مدارات

في المشكلة الطائفية/ د. فالح عبد الجبار .الجزء الأول

الدراسات الغربية حول تسييس الهويات الدينية الجزئية ( الطائفية) في العالم العربي - الإسلامي، تتكاثر في الغرب منذ عقد أو نحوه، بدرجة لافتة، بالمقارنة بفقر أو انعدام مثل هذه الدراسات على الصعيد العربي. هذا التكاثر هو انعكاس لاحتدام وانتشار التسييس الحادّ (وأحياناً العسكرة) للهويات الدينية الجزئية (لطائفية) Identities-sub communal or sectarian ، وما ينجم عنها من مشكلات سياسية، واجتماعية، واقتصادية، وأمنية، بالغة التعقيد، ذات طابع وطني وإقليمي عالمي.

المعنى العام للطائفية وحدودها

يتفق العالم الأكاديمي على أن الهويات الدينية الجزئية (الطائفية) تقوم على عدة ركائز: أولاها تعيين الهوية الدينية أو الهوية المذهبية (في دين منقسم) على أساس الجماعة أو الطائفة وليس على أساس هوية الأمة-الدولة، وثانيتها تسييس هذه الهوية كوحدة للفعل الجمعي كبديل عن الهويات الاجتماعية (الطبقات) أو الهويات الايديولوجية، سواء بإزاء الجماعات الأخرى المغايرة أو بإزاء الدولة، وثالثتها أن الهويات الدينية الجزئية تنشطر بتأثير التنظيمات الاجتماعية (قبائل،مناطق، طبقات) أو هي التي تشطر هذه التنظيمات، ورابعا أن الجماعة الجزئية سواء قامت على انقسام داخل الدين الواحد (المذهب) أو على تعدد الأديان، أو تعدد الإثنيات (الجماعات القومية) ذات المذهب أو الدين المختلف، فانها ليست كيانا صوانيا ولا بنية ثابتة.
تفسير اشتداد هذه الظاهرة في المنطقة العربية (والإسلامية بشكل محدود) في العقدين الأخيرين، منقسم عند الأكاديميين بين تيارين عريضين:

التيار الأول يرى أن الظاهرة "قديمة" قدم الأديان والمذاهب، أي ظاهرة متصلة، جوهرية، ذات طابع تاريخي.

أما التيار الثاني فيرى أن الظاهرة "جديدة"، ظرفية.

