مدارات

وداعاً د. غانم حمدون / فيصل عبد الله

في بداية ثمانينيات القرن الماضي، اصطحبني الصديق سعدي عبد اللطيف الى بيت د. غانم حمدون في منطقة بولوغين في العاصمة الجزائرية. وقتها لم أكن قد التقيت د. غانم بعد، سوى تردد اسمه من خلال مجلة الثقافة الجديدة، وقبلها عبر ترجمة رواية "الدون الهادئ" الرائعة ضمن فريق مكون من الأستاذ علي الشوك والأستاذ أمجد حسين. ما استوقفني خلال تلك الزيارة القصيرة برنامج د. غانم اليومي، حيث يبدأ المشي صباحاً، فطور متواضع، وشقة مؤثثة بتقشف واضح. ولربما كان جهاز التسجيل الصغير أغلى مقتنياته الشخصية وأكثرها إستعمالاً. ولفرط حبه لهذا الجهاز إستمعنا من خلاله قصائد محمد مهدي الجواهري، خصوصاً قصيدته "يا دجلة الخير" والتي أهداني نسخة منها.
مر الزمن سريعاً، حتى التقيته مرة ثانية في لندن بعد ان أصبحت عاصمة الإمبراطورية وجهة العراقيين وبوصلة لشتاتهم غداة غزو الكويت في آب 1990 وما تبعها من تعقيدات طرحت نفسها على المشتغلين في السياسة. تكررت اللقاءات وتوطدت، خصوصاً عبر الندوات الثقافية والمناسبات الإجتماعية والوطنية ، من دون ان يفقد د. غانم أمله بعراق حر، كامل السيادة، عادلاً ورحيماً بأبنائه.
وزاد من استمرار العلاقة وتعزيزها عبر حرص الغالي كامل شياع على زيارته حالما يأتي الى لندن، إن في سكنه أو حين دخل المشفى مرة. وللأمانة لم أعرف سر تعلق د. غانم بشقيقي كامل لغاية غيابه صباح هذا اليوم. كنت أحسب ان سر تلك العلاقة يعود الى التفاهم العميق بين الرجلين، وإلتقاء أفكارهما حول أكثر من موضوع، والثقة المتبادلة بينهما، ولربما شكل كامل وشخصه نوعاً من محتويات خميرة جديدة للعمل الثقافي والسياسي في آن. لذا استجرت به مرة للتحدث مع كامل، لقوة العلاقة بينها، والطلب منه ترك العمل والعودة الى مكان إقامته.
ولئن كان الزهد أحد سمات د. غانم الشخصية المهمة والتي رافقت حياته، فان الدقة، في المواعيد والكتابة وتقييماته لما يكتب، هي السمة الثانية التي ظلت ملازمة له. بفقدانه فقد العراق أحد أعلامه في العلوم التربوية، وسياسياً ظل ثابتاً على موقفه طيلة أكثر من نصف قرن من الزمن. مؤلم حقاً ان ترحل قامات العراق العلمية والوطنية، وتدفن في أرض بعيدة، فيما يجول على أرض الرافدين زواحف المحاصصة الطائفية والمذهبية والإثنية.