مدارات

12 عاما على أحداث 11 سبتمبر 2001 وتداعياتها(5- 7) / د. صالح ياسر

معالم "التحولات" الاستراتيجية في عهد اوباما

 بداية، يمكن القول أنه ورغم تبدل الرؤساء في الولايات المتحدة فان الاستراتيجيات المعتمدة لا تتعرض لتغيرات جوهرية بسبب ثبات المصالح الامريكية. ولكن مع ذلك لا بد من طرح بعض الملاحظات هنا لتبيان " بعض التباينات" على مستوى التكتيكات بشان هذه القضية أو تلك.

وقبل ذلك لا بد من ملاحظة مهمة حول شروط ومتطلبات التغيرات في اية استراتيجية لان تلك التغيرات لا تتم بناء على رغبات ذاتية لهذا الزعيم او ذاك.

    يشير الادب الخاص بهذا الموضوع الى ان هناك أربعة أنماط نظرية للتغير في استراتيجيات الدول وسياساتها الخارجية التي تحكم حركة تفاعلاتها الدولية. ووفقًا لتشارلز هيرمان  Charles Hermann(29)،فهي أولا: ما يمكن وصفه بالتغير "التكيفي"؛ ويقصد به التغير في مستوى الاهتمام الموجه إلى قضية ما مع بقاء أهداف السياسة وأدواتها تجاه التعاطي مع تلك القضية كما هي من دون المساس بها أو تغييرها. وثانيا: وهو ما يطلق عليه التغير "البرنامجي"؛ والذي ينصرف إلى تغيير أدوات السياسة ووسائلها من دون أي تغيير فيما يتعلق بالأهداف والغايات المقصودة من ورائها. وثالثا: ما يسمى بالتغير "الهدفي"؛ وفي هذا النمط تتغير أهداف السياسة ذاتها ومن ثم تتغير أدواتها ووسائلها بالتبعية. ورابعا: التغير "التوجهي"؛ وهو أكثر الأنماط الأربعة تطرفًا وجذريةً إذ ينصرف إلى تغير يمس التوجه العام للسياسة الخارجية للدولة بما في ذلك تغير الاستراتيجيات وما يتبعها من أهداف وغايات ووسائل وأدوات.

    وإذا كان النمط الأول (التغير التكيفي) – طبقًا لهيرمانHermann – يعد نمطًا نظريًا بحتًا دون أن يكون له مردود حقيقي على واقع الاستراتيجيات وأهدافها ومن ثم فهو من الناحية العملية لا يعد تغيرًا حقيقيًا، فإن النمط الرابع (التغير التوجهي) يعد – وفقًا لجيمس روزيناوJames Rosenau  - شكلاً نادر الحدوث في العلاقات الدولية، ومن ثم فإن النمطين الثاني – البرنامجي – والثالث – الهدفي – هما الأكثر شيوعًا من بين الأنماط النظرية الأربعة المفترضة للتغير في السياسات الدولية وذلك اعتبارًا لمبدأ التدرجية الحاكم لمنطق التغيير الاستراتيجي للدول لاعتبارات تتعلق بواقع تلك الدول وأخرى تتعلق بالواقع الدولي وتفاعلاته وعملياته.

 

    يبدو أن إدارة أوباما ومن خلال الممارسة أقرب في صياغتها لاستراتيجيتها إلى المدرسة الليبرالية المثالية، مع تطوير انتقائي لها، وبالمقابل انها تعتمد استراتيجية تمزج بين جوانب من المدرسة الواقعية المحافظة والمدرسة الليبرالية المثالية (30)، بواقع الاضطرار وليس الرغبة.

    لا يمكن فهم أي تغيير في الاستراتيجية بمعزل عن البيئة التي تطبق فيها. ولهذا يمكنالقول بأن الأزمة المالية، التي اندلعت في عام 2008 وتحولت لاحقا الى ازمة اقتصادية عميقة (31)، وإعادة صياغة السياسة الخارجية الأمريكية شكّلا المَيلينالاستراتيجيَّين الحديثَين الأكثر بروزاً عند انتخاب (باراك اوباما) رئيسا للولايات المتحدة بعد هزيمة مرشح الحزب الجمهوري جورج بوش الابن.