ونرى هنا أنها ترتبط بمشكلات تطور الدولة الحديثة وبالتحديد بعد بلوغ هذه الأخيرة درجة مفرطة من التمركز والاحتكار المتعدد. ولعلنا نتفق مع هذا التيار في أن معظم القرن السابق لم يشهد مثل هذا التسييس، رغم وجود الهويات الجزئية بما فيها من قوى اجتماعية ومؤسسات اكليروسية، وطقوس وشعائر. لكننا نضيف أمرين: وجوب التمييز بين الدول التي استمر طابعها السلالي-التقليدي بدرجات متفاوتة حتى اللحظة، فهي دول-سلالات ترتكز على الدين-العرف، وهي بالتالي مولدة للانقسام الطائفي، وبين الدول الحديثة التي تتسم بشرعية دستورية أو شرعية ثورية-ذاتية، فهذه الأخيرة هي المصابة بلوثة الإحياء للهويات الجزئية ثمرة تأزم تطورها الاحتكاري الاستبدادي، وثمرة التحول المرافق المأزوم في الثقافة السياسية والقيم، أي التحول من الايديولوجيات الحديثة (القومية، الاشتراكية، الماركسية، الليبرالية) إلى الايديولوجيا الإسلامية، ونمو حركاتها الجماهيرية، مشفوعة بتغير إقليمي اثر الثورة الإيرانية في 1979.
هذا يدعونا إلى التفريق بين الهوية الجزئية كـ "هوية ثقافية"، وبينها كـ "هوية مسيّسة". فالهويات الدينية الجزئية قديمة أما تسييها فظاهرة جديدة.
اخذين في الاعتبار أن التقسيم العام للدول العربية بين دول سلالية وأخرى حديثة لا يغطي المشهد العربي، ولدينا في الأقل مثال لبنان، حيث نجد أن الطائفية في العراق أو سوريا مثلا هي فضاء ثقافي-تنظيمي وليست تنظيما اجتماعيا، فالتنظيم الاجتماعي يقوم على القبائل والأسر الممتدة في الأرياف ووسط المهاجرين القرويين، أو على الطبقات الحديثة في المدن القائمة على مشترك المصالح والقيم وطراز العيش. في حين أن الجماعت الطائفية في لبنان تتميز بارتكازها على تنظيم القرية وارتباط القرى المتماثلة دينيا بزعماء الطائفة السياسيين الذين يتوسطون بين القرية-الطائفة من هنا والدولة-السوق من هناك.
إن أغلب الدراسات المتاحة تتركز على الانقسام السني - الشيعي وإن قلة منها تميل إلى إضافة الانقسام الإسلامي - المسيحي (مثال لبنان، وأقباط مصر، ومسيحيي جنوب السودان).
الدراسات المتاحة تدور في اغلبها على المشرق العربي (يشمل ذلك مصر والسودان) والخليج، إضافة إلى إيران وتركيا وأفغانستان وباكستان، في حين إن المغرب العربي لا يندرج عموما في هذه الدراسات ، بسبب سعة التجانس المذهبي، من جانب، وتركّز الاهتمام السوسيولوجي - الأنثروبولوجي على التشظّي القبلي (ليبيا، والمغرب)، وعلى الهويات الإثنية (الأمازيغية أو البربر).
في هذه الورقة محاولة لوضع مقاربة منهجية لدراسة الظاهرة دراسة مقارنة على امتداد الرقعة العربية، لتعيين تخوم الظاهرة الطائفية، وتلمّس إمكانات تطوير استراتيجيات عابرة للطوائف، من شأنها أن تثلم حدّة الظاهرة، وصولاً إلى احتوائها، وانتهاءً ببناء نسيج وطني - قومي مستقبلي موحّد. وننطلق هنا من اعتبارين:

أولا: اعتبار تسييس وادلجة الهويات الجزئية ظاهرة جديدة كل الجدة، رغم قدم هذه الهويات كفضاء ثقافي-اجتماعي.

وثانيا: إن هذا التسييس اعتمد على منابع الخزين التاريخي للهويات الثقافية الممتد لتاريخ طويل، بقيت بناه واضحة في عهود الدولة السلالية السابقة للدولة الحديثة، ولكن

ثالثا: إن التسييس نفسه، أي القدرة على تحويل الهوية الثقافية إلى حركة احتجاج وانقسام سياسي اجتماعي- ايديولوجي، سيرورة مديدة ومتعرجة انحسرت ولم تشتد إلا في العقدين الأخيرين من القرن العشرين.

ورابعا: إن عوامل هذا النجاح في تسييس هذه الهويات لا يرجع فقط إلى الطابع المركزي المفرط للدولة الحديثة وسياساتها الاحتكارية خصوصا في صيغتها ما بعد الكولونيالية، أي الفترة الممتدة من منتصف القرن العشرين حتى نهايته، بل يتعداه إلى نشاط وايديولوجيا الإسلام السياسي وشرائح من المؤسسة الدينية وطبقة رجال الدين، فضلا عن المؤثرات الإقليمية، والعالمية (انهيار يوتوبيات الاشتراكية مثلا وفقدان المعنى في عالم الكونية الجديدة).

مقاربات منهجية البحث بشكل أساسي:

لما كانت الظاهرة قيد المعاينة تمتد من الدولة السلالة-الدينية القديمة إلى الدولة الحديثة، فان هذا الازدواج يستوجب تطوير مقاربتين منهجيتين أساسيتين لدراسة موضوعة الطوائف والطائفية في الدولة الحديثة:

1- المقاربة المنهجية الأولى هي المقاربة التاريخية للأحوال والأهوال في الدولة السلالية، حيث ينبغي أن ينطلق البحث من استقصاء علاقة الدولة أو البنية السياسية بالأديان والمذاهب ونمط العلاقات الاجتماعية-الثقافية بين الأديان والمذاهب في الحقبة ما قبل الحديثة، لتمهد التحليل البنيوي للحقبة الحديثة، حقبة الدولة القومية (أو الدولة المركزية). فالبنية الفكرية للمذاهب والبنية الاجتماعية للطوائف في هذه الحقبة تتميّز بسمات خاصة تختلف عن تلك في الحقبة الحديثة. والخلط بين الاثنتين هو أحد أكبر الأخطاء في الدراسات السوسيوأنثروبولوجية عن الطوائف. فالطوائف في العصور السالفة هي جزء من التنظيم الاجتماعي، وفكرها امتداد نابع من الأيديولوجيا الدينية السائدة، وهي لذلك تعتبر "طبيعية"، بمعنى اتساقها مع البنى السياسية والاجتماعية والثقافية المتشظّية، اللامركزية، بتعدّدها وعزلتها عن بعض البعض.

2- المقاربة المنهجية الثانية هي المقاربة البنيوية التي تدرس عوامل تشكّل ونشاط الهويات الطائفية المسيّسة (الجزئية) في الدولة القومية الحديثة، من حيث تنوعها في المكان (بين دولة وأخرى) وتطورها في الزمان (. هنا نجد أن الظاهرة المدروسة هي نتاج عوامل عدة: سياسية (النظام السياسي)، واقتصادية، وثقافية، وأيديولوجية، ومؤسساتية ... إلخ، أي هي نتاج علاقة الدولة الحديثة بمجتمعها المتعدّد، وتأزم هذه العلاقة، وما نجم عن ذلك من تمييز وعسف وإفراغ المجتمع، فاتحاً المجال لتسييس الهويات الثقافية للطوائف، بل (أحياناً) عسكرتها (العنف السياسي).
لذلك ينبغي أن تدرس الظاهرة على النحو المذكور أعلاه.

أولاً: المقاربة التاريخية للدولة السلالية والبنى السياسية ما قبل الحديثة
نقطة الابتداء في هذه المقاربة هي دراسة شروط نشوء وتركيبة وشرعية الدولة السلالية وعلاقتها بالدين سواء كمصدر شرعية أم كفضاء اجتماعي ومؤسسات، وتنظيم المؤسسة الدينية، في تفاعلها مع الدولة ومع التنظيمات الاجتماعية. التركيز إذن هو على: الدولة، المؤسسة الدينية، التنظيم المجتمعي.

