مدارات

سوسيولوجيا العنف والإرهاب

مصطفى الفقي
أصدرت «دار الساقي» في بيروت كتاباً له أهمية خاصة من حيث مؤلفه والتوقيت الذي صدر فيه والأسلوب الذي عالج به القضايا التي يطرحها، فالمؤلف إبراهيم الحيدري هو عالم اجتماع وكاتب عراقي اختار لكتابه عنواناً مثيراً هو الذي جعلناه عنواناً لهذا المقال ثم استكمله بعنوان فرعي قال فيه: لماذا يفجر الإرهابي نفسه وهو منتشٍ فرح؟ ويستهل مقدمة كتابه قائلاً: فجر الهجوم المرعب على مبنى مركز التجارة العالمي في 11 أيلول (سبتمبر) 2001 سجالاً واسعاً في وسائل الإعلام المقروءة والمرئية والمسموعة حول إشكالية العنف والإرهاب التي أصبحت في غاية الأهمية لارتباطاتها المتعددة وتطبيقاتها العملية وتأثيراتها الاجتماعية والسياسية والأخلاقية، ولكونها ظاهرة عالمية ومحلية في آن واحد وموجودة في الشرق كما في الغرب وفي جميع الدول والمجتمعات سواء كانت دينية أو علمانية، وقد تطورت هذه الظاهرة الخطيرة إلى ممارسة يومية تعبر عن عنف وقسوة، وتدمر الإنسان والمجتمع والحضارة وخصوصاً حين تتحول إلى أيديولوجيا تكفيرية، ويقع الكتاب في خمسة فصول يستعرض فيها المؤلف تاريخ الأفكار المتصلة بالنزعة التدميرية للعنف، ويمضي لمناقشة ثقافة العنف ذاته متعرضاً لتاريخ الحركات الأصولية اليهودية والمسيحية والإسلامية، ثم يستعرض أسباب التوسع السريع للتنظيمات الإرهابية ويتساءل: هل يعيش الإرهابي على حدود حضارتين متعارضتين؟ كما يناقش في أحد فصول كتابه وفي بحث متميز موضوع ثقافة التسامح ويشير المؤلف إلى حقيقة مؤداها أن الإرهابيين يستندون إلى منظومة فكرية وثقافية تسوّغ أعمال العنف وتحاول تبريره وإعطاءه شرعية وتستعين بشعارات ومقولات تخاطب الغرائز وتدغدغ العواطف البدائية من دون الوعي أو إعمال العقل ولهذا يصبح العنف هو الطريق الطبيعي الذي يقود إلى الإرهاب إذا لم يوقف عند حده، ووفق علم النفس الاجتماعي فإن الإرهابي هو شخص عصابي، أي أنه مريض فقد المرونة وإمكانية التفاهم والحوار والتسامح في التعامل مع الأمور ولم يستطع إيجاد حل آخر لكل قضية تسيطر عليه، ولذلك يكون حله لها قسرياً حتى لو اقتضى ذلك تدمير الذات وإنهاءها، ويرى الحيدري أن الأسباب السياسية الداخلية والخارجية تقف في أغلب الأحيان وراء أكثر أعمال العنف والإرهاب خصوصاً في الدول الاستبدادية الشمولية وذلك بسبب الفقر والجهل وعدم المساواة وغياب التفاهم والحوار الديموقراطي وعدم مشاركة جميع الطبقات والفئات الاجتماعية في الحكم وخاصة في أوقات الأزمات والكوارث والحروب والصراعات الطبقية، ثم ينتقل المؤلف ليتحدث عن الثقافة والعنف ليرى أن جوهر إحدى أهم مشكلات السوسيولوجيا الرئيسية هو معرفة سياق التثقيف على نمو الفرد وتطور شخصيته وميوله التعاونية والعدوانية وطبيعة التنشئة الاجتماعية والتربوية، ويعرج المؤلف ليعتبر أن العنف استجابة مكتسبة من البيئة الاجتماعية والسياسية والثقافية خصوصاً في المجتمعات التي تسود فيها النزعة الأبوية (البطريركية) وتقوى العصبيات القبلية والإثنية والطائفية وتنعدم فيها الحرية واحترام الرأي الآخر، ويضيف المؤلف أن هناك حقيقة جديرة بالملاحظة وهي أن تاريخ الإنسانية مملوء بأشكال العنف وأنواع الصراعات والنزاعات والحروب وما زال العنف حتى اليوم يتخذ وجوهاً وأشكالاً وأساليب ووسائل دفاع وهجوم مختلفة ومتنوعة، وأغلب وسائله وأدواته غير مشروعة ولا