    كان للأزمة المالية، المشار اليها اعلاه، من ناحية تأثير كابحللسياسة الخارجية لأوباما. صحيح أن الرئيس الأمريكي الجديد وضع أجندة طموحة للسياسةالخارجية، بيد أن معالجة الأزمة المالية والشروع في إصلاحات داخلية استحوذت على جزءكبير من اهتمامه خلال سنته الأولى في الحكم. وبالإضافة إلى ذلك، عملت نتائج الأزمةالمالية، مثل العجز المالي المتفاقم وتدهور البورصة، والبطالة المتفاقمة، والركود الاقتصادي، وانشغال الناخبين بالقضايا المحلية، والتحولاتالمتسارعة للقوة نحو الشرق، على إضعاف قدرة الولايات المتحدة على مواصلة العملكـ "ضامن للأمن العالمي".

    كان الميل الرئيسي الثاني هو إعادة توجيه السياسة الخارجيةالأمريكية، مكيّفاً إياها مع بيئة متغيرة، ومعلناً القطيعة، على الاقل نظريا، لإرث سيء تركهسلفه (جورج دبليو بوش).

    ورأى بعض المحللين أن استراتيجية أوباما انطوت على أبعاد ومفاهيم جديدة تختلف عن مفاهيم حقبة بوش، وأن هذه أول استراتيجية أمن قومي تعترف بتعقد التحديات التي سوف تواجهها الولايات المتحدة في القرن الحادي والعشرين، وتقر بأن بيئة اليوم الاستراتيجية لا يتحكم بها تهديد واحد، ولكن خليطا معقدا من التحديات والفرص على النطاق العالمي، بدأ من الصراعات المسلحة التقليدية والهجمات الإرهابية، مرورا بالتغير المناخي، والأوبئة، الطاقة والتغير المناخي والندرة والهموم البيئية.

     سعى أوباما لمواجهة كافة هذهالتحديات باعتماد "أسلوب جديد" في السياسة الخارجية وتبنّي العديد من العناصر"الجديدة":

- على صعيد الأسلوب، تبنّى في السياسة الخارجية مقاربة تشددعلى قيم الدبلوماسية والمسؤولية المشتركة. فبدلاً من فرض الحلول على الآخرين، على الاقل ظاهريا، كررالدعوة إلى "مرحلة جديدة من المشاركة مع العالم بناء على المصالح المتبادلة وعلىالاحترام المتبادل"، مصوّراً الولايات المتحدة كشريك بدلاً من قائدمتسلّط. وبتبنّيه موقفاً واقعياً براغماتياً، دعا إلى محاورة الأنظمة العدائية.

    كما أنه طرأ تغيير على النبرة وعلى الرمزية. فقد استبدل أوباماعبارة "الحرب على الإرهاب" الباعثة على الاستقطاب بخط يميل إلى مزيد من التصالح،وتطلّع إلى تقويم انتهاكات حقوق الإنسان في الولايات المتحدة فيما يتعلق بطرقالاستجواب. وتقرر إغلاق معتقل غوانتنامو في غضون عام، برغم أن عقبات قانونية وأخرىسياسية أخرت إغلاقه الى حين.

    نحن هنا اذن امام استراتيجية " القوة الناعمة" التي تعني القدرة على التوصل إلى الغاية المطلوبة من خلال جذب الآخرين، وليس باللجوء إلى التهديد أو الجزاء. واضافة لذلك تقرن استراتيجية اوباما التواصل الدبلوماسي والإجراءات الاقتصادية بالقوة العسكرية لتعزيز وضع الولايات المتحدة في العالم، أي اعتماد " القوة الصلبة" عند الضرورة. وتدعو إستراتيجية باراك أوباما لتوسيع الشراكات، بحيث لا تقتصر على حلفاء الولايات المتحدة التقليديين بهدف دفع قوى صاعدة مثل الصين والهند للمشاركة في تحمل الأعباء الدولية.