أولا-1: الدولة السلالية هي دولة دينية بامتياز، وقد تكون دولة بمذهب محدّد على الغرار العثماني، فقد تبنت المذهب الحنفي، وسمحت للمذاهب السنية الأخرى بالبقاء (الشافعي والمالكي)، باستثناء المذهب الحنبلي الذي بات يشكل خطرا عليها منذ نشوء الإمارة السعودية الأولى أواخر القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر. وكان منصب المفتي الأعظم جزءا من البيروقراطية الرسمية بتنظيم هرمي يوازي الإدارة ويندمج بالجيش، معتمدا في ديمومته على سلطة السلطان وعلى الموارد الرسمية المالية المخصصة له. وكانت هذه الدولة تعتمد في جهازها العسكري الإداري على المسلمين السنة (رغم وجود حالات توظيف غير المسلمين في مسؤوليات إدارية معينة- المالية مثلا). ولم تكن الدولة السلالية معنية بنشر الدين أو العقيدة الرسمية، وكانت بعيدة عن فرض المجانسة المذهبية-الدينية أي أنها كانت تميل إلى إبقاء التشظي القائم: فهي بازاء مجتمعات (أو جماعات) مبرقشة، ذات تنظيم ذاتي داخلي، جماعات تعددية مغلقة، تقتصر علاقتها بالدولة السلالية على دفع الضرائب (الجزية  العشور، إلخ) مقابل حماية الحياة والأملاك وحرية العقيدة في حدود الجماعات الجزئية (مثال الدولة العثمانية)، رغم أن الجماعات غير المسلمة كانت تقع في المرتبة الأدنى من الهرم الاجتماعي (مفهوم أهل الذمة).
بالمقابل قد تكون الدولة السلالية دولة دينية مذهبية تدير مجتمعاً تسوده، أو تفرض عليه تجانساً مذهبياً، على غرار السلالة الصفوية القاجارية، رغم احتفاظ المجتمع بانشطاره إلى تنظيمات اجتماعية متعدّدة: القبائل، والأحياء، والطرق الصوفية ... إلخ. وكانت المؤسسة الدينية في العهد الصفوي مندمجة بجهاز الإدارة السلطانية التي تتولى حماية المؤسسة ومدها بأسباب العيش على شكل الأوقاف التي تدر الريوع، وهي في هذا تشبه الحالة العثمانية، إلا أن الغزو الأفغاني وسقوط السلالة الصفوية فك الارتباط بين الاثنين، فاستقلت المؤسسة الدينية عن الدولة، وبقي هذا الاستقلال قائما حتى بعد انحسار الاحتلال وتأسيس السلالة القاجارية، من هنا بدأت المؤسسة بناءها المستقل ومواردها المستقلة عن الإدارة السلطانية. وكانت الجماعات غير المسلمة تقع هي الأخرى في أدنى السلم الاجتماعي.
كان الدين هو الايديولوجيا السياسية السائدة، وهو مصدر الهوية، والشرعية، وأداة التعبئة، والتمايز الاجتماعي. وكانت العلاقات الإقليمية المحتربة بين الإمبراطوريتين العثمانية- الصفوية (القاجارية)، وهو صراع مصالح سياسية واقتصادية، يدور باسم الدين المتمذهب، وقد دار بمعظمه على رقعة المشرق العربي، وكان للعراق ولبنان النصيب الأكبر منه. وكان الطرفان يعتبران حماية الملة (أي الجماعة المذهبية) جزءا من الاستراتيجية السياسية والعسكرية، في إطار ما يسميه المؤرخون المختصون بالتاريخ العثماني-القاجاري: العلاقات والتدخلات الإقليمية الطائفية. (حال مصر مختلف: دولة مركزية، الإقطاع المركزي- هيمنة الدولة على الريوع الزراعية، وحدة دينية وتعايش بين المذاهب السنية، ووضع خاص للأقباط ( لعل الإمارات في المغرب العربي لا تختلف كثيرا عن النموذج العثماني، الإمارة السنوسية في ليبيا، إمارة أمير المؤمنين في المغرب، أو إمارة الجزائر- وقعت كلها فريسة الاحتلال الفرنسي وتعطل دورها).
إلى جانب الدول السلالية نشأت إمارات تقوم على العرف العشائري، أو على الدين، أو مزيج الاثنين (إمارة آل سعود، إمارة جبل شمر في الجزيرة، أو إمارة بابان الكردية في العراق، الخ). إلا أن هذه الإمارات لم تلعب دورا كبيرا في عمليات التحول في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، أما في القرن العشرين فان الوضع سيتغير بنشوء المملكة العربية السعودية وتدفق الريوع النفطية عليها). وستواجه هذه الدولة السلالية مشكلة اللاتجانس في المذاهب (شيعة المنطقة الشرقية، وبقايا الأحناف والشافعية في الحجاز- ثمة محاولة لإحياء المذهب الشافعي في الحجاز بازاء المذهب الحنبلي في نجد).
وحين واجهت السلالتان العثمانية والقاجارية في وقت متقارب حركة الإصلاح الدستوري بنزعة قومية ليبرالية (في 1906 و1908 على التوالي) بدأت البنى الدينية بالتمزق فحلت الجماعة القومية والانتماء القومي محل الانتماء المقدس، وحلت الأمة الدولة، كنقطة ارتكاز ومرجع، محل المقدس - الطائفة كنقطة ارتكاز ومرجع. ولم تمر هذه النقلة من دون أن تترك آثارا عميقة تتجلى في المجتمع والايديولوجيا. حسبنا الإشارة إلى أن شاه إيران كما السلطان العثماني واجها الفكرة القومية والدستور بفكرة الجامعة الإسلامية والشريعة. وهاتان فكرتان أساسيتان عند الكثير من الأحزاب والتيارات الإسلامية (رفض الدستور الوضعي باعتباره بشريا بازاء قدسية الشريعة، رفض المساواة القانونية والسياسية مع غير المسلمين- أهل الذمة- رفض البرلمان باعتباره صنما أو بدعة،و حاكمية دنيوية، بإزاء مطلب الحاكمية الإلهية الخ).

