تجارب البلدان التي طبقت بها وصفة تقليص الدعم أنه لم يكن رحيما قطعا بل كان قاسيا الى أقصى حدود القسوة.
ومقابل ذلك لا يكتفي (المشروع) بالشأن الداخلي بل يؤشر الى كيفية ارتباط الاقتصاد العراقي بالعالم الخارجي، وهنا ينطلق من التأكيد على ضرورة (انفتاح العراق على العالم) - طبعا من دون تحديد طبيعة ووجهة هذا الانفتاح -، نظرا الى ما يجلبه هذا " الانفتاح "، من (تحقيق فوائد جمة). وتفترض إستراتيجية الانفتاح على الخارج – بحسب المشروع الاقتصادي لسلطة الاحتلال – ما يلي :
1. (فتح الأبواب أمام الاستثمارات الأجنبية من رؤوس الأموال والتقنيات الإدارية والتكنولوجيات الحديثة. ويتطلب ذلك (تشجيع الوصول الى كل هذه الموارد للمستثمرين المحليين بمنحهم حرية التبضع في الأسواق العالمية وأمام المستثمرين الأجانب ذوي الخبرات في مجالات محددة).
2. ربط (الإصلاح المحلي بالإصلاح العالمي). ونظرا لأن " الإصلاح العالمي " – بحسب رؤية مهندسي هذا المشروع - هو تلك البرامج التي يتم تطبيقها في البلدان التي تخضع لوصفة المؤسسات المالية والنقدية الدولية الرأسمالية، فإن جوهر أطروحة بريمر واضحة هنا : يجب ربط ( الإصلاح المحلي ) بعجلة ( الإصلاح العالمي) المطبق تحت حراب تلك المؤسسات المشار إليها أعلاه.
وإضافة الى ما جرت الإشارة إليه من ملاحظات فإن الأطروحة المركزية التي يتمحور حولها (المشروع) كما يعبر عنه مقال (بريمر) هي الربط العضوي بين "الحرية الاقتصادية" و "الحرية السياسية" عندما يؤكد على أنه (يستحيل أن تظهر مستويات المعيشة المرتفعة والحرية السياسية إذا منعت الحرية الاقتصادية). وإذا دفعنا هذه الأطروحة الى نهايتها المنطقية أمكننا أن نستنتج أن نقطة الانطلاق هي " الحرية الاقتصادية ". وجوهر هذه الأطروحة هو أن (يحتل بناء اقتصاد عراقي مرتكز على مبادئ السوق الحر، موقعا مركزيا) في جهود سلطة الاحتلال. وعندما يتم تحقيق هذه المهمة سيكون ممكنا الحديث عن الخطوة اللاحقة أي " الحرية السياسية ". بعبارة أخرى إن التحولات السياسية المطلوبة والمفضية الى انتقال ديمقراطي، بما فيها إقامة حكومة عراقية سواء كانت مؤقتة أو غيرها، مؤجلة لحين بناء اقتصاد عراقي قائم على مبادئ واليات السوق الحر ‍‍‍‍!! وهذه القضية تستحق حوارا يتجاوز مظاهر الأشياء ليدخل في جوهر الإشكاليات والمرجعيات النظرية التي استند إليها "نموذج بريمر" لحل الأزمة البنيوية وفي مقدمتها الجانب الاقتصادي، وهو موديل آخر مستعار من الترسانة النظرية لـ " ثوار " الليبرالية الجديدة وصقورها " الاماجد ".
وملخص القول، اننا كنا أمام مشروع طموح لإعادة هيكلة الاقتصاد العراقي وتكيفه مع ما يعنيه ذلك من حراك اجتماعي ومن تحوّلات طبقية ومن صعود فئات على حساب أخرى.