    ونظريا، تعني استراتيجبة اوباما التخلي عن سياسة الحرب الوقائية التي انتهجها سلفه جورج بوش، والتأكيد بدل ذلك على إعطاء الأولوية للدبلوماسية متعددة الأطراف وليس القوة العسكرية في محاولته لإعادة صياغة النظام العالمي. ولكن العديد من ممارسات الادارة الامريكية في عهد اوباما تدلل على ان القوة العسكرية مكون بنيوي في الاستراتيجية الامريكية لاعادة انتاج الوضع العالمي وتنميطه بمقاسات امريكية، بغض النظر عما اذا كانت الادارة جمهورية ام ديمقراطية. فمثلا رغم تأكيدات مستشار وزير الدفاع الأميركي (هاجل) لمكافحة الإرهاب في أحد المؤتمرات المغلقة على أن الولايات المتحدة لن تذهب لأية حرب إلا إذا كانت مكرهةً وكخيار أخير، وأنها لن تذهب للحرب بمفردها بل في إطار تفويض دولي من الأمم المتحدة ومشاركة حلفائها، فاننا نشهد هذه الايام عربدة امريكية صاخبة بالتهديد بالعودة مجددا لخيار الحرب من خلال تاكيد الرئيس الامريكي (اوباما) على "معاقبة" النظام السوري بحجة استخدام الاخير للسلاك الكيمياوي في بعض ريف دمشق، وسقوط اعداد كبيرة من المدنيين ضحية له، علما ان قرار "المعاقبة" اتخذ قبل التاكد من هو الفاعل، حيث ما زال مفتشو الامم المتحدة يجمعون المعطيات في الميدان لتحليلها، وان القرار لا يستند الى الشرعية الدولية وقرارات الامم المتحدة. ويبدوأن الهدف الأساسي من توجيه "ضربة محدودة" لا يخص النظام السوري لوحده بل يتعدى الامر ذلك هادفا الى إيصال رسالة إلى خارج الحدود السورية مفادها أن تجاهل إنذارات الولايات المتحدة ستكون له تبعات دوماً. ولهذا فإن القراءة السياسية المركبة لـ "الضربة المحدودة" ولأبعادها تتيح القول ان المنطقة ذاهبة نحو حرب شاملة لا يعرف احد كيف ستكون نتائجها.

    هكذا تتراجع للخلف " القوة الناعمة" لتحل محلها لغة محاربة بحيث يبدو كما لو ان العالم يعيش اجواء العقيدية "البوشية" التي هيمنت بعد احداث سبتمبر 2001.

    هيمنت الأزمات الدائرة في جنوب آسيا وفي الشرق الأوسط على السياسةالخارجية الأمريكية خلال السنة الأولى من رئاسة باراك أوباما. كما من الواضحأنه توجد قضايا سياسية خارجية أخرى ذات أهمية استراتيجية بعيدة المدى تحتل مكانةعالية في الأجندة أيضاً، مثل إعادة صياغة العلاقات مع كل من روسيا الاتحادية والصين. على أنأكثر التحديات إلحاحاً، على المدى القصير، كانت تتعلق بالحربين الدائرتين في أفغانستانوالعراق، وأزمة البرنامج النووي الإيراني، والصراع الفلسطيني- الإسرائيلي.
طرح أوباما مقاربات جديدة في التعاطي معأغلب هذه القضايا، وهذا يعكس تشديده على "التغيير" على صعيد أسلوب السياسة الخارجيةالأمريكية ومضمونها. ونقل التركيزَ الاستراتيجي للولاياتالمتحدة ومواردها من العراق إلى أفغانستان، وصاغ استراتيجية جديدة لأفغانستانوباكستان، وشرع في سياسة انفتاح على إيران.

    ومن المفيد الاشارة هنا الى ان استراتيجيةأوباما الخاصة بِأفغانستان، وبعد مراجعتين في عام 2009، قد تميّزت بخاصّيتين:

·       الأولىهي ما يمكن وصفه بـ "الأمركة المتزايدة" لمجهودإدارة أزمة دولية. صحيح أن العديد من الحلفاء يرسلون مزيداً من الجنود إلىأفغانستان أيضاً، لكن الحصة النسبية للمساهمة الأمريكية تزداد بشكل ملحوظ.

·       والثانيةهي أن الاستراتيجية تهدف إلى تحويل الأزمة إلىحرب أفغانية -افغانيةفي مرحلة مبكرة وتعترف ضمناً بأن هناك حدوداً لقدرة الولايات المتحدةوعزمها على البقاء متمسكة بالتزامها في أفغانستان والاضطلاع على العموم بدور الضامنالرئيسي للأمن في العالم.