أولا-2: تنظيم الدين: الدين عقائد ومؤسسات. مؤسسة رسمية (مفتي الديار في الدولة العثمانية، الجامع الأزهر بمصر، أو الزيتونة في تونس، وهلمجرا)، أي أنه جزء من البيروقراطية، أو هو مؤسسة لارسمية (، ذات استقلالية مثل الحوزات العلمية في النجف أو قم، أو جبل عامل بلبنان (هذا هو الحال في إيران والعراق، ولبنان في الحقبة السلالية أو لاحقاً الحقبة الحديثة). أو قد يكون الدين منظما في طرق صوفية تتمحور حول قطب الطريقة وتندمج بالأصناف الحرفية في المدن، أو تتحول إلى مركز توسط بين القبائل، مركز يتحول إلى زعامة سياسية أو تاريخية (السنوسية في ليبيا، القادرية في الجزائر والعراق، النقشبندية في تركيا وإيران والعراق).
هنا نواجه طبقة كاملة من رجال الدين أو أقطاب الطرق الصوفية، منظمة في اسر ممتدة، وموحّدة إما بمصاهرات داخلية، أو متماسكة بنسيج عقائدي، مثلما هي متنافسة على المواقع والموارد، وهي تتولى إنتاج وإعادة إنتاج الفكر الديني، من خلال الإنتاج الفقهي (الكتاب)، ونشره (المدارس الدينية، الطقوس والكرامات، مراقد الأئمة والأولياء)، وتوليد موارد مالية خاصة أو المال المقدس: (الخُمس والأوقاف على الجهة الشيعية، والرواتب والتبرعات وموارد الأوقاف على الجهة السنّية. هذا يصحّ أيضاً على الطوائف المسيحية بالطبع، لكننا نتركها خارج الاعتبار).
وهذه الطبقة ترتبط بالدولة ارتباطا مباشرا أو غير مباشر لجهة الموارد، وترتبط بها مباشرة لجهة دعم أو نقض الشرعية. وهي أيضا ترتبط بسائر جماعات المجتمع بألف وشيجة ووشيجة، من الطقوس والشعائر (العبادات، الذكر الصوفي)، إلى عقود الزواج والطلاق والإرث، إلى حماية نظام القيم وطرز الحياة (الحجاب، وفصل الجنسين)، والشرعية الاقتصادية (تحريم الربا، وإباحة التجارة، وحماية الملكية الخاصة للعقار والرساميل أولاً، ثم للأرض - بعد تأسس نظام المالكانه - أي الملكية الصرف للقيعان ... إلخ، وهي ظاهرة حديثة تأسست ابتداء من منتصف القرن التاسع عشر).
وعليه، فإن منهج دراسة الطائفية الدينية في هذه الحقبة يجب أن ينطلق على صعيد الأفكار من ا: العقيدة، في بعدها السياسي (توليد الشرعية أو نفيها). فعلى الجبهة السنية ثمة عقيدة اعتبار السلطان شرطا إلهيا لحفظ الأرواح والممتلكات، أو منع الفتنة، أي الفوضى، في الممارسة العملية، ورفع لواء حصر الإمامة (=الحكم) في قريش. وعلى الجبهة الشيعية نجد الفكرة نفسها منذ تولي الكركي للاجتهاد في ظل السلالة الصفوية، حتى ثورة المشروطية في إيران القاجارية 1906-9، في الممارسة العملية، أما في المنطوق الفقهي فان كل الحكومات تعتبر"غصبية" (لا