أخلاقية، ويشير المؤلف إلى طبيعة العنف ضد المرأة تحديداً لأن دوافعه تنطلق من بواعث الصراع المستمر بين الوظيفتين الذكورية والأنثوية، ويذكر الحيدري بنشأة الحركات الإسلامية الأصولية ويستعرض تاريخ «الإخوان المسلمين» في مصر ثم يشير إلى جهيمان العتيبي عندما هاجم المسجد الحرام بـمكة المكرمة مع أربعمئة من المتطرفين وكان ذلك تالياً لاحتلال السفارة الأميركية من قبل الثوار الإيرانيين وسابقاً على قيام تنظيم «القاعدة» الإرهابي والظواهر المرتبطة به لأنه هو التنظيم الذي أفرخ فيما بعد تنظيم «داعش» الإرهابي أيضاً، وينتقل المؤلف بعد العرض التاريخي الموثق إلى إثبات العلاقة بين ظاهرة الإرهاب وصدمة الحداثة وهنا يقول: كانت حملة نابليون على مصر عام 1798 صدمة حضارية للعرب والمسلمين الذين وجدوا أنفسهم وجهاً لوجه مع الغرب المتقدم علمياً وتكنولوجياً ويملك أسباب وأدوات الحضارة والمدنية والمعرفة ويهيمن عليها، وقد هزت هذه الصدمة الشرق العريق باعتباره مهبط الأديان والحضارات حيث اكتشف فجأة أنه متأخر وأن الآخر متقدم عليه وشعر للمرة الأولى بالهوة الحضارية، ويتساءل المؤلف مرة أخرى: هل يعيش الإرهابي بالفعل على حدود حضارتين متعارضتين؟ وهي كما أشرنا في بداية هذا المقال محاولة لفهم طبيعة العوامل المباشرة وغير المباشرة المؤثرة في تكوين السلطة الرمزية، ويضيف إلى ذلك قوله: إن الذين يعيشون على الحدود بين الحضارات يحاولون تجاوز هذا الاختلاف والتباين إما بالقبول أو الرفض ويحاولون التعايش معه إلى حين لأنهم يرفضون القيم السائدة باعتبارها غير شرعية وهم بهذا يضعون أنفسهم في وضعية حدودية مبنية أساساً على الاختلاف العقائدي، لذلك يكون رفض الآخر نتيجة طبيعية لهذا النمط من السلوك الإنساني، ويصل المؤلف في الفصل الخامس تحت عنوان ثقافة التسامح متسائلاً: ما هو معنى التسامح بداية؟ إنه من المفاهيم المتداولة اليوم والتي تستخدم في السياقات الاجتماعية والثقافية والدينية التي تصف مواقف وممارسات واتجاهات تتسم باحترام الآخر ونبذ التطرف والعنف. يقول فولتير: أنا لا أؤمن بكل ما تريد أن تقول ولكنني سأدافع حتى الموت عن حقك في أن تقول ما تريد. ونفس المعنى عبر عنه الإمام الشافعي بقوله: رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب. وهو يرى أن مفهوم التسامح ليس بجديد فقد ظهر مع الأديان السماوية ولكنه برز كمفهوم اجتماعي وثقافي وسياسي في العصر الحديث وفي سياق التحولات البنيوية العديدة التي ظهرت في عصر الحداثة والتنوير والتقدم الاجتماعي ومبادئ حقوق الإنسان والتي قامت على أنقاض مجتمعات العصر الوسيط وفي سياقات الصراع بين الدول القومية والدول الدينية. وسنكتشف أن الاضطهاد الديني كان أحد أسباب بلورة هذا النوع من الصراع وإبراز آثاره السلبية. ويختم المؤلف كتابه الرصين بالبحث في آراء علماء الاجتماع لاكتشاف الوسائل والأساليب التي تساعد على الوقوف أمام العنف والإرهاب وخلق بيئة خالية من الكراهية والعدوانية والتأكيد على ضرورة أن يسودها الحب والتعاون والتسامح والحوار، وقد طرح المؤلف ستة عوامل تكتسب أهمية خاصة في هذه المرحلة وهي:
أولاً: تحسين طرق التربية والتعليم واتباع أسس علمية وعقلانية رشيدة تبدأ بالتنشئة الاجتماعية منذ زمن الطفولة مروراً بالمدرسة والشارع والمؤسسات الأخرى على أن لا يقوم التعليم على أساس الحفظ أو التلقين أو الاستبداد.