    على أنه يتعين القول بأن جزءاً من الغاية التي تقفخلف تحديد موعد للانسحاب يعود إلى الضغط المتزايد على الأفغان لزيادة فاعليةمؤسساتهم. كما أنه بعدم تحديد وتيرة هذا الانسحاب وحجمه، أظهر أوباما حرصه فيالمحافظة على المرونة بما يخُص تطوّرالاستراتيجية الأمريكية في أفغانستان بعد عام 2011.لكن يبقى هناك بُعد محلّي قوي إلى ذلك التاريخ. فقد شكلت الاعتباراتالانتخابية المحور الأساسي في خطاب ويست بوينت عندما قال اوباما ما يلي: "لا يمكن أن يكون التزام قواتنا فيأفغانستان إلى أجل غير محدود، لأن الأمّة التي أنا أكثر اهتماماً ببنائها هيأمّتنا".


المراجعة الاستراتيجية - بعض ملامحالإستراتيجية الدفاعية الأمريكية الجديدة في عهد اوباما

    بحضور كبار قادة المؤسسة العسكرية الأمريكية، على رأسهم وزير الدفاع ليون بانيتا، Leon Panetta، ورئيس هيئة أركان القوات المشتركة وقادة صنوف الأسلحة المختلفة، ومن على منصة مؤتمر صحفي عقده في مقر وزارة الدفاع، أماط الرئيس الأمريكي اوباما اللثام عن أهم ملامح المراجعة الإستراتيجية، أو ما أُصطلح على تسميته بالإستراتيجية الدفاعية الأمريكية الجديدة (32) والتي تتكون من 128 صفحة، وقد استغرق صياغتها عاما كاملا، وشارك في إعدادها  700 شخصية من وزارة الدفاع ومنظومات التسليح ومراكز الدراسات المعنية وخبراء عسكريين بهذا الشأن. وما يثير الانتباه حقا أن هذه الاستراتيجية قد صدرت بعد مرور حوالي عام ونصف تقريبا على صعود هذه الإدارة (ادارة اوبوما). وهذا يعني من بين ما يعنيه أن إدارة أوباما الديمقراطية، قد ظلت طوال العام والنصف تقريبا بلا استراتيجية أمن قومي، وهو ما دفع العديد من المراقبين إلى اعتماد وجهة نظر افترضت أن مذهبية إدارة أوباما الديمقراطية الأمنية هي مجرد امتداد لمذهبية إدارة بوش الأمنية.

فمثلا أشارت الاستراتيجية إلى ضرورة أن تسعى أميركا إلى إقامة نظام دولي "عادل". واذا دفعنا هذا المفهوم الى نهايته المنطقية لوجدنا أن كلمة "عادل" التي استخدمتها الاستراتيجية تتناقض وتتعاكس بشكل كامل مع كل معطيات مفهوم العدالة المتفق عليها في القوانين الدولية والوطنية. فالاستراتيجية الأميركية تسعى إلى تأسيس مفهوم جديد للعدالة يقوم على أساس اعتبارات "الاستثنائية الأميركية" بحيث يتسنى إقامة نظام دولي تقوده أميركا (بحسب مفهوم الديمقراطيين) أو تهيمن عليه أميركا (بحسب فهم الجمهوريين).

أثارت هذه الإستراتيجية التي صدرت في ايار 2010 سجالات بين المعنيين بالشأن الاستراتيجي، خصوصا فيما يتعلق بالجديد الذي أتت به والقديم الذي انطوت عليه (33).