شرعية) في عصر غيبة الإمام المهدي. وفي كل الأحوال فان انتاج الشرعية سواء الفقهي أو العملي مقيد بمفهوم العدل، وهذا معين على انه تطبيق الشريعة الإسلامية. من هنا فان الشرعية العملية ووجهها الآخر الشرعية العقائدية يمكن أن يتبادلا الأدوار، وأن يتعايشا أو، بالعكس، يتصادما، من هنا المرونة في التكيف بموازاة التصلب في المواقف. وتحوي كل هذه الأوجه إمكانات مضمرة على الانبثاق في عقود لاحقة وتحت ظروف مغايرة، مولدة اعتراضات سياسية عاصفة.
وتلعب طبقة رجال الدين دورها في هذه الحقبة اعتمادا على تعريف ذاتي بأنها وارثة الأنبياء، أو حلقة وصل بين الأئمة والأنبياء، في حفظ الشريعة، سيان إن كانت هذه الطبقة مستقلة تنظيميا وماليا عن الدولة أم لا. وعلى العموم وقفت هذه الطبقة موقف المعارض للإصلاحات الدستورية المذكورة أواخر القرن التاسع عشر، فيما اتخذت نخب محدودة ومحددة من هذه الطبقة موقف المحرك والحليف للنزعة الدستورية كما حصل في ثورة المشروطية في إيران (1906-1909) وفي الإصلاح الدستوري العثماني (1870-1872) أو لاحقا ثورة الاتحاد والترقس (1908).
الموارد المالية لطبقة رجال الدين ووظائفها الاجتماعية هي حقول احتكار يجري الذود عنها بحمية بالغة شأن دفاع التاجر عن رأسماله، أو السيد الإقطاعي عن قيعان أملاكه، وإن التخيلات عن هذه الطبقة بوصفها شريحة اجتماعية ذات مصالح هو اقرب إلى الواقع من تصورها جماعة أخلاقية متعففة ومنزهة عن المصالح الدنيوية.
وتستخدم هذه الطبقة الموارد والأوقاف الدينية وشبكة المدارس وزمر المريدين لبناء قاعدتها المالية والتنظيمية المستقلة، كما تستخدم الطقوس لتوليد الهوية الثقافية والإمعان في تميزها، فضلا عن خلق فضاء ثقافي لشرعية هذه الطبقة عينها كحارس للعقيدة، بأصولها وفروعها.
مثل هذه الدراسات عن طبقة رجال الدين كطبقة شبه مغلقة وعن العقائد السياسية والطقوس، ومثل هذه المادة السوسيولوجية السياسية الاقتصادية الثقافية عن شبكة المصالح الدنيوية، توفر صورة عن اللحظات السابقة واللاحقة للانتقال إلى الدولة الحديثة، وتحدد مناطق الاشتباك أو التوافق مع الجماعات الجزئية، في سائر الميادين تقريباً، من الشرعية السياسية، إلى مقاومة المركزة، ومن احتكار الدولة لتطبيق القوانين (نظام القضاء المركزي محل القضاء العرفي)، إلى تحديث هذه القوانين عينها، لكن المركز في ذلك كله هو الانتقال من فكرة "الجماعة المقدسة" إلى فكرة "الجماعة القومية"، وحلول الانتماء القومي محل الانتماء المقدس، وحلول الأمة  الدولة، كنقطة ارتكاز ومرجع، محل المقدس - الطائفة كنقطة ارتكاز ومرجع.