الطريق الى جهنم معبد بـ "النيات الطيبة" !
ما هي إذن الأهداف الفعلية للمشروع الاقتصادي لسلطة الاحتلال؟

بعيدا عن " النيات الطيبة "، يسمح التأمل العميق في الأصول الفكرية التي ترتكز عليها إيديولوجيا ليبرالية التكييف وتفكيك ما طرحه المشروع الاقتصادي لسلطة الاحتلال الى مكوناته بالاستنتاج بأن الأهداف الفعلية لهذا (المشروع) يمكن بلورتها في:
• " طرد " الدولة من الحقل الاقتصادي وإبعادها كلية عن آليات السوق، مما يفتح الطريق أمام رؤوس الأموال الأجنبية لفرض هيمنها من مواقع قوية، على النشاط الاقتصادي المحلي.
• العمل على التدمير المنتظم والتدريجي للطاقات الإنتاجية المحلية من خلال إرغام البلاد على انتهاج مبدأ " تحرير التجارة الخارجية " وأساسا تجارة الاستيراد، مما يساعد على غزو السلع القادمة من البلدان المتطورة، التي تمتاز أصلا بقدرة تنافسية قوية مما يؤدي الى تدمير الصناعات المنتجة لتلك السلع، على الصعيد المحلي.
• خلق جيش احتياطي متزايد من البطالة وتنميته باستمرار في بلادنا لضمان خفض معدلات الأجور الحقيقية وتوفير عنصر العمل الرخيص أمام الشركات الأمريكية والمتعدية الجنسية التي يتعين أن تباشر دورها في ضمن متطلبات " المرحلة الانتقالية ".
• العمل على توفير رصيد كاف من العملات الصعبة ليس بهدف تمويل عملية التنمية ولكن أساسا لتمويل تحويلات أرباح ودخول الشركات المتعدية الجنسية العاملة في بلادنا وهي تطبق (المشروع)، إضافة لتمويل واردات البلاد وكذا تمكين السلطة الجديدة من تسديد التزاماتها الناجمة من عبء المديونية الخارجية أساساّ.
• التأثير في العلاقات الاجتماعية المحلية من خلال العمل على " خلق " فئات اجتماعية تستفيد من حزمة السياسات التي يتضمنها المشروع الاقتصادي. إن التطبيق " الناجح والمضمون " لهذا المشروع يستحث، من بين أمور عديدة، تفكيك التحالفات الاجتماعية " التقليدية " والعمل على خلق الشروط لنشوء وتطور تحالفات اجتماعية جديدة، تتضمن تلك القوى الاجتماعية التي تدافع عن تلك الحزمة من السياسات الجديدة وتكون أساسا أو قاعدة متينة للسلطة الجديدة ولها مصلحة فعلية في استمرار تنفيذ " إستراتيجية الانتقال " بحسب وصفة المشروع الاقتصادي لسلطة الاحتلال.

الخلاصة
إذا دفعنا التحليل والخلاصات أعلاه إلى نهاياتها المنطقية فإنه يمكن استخلاص استنتاج ذي طبيعة إستراتيجية وقوامه أن المشروع الاقتصادي لسلطة الاحتلال كان يراهن ويعمل بشكل حثيث على إخراج قضايا صنع السياسات الاقتصادية/الاجتماعية وتحديد أفاق التطور اللاحق من قبضة القوى الاجتماعية المحلية، وإخضاعها الى " قيادة مركزية خارجية "، أي الى المستوى الدولي ممثلا بالمنظمات الاقتصادية الدولية ومانحي القروض والمستثمرين الأجانب والشركات الاحتكارية المتعدية الجنسية.

خلال السنوات التي تلت الترويج للمشروع، وأمام عدم تبلور إستراتيجية تنموية وطنية واضحة المعالم، كنا أمام عملية تهميش اجتماعية واسعة، كانت عاملا رئيسيا من عوامل بروز العديد من الاتجاهات بما في ذلك بروز الإيديولوجيات والممارسات المعادية للديمقراطية والتي اتخذت تنويعات مختلفة، من بينها تعاظم النزعات المتطرفة وحروب الطوائف، والتي ما هي - في بعض جوانبها وليس كلها طبعا- إلا تعبيرات إيديولوجية عن الإقصاء والتهميش الذي عانته القوى المهمشة سياسيا واقتصاديا. فكما هو معروف فإن " مجتمع التهميش " يتكون سوسيولوجيا من كل المبعدين عن العملية الإنتاجية والاستهلاكية كذلك (بفعل جملة عوامل في مقدمتها البطالة)، ويضم فئات اجتماعية سيزداد حجمها باستمرار.
ملخص القول: إن هذا (المشروع) بدلا من أن يساعد على تجاوز المشكلات الفعلية فإنه ساهم في تعميق ألازمة البنيوية، ونقلها إلى مديّات جديدة، وفاقم تناقضاتها المتوترة دوماً. ومن هنا يمكن القول أيضا: إن للتاريخ خيباته التي لا ترحم.