مدارات

الجامعة