ثالثا: التنظيم الاجتماعي: حقبة الدولة السلالية هي زمن التفتت الاجتماعي، وعزلة المدن والأحياء عن بعضها، كما عزلة القرى عن المدن، وانفصال عالم القبائل عن المدينة وعن بعضها.
الدولة السلالية في تلك الحقبة كانت عاجزة عن تنظيم العنف الممركز سواء في حالات الاحتراب الداخلي ضد أمراء أو قبائل متمردة أو ضد عدو خارجي، وكان الجهد العسكري مستحيلا بدون كسب القبائل ضد بعضها، أو ضد عدو خارجي، مقابل إباحة السلب والنهب في الحروب، ولكن بدرجة اكبر بإقطاع زعماء الحرب المحليين اقطاعات من الأراضي.
الحال نفسه مع طبقة رجال الدين. ثمة أشكال عدة من الترابط: الدخول في خدمة السلطان، أو التحالف مع أمير (حالة الوهابية)، أو كسب القبائل (حالة النجف مع قبائل جنوب العراق لصد الغارات العسكرية من الإمارة السعودية-ق19)، أو تزعم رجال الدين لهذه القبائل مباشرة (ما فعله متصوفة السنوسية في ليبيا)، الخ.
التنظيم الاجتماعي يرتكز هنا على أربعة شخوص: الأمير، العالم (أو المجتهد والقطب الصوفي، أو السادة والأشراف)، التجار ورؤساء الأصناف في المدن، وشيخ القبيلة في البوادي والأرياف. ولما كان بين 75-90% من السكان خارج المدن (ما تزال مدن أفغانستان حتى اليوم تشكل نحو 10% من السكان) فان ثقل الأرياف والبوادي وثقافتها العرفية والدينية هي السائدة، وهي الفضاء الذي تتلاعب به مراكز السلطة في المدن بهذا القدر أو ذاك من النجاح أو الإخفاق.
القبيلة، القرية، بما فيها من عشائر، والمدينة بما فيها من أصناف حرفية، وطرق صوفية، ونقابات تجار، تتميز بنظام قيم وطرز حياة منفصلة عن، أو متداخلة مع الثقافة الدينية - المذهبية. الأحياء في المدن كانت منظمة حسب الدين أو المذهب، ويشكل الوجهاء والأشراف القيادة الطبيعية لها، مثلما يؤلف الشيوخ (أو الأغوات عند الكرد والبيكات عند الترك) القادة الطبيعيين.
ونلاحظ أن التنظيمات الاجتماعية تتجاوز العصبيات المذهبية وتشطرها: الوحدة القبلية المتجاوزة للانقسام المذهبي، مثلما أن المذهب الطائفي يشطر القبائل ما أن تتجمد القبيلة في المكان (منع الارتحال الحر في بعض البلدان شطر العشائر إلى نصف سني ونصف شيعي، كما أن بقاء جل القبيلة الواحدة في ديرة (رقعة جغرافية ثابتة بكاملها) سمح ببناء الوحدة الدينية والقبلية في آن. وفي كل الأحوال تبقى القبائل عموما محتفظة بازدواجية الهوية القبلية والدينية، متحركة بين هذين القطبين مائلة لهذه مرة ولتلك مرة أخرى، حسب الظروف.
أما في المدن فان ثبات الهوية الجزئية للدين أو المذهب أكثر صلابة، فقطعان البدو والقبائل الرحل متحركة، أما الأرض والمدن فلا. ثبات المكان يتيح للمتعظيات الاجتماعية قدرا اكبر من الاستمرار. وبودي هنا المغامرة بتصنيف ثلاثة أشكال من علاقة الدين-المذهب بالتنظيم الاجتماعي: الأول هو أولوية الجماعة القرابية الكبرى ممثلة بالعشيرة والأسر الممتدة، كما حال العراق، فالطائفة ليست تنظيما اجتماعيا بل فضاء ثقافي مرن ولن يجد الدارس قبيلة واحدة متجانسة مذهبيا، في حين أن التنظيم الطائفي في لبنان تنظيم اجتماعي، تشكل لحماية القرى المتجانسة، وعماده: القرية-الزعيم المحلي- زعيم الطائفة، وفي اليمن، ثمة اندغام للهوية الدينية الجزئية بالتنظيم القبلي اندغاما مكينا، يؤكده الباحثون السوسيولوجيون اليمنيون المرة تلو الأخرى. لعل هناك وفرة من الأشكال الأخرى، وهي مسألة ينبغي أن تبقى مفتوحة للبحث الرصين.
وعليه فان دراسة الطوائف في حياتها المنغلقة داخلياً، وعلاقتها البرّانية بالدولة السلالية (ما قبل الحديثة) أكانت عثمانية أم صفوية - قاجارية، أم كانت إمارات محلية، وعلاقتها بالمؤسسة الرسمية أو الحرة للدين، والعلائق المتشابكة بين الدولة-الدين-التنظيمات الاجتماعية توفر رؤية أفضل وأكثر منهجية لفهم التطور التاريخي للهويات الجزئية، خيرا من اعتماد المقاربة الآنية، بلا تاريخ. فهذه العلائق-الحقول هي منابع غير مطمورة للتأزم الراهن.