ثانياً: تحسين منظومة القيم الاجتماعية والأخلاقية وتشذيبها من الخرافة والشر والقدر الأعمى والتعصب والعدوانية لأن القيم الاجتماعية والأخلاقية هي محركات السلوك الاجتماعي وتوجيهه نحو التعاون والتسامح وعمل الخير نحو التنازع والعنف والإرهاب.
ثالثًا: تنقية الحواضن الفعلية التي تنمو فيها قوى العنف والإرهاب الفاعلة مع إدانة الإرهاب والإرهابيين ومحاربة الدافعين إلى العنف والمحرضين عليه في المنطقة كلها.
رابعاً: إشاعة ثقافة العفو والتسامح بدلًا من ثقافة العنف والكراهية والعدوان من طريق إصلاح منظومة مؤسسات الدولة والمجتمع وتوزيع الحقوق والواجبات بين المواطنين بعدالة ومساواة.
خامساً: تشجيع مؤسسات المجتمع المدني المتحررة من أيديولوجيا السلطة للقيام بواجباتها في مراقبة الدولة وهيئاتها، وبذلك نضمن أن تكون هناك تنظيمات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية للمرأة ومحاسبتها وتوجيهها نحو خدمة المجتمع.
سادساً: إن فصل الدين عن الدولة والسياسة يعني عدم إخضاع الفعاليات السياسية والاقتصادية والثقافية باحتكار لأي سلطة دينية تدعي أنها تملك الحقيقة المطلقة كما يعني أن يكون التشريع وفقاً للدستور باعتباره قانوناً وضعياً، ويختتم المؤلف كتابه العميق بتكرار أن الثقافة نقيض الإرهاب وأن الفكر نقيض العنف!
إن كتاب إبراهيم الحيدري ينصف الحداثة بقضائه على الخرافة ويبشر بأضواء التنوير والدخول في عصر يحتكم فيه الجميع إلى الكلمة العادلة والرأي الرشيد لأن الغوص في أعماق الإرهاب كظاهرة والعنف كمقدمة له يؤكد في مجمله أنه داء لعين ابتليت به الإنسانية بغض النظر عن الديانات والثقافات والأعراق، كما أن ذلك الداء اللعين ليس من مواليد الأمس القريب ولكنه جزء من تراث موروث، فالإرهاب الكئيب يطل بوجهه القبيح على المجتمعات الهادئة والبشر العقلاء الذين يرفضون العنف وينبذون الكراهية ويؤمنون بالإنسان كقيمة ويرون في حياته دعماً وتأييداً وتفاخراً للبشر قبل الحجر، وللعباد قبل البلاد، فالحرية هي أثمن ما يملك الإنسان ولا ينبغي أن يبددها في مصارف العنف والكراهية من دون وعي بأهمية بناء المستقبل المشترك للإنسانية كلها.
ــــــــــــــــــــــــــ
عن صحيفة «الحياة»