البعض قال إن ما أتت به إدارة أوباما هو تكرار لاستراتيجية بوش في كل أبعادها، وإن ما بها من جوانب استمرار مع عهد بوش أكثر مما بها من جوانب تغيير أو قطيعة بين استراتيجية أوباما واستراتيجيتي بوش وأسلافه من الرؤساء الأمريكيين في العصور الحديثة. ولتأكيد ذلك تستدل وجهة النظر هذه بالعلاقات الأطلسية التي لا تزل هي حجر الزاوية في العلاقات الأمريكية الدولية على نحو ما ورد باستراتيجية أوباما، ولا زال أكبر خطر على الولايات المتحدة يأتي من أسلحة الدمار الشامل في أيدي الإرهابيين، كما أن الولايات المتحدة سوف تحتفظ بالحق في العمل الانفرادي ولن تستبعد حقها في توجيه ضربات استباقية، وسوف تحافظ على التفوق العسكري، وتعزز الديمقراطية، وتعزل إيران وكوريا الشمالية، وتكافح التطرف العنيف، وتعمل ضد طالبان وضد العراقيين. وتنتهي وجهة النظر هذه إلى أن هناك اختلافات قليلة في الجوهر وكثيرة في النغمة بين استراتيجية أوباما 2010 واستراتيجيتي بوش 2002 و2006.

    في حين ان البعض الآخر رأى فيما جاءت به استراتيجية 2010 تغييرا دراماتيكيا وقطيعة تامة مع إدارة بوش حول الأمن القومي وانفصالا تاما عن الماضي. ويدللون على فكرتهم هذه بالاشارة الى أن استراتيجية أوباما انطوت على أبعاد ومفاهيم جديدة تختلف عن مفاهيم حقبة بوش، وأن هذه أول استراتيجية أمن قومي تعترف بتعقد التحديات التي سوف تواجهها الولايات المتحدة في القرن الحادي والعشرين، وأنها أول إستراتيجية تجمع بين ثنائية تعزيز الأمن والرخاء الأمريكي. وتعترف الاستراتيجية بأن بيئة اليوم الاستراتيجية لا يتحكم بها تهديد واحد، ولكن خليطا معقدا من التحديات والفرص على النطاق العالمي، فعلاوة على الصراعات المسلحة التقليدية والهجمات الإرهابية، اعترف الرئيس بأن القضايا غير التقليدية مثل التغير المناخي، والأوبئة، وتحديات استغلال المشاعات العالمية، سوف تكون أساسية في حفظ الأمن القومي الأمريكي في القرن الحادي والعشرين.

    خلاصة القول انه ورغم الخلافات اعلاه فانه ومن خلال قراءة استراتيجيات الأمن القومي منذ عام 1991 وحتى عام 2010 (8 استراتيجيات) لإدارات جمهورية وديمقراطية مختلفة، يمكن الاستنتاج  أن هناك درجة من الاستمرارية والحفاظ على خطوط عامة لتوجهات الأمن القومي الأمريكي، بل هناك تكرار لفقرات بعينها كما هي. لكن بالمقابل يمكن القول ايضا إن كل إستراتيجية لها قلب ومركز.

    ويمكن القول ان السطور الأولى في استراتيجية الأمن القومي الأميركي عام 2010 جاءت وهي تلخص أزمة العقل السياسي الأميركي المعاصر، والذي مازال أكثر تمسكا بمشروع السيطرة على العالم, وهي السيطرة التي أطلقت عليها استراتيجيات الأمن القومي الأميركي والتي اعتمدها الجمهوريون تسمية "الهيمنة الأميركية على العالم" وأطلق عليها الديمقراطيون في هذا الاستراتيجية تسمية "قيادة أميركا للعالم" وبرغم الفرق الشكلي فإن المضمون هو نفسه بين القيادة والهيمنة.

    لنعود الى الوثيقة الرسمية ذاتها والتي حملت عنوانا فيه كثير من الرمزية والإيحاء: (تعزيز - استدامة- قيادة الولايات المتحدة للعالم: أولويات دفاع القرن الواحد والعشرين Sustaining U.S. Global Leadership: Priorities for 21st Century Defense) في إشارة واضحة للمعنيين بأمر منافستها أو الطامحين لإرساء نظام عالمي يقطع مع هيمنة القطب الواحد. إشارات، كما يبدو، لم يرصدها سوى الصين، في حين ركّز البقية على خفض الموازنة وعدد الجنود، ليخطئ المضامين الفعلية للمراجعة! الموقف الرسمي الصيني عبّرت عنه صحيفة (غلوبل تايمز Global Times)، التي يشرف عليها الحزب الشيوعي الصيني، بتعليقها: "إن الإستراتيجية الأمريكية الجديدة تمثّل تغيّرا كبيرا يبدو القصد منه استهداف الصين"، في إشارة إلى أن الولايات المتحدة "لا تفهم العقيدة العسكرية الصينية"!.

    وابرز المحاور الأساسية التي طرحت في هذه الوثيقة  هي (36):

 

1. إدامة تحقيق الأهداف والغايات الإستراتيجية المنصوص عليها في الإستراتيجية العليا/ الشاملة للولايات المتحدة الأمريكية، والمحددة في الإستراتيجية العسكرية .

2. إعادة تقييم البيئة الاستراتيجة، وتحديد قائمة التهديدات الرئيسية والتحديات الآنية والمحتملة التي يواجهها الجيش الأمريكي ضمن تلك الفترة الزمنية.

3. إعادة تأهيل القوات المسلحة الأمريكية، ورفع مستوى جاهزيتها، وتحقيق التوازن بين مختلف القدرات العسكرية لتحقيق ما يسمى النصر في الحروب الحالية.

4. الاستمرار في مشاريع التسليح الحالية وتطوير القدرات الفضائية بغية التعامل مع الحروب المتوقعة ضمن لوحة الحرب الأمريكية.

5. استمرار العمليات والانفاق العسكري على حربي العراق وأفغانستان.

6. عسكرة السياسية الخارجية بالاعتماد على التحالفات القديمة والشراكات الجديدة.

7. تقيم العدو القادم بمزدوجي الدول والفاعلين الغير حكوميين.

 

    وثمة اولويات عديدة لهذه الاستراتيجية.

    الأولوية الأولى هي "الانتصار في حروب اليوم" التي تخوضها واشنطن لأن "النجاح في الحروب المقبلة سوف يعتمد على النجاح في هذه الحروب الجارية".

    والأولية الثانيةالتي تسعى إليها إدارة أوباما هي امتلاك قوة اميركية قادرة في آن واحد "على حماية مصالح الولايات المتحدة ضد أي عدد من التهديدات، بما في ذلك تهديدات دولتين معتديتين مقتدرتين" وعدم الاكتفاء بالقدرة الأميركية الحالية على خوض حربين كبيرتين في وقت واحد.

    ومن المؤكد ان تحقيق استراتيجية طموحة كهذه يتطلب انفاقا كبيرا. فمثلا طلب الرئيس الامريكي (باراك أوباما) من الكونغرس (708) مليار دولار للسنة المالية 2011 وهي أكبر من أي ميزانية عسكرية أميركية منذ الحرب العالمية الثانية، علما ان تكلفة الحربين على العراق وأفغانستان "147 مليار دولار سنويا.

    ومجددا لا بد من العودة الى البيئة الاستراتيجية الجديدة. فهذه الاستراتيجية الدفاعية الجديدة تبلورت نتيجة المأزق الذي عانته القوات الأمريكية بأفغانستان والعراق طوال سنوات ما يسميه بعض الكتاب " التيه الإستراتيجي"، يضاف لذلك الأزمة الاقتصادية المشتعلة منذ 2008. هكذا اذن تم هندسة هذه الإستراتيجية الدفاعية الجديدة لتشكّل التحوّل الأبرز منذ حرب فيتنام.

    ويشير بعض الباحثين والمحللين الاستراتيجيين (35) الى ان هذه الإستراتيجية تعد نقطة مفصلية في تاريخ العسكرية الأمريكية، ليس لأنها تسعى للتكيّف مع واقع جيو- إستراتيجي متقلّب، وتستجيب للتحوّلات الجوهرية في طبيعة الحروب ومسرحها وأدواتها، وتستأنس بخارطة تهديدات تتوالد داخل مناخ أمني وفضاء سيبيري محفوفين بالخطر، فحسب، بل لأنها تقطع مع الحروب التقليدية الثقيلة، لتؤسّس لحروب ما سماه، وزير الدفاع في حينه (ليون بانيتا) بالـ "تحوّل التاريخي إلى المستقبل"، "الحروب الذكيةSmart Wars ". هذا عن طبيعة الحرب، أما عن أساليبها فجمع بين القصف المنظّم و"دقيق" التصويب، والقوة الجوية والبحرية الضاربة، والتفوّق الإلكتروني والمعلوماتي. في اختصار هو تحوّل جوهري من عقيدة الحرب على جبهتين أو بمسرحي عمليات إلى عقيدة القيادة من الخلف، Leading From Behind، أو الحرب الخاطفة ذات العمليات الجوية والبحرية المحدودة، بفرق خاصة خفيفة، وتوظيف لمنظومة مُعقّدة ومتكاملة لأحدث تقنيات التشويش والجوسسة والاختراق والتصنّت، وتكنولوجيا المعلوماتية والحرب التكنولوجية واستخدام الطائرات دون طيار Drones.

    كما تحثّ الاستراتيجية العسكريين على تطوير التكنولوجيات الحديثة وأنظمة الدفاع المعقّدة لزيادة قدرات القوات البحرية والجوية "استعراضا للقوة" و "ردعا" للقوى الصاعدة أو المنافسين المحتملين، خصوصا في منطقة آسيا والمحيط الهادي، كما يصرّح بانيتا. أما عن منطقة الخليج فلم يخف واضعو هذه الإستراتيجية الجديدة اهتمامهم بالمحافظة على أمنها واستقرارها، مؤكّدين على ضرورة توظيف علاقة الولايات المتحدة الأمريكية المتينة بدول مجلس التعاون الخليجي وذلك لبذل الجهود من أجل استتباب الأمن، و"منع إيران من تطوير قدراتها النووية العسكرية ومواجهة سياساتها المقوّضة للاستقرار".

    وتتيح قراءة هذه الاستراتيجية الاستنتاج بانها تنطوي على عدة رسائل في وقت واحد:

 أولهاأن منطقة الشرق الأوسط، لا تزال ومنذ عقيدة كارتر، Carter Doctrine، مصلحة إستراتيجية حيوية أمريكية وخطا فاصلا، ستذود عنه الولايات المتحدة وإن اقتضى الأمر التدخّل العسكري، و ستظلّ "متيقّظة" رغم تجديد الإستراتيجية وخفض الموازنة وإعادة انتشار قواتها.

الرسالة الثانية موجهة الى الصين. فتركيز الولايات المتحدة، في الاستراتيجية الجديدة، على منطقة آسيا والمحيط الهندي هي رسالة موجّهة إلى صُناع القرار بالصين، تحديدا، ومفادها أن على بكين أن تعلم أن الولايات المتحدة وهي تزحف نحو الباسيفيك إنما تسعى لتعزيز وجودها اقتصاديا وعسكريا لتحجيم أي تمدّد إستراتيجي صيني. وقد عبر رئيس أركان الجيوش الأميركية بوضوح عن هذه القضية حين اعتبر أن "هذا القرن هو قرن الباسيفيك"، محذّرا من أن الولايات المتحدة لن تتنازل عن إقليم يمتاز بكونه "منطقة حاسمة اقتصادياً، و أن السلام والاستقرار فيها على غاية من الأهمية الحيوية وعليه فإننا لن نتخلى عنه لأي أحد"!.

الرسالة الثالثة الى اورباومفادها ان الوقت قد حان لكي تتحمّل أوروبا مسؤولية أمنها، وأن تعويلها على الولايات المتحدة كما كان دائما، لتزويدها بالعدة والمعلومات والوقود، صار عبئا استراتيجيا لم يعد بمقدور الولايات المتحدة، الوفاء به.

    ومن المفيد الاشارة الى انه جرى تحول تكتيكي في الإستراتيجية الأمريكية وذلك بالإشارة الى القوة اللامتماثلة أو ما يطلق عليه " اللاعبين غير حكوميين"، مما يوسع دائرة الاستهداف للخصوم  لتشمل دول وتنظيمات تصنفها أمريكا "إرهابية" وفق المفهوم الامريكي للإرهاب. والملفت للنظر هنا ربط تلك التنظيمات بانتشار الأسلحة النووية والتكنولوجيا المدمّرة، وبما يشابه مناخ نزع أسلحة الدمار الشامل العراقية في عهد صدام حسين. وبحسب المقاربة الامريكية لهذه المنظمات والاشخاص فان هؤلاء اصبحوا يشكلون تهديدا دائما للولايات المتّحدة وشركائها، الامر الذي يتطلب استخدام كافة عناصر القوة الأمريكية والدولية، ويقصد بها مزواجة القدرة الصلبة والناعمة حالما تطلب الأمر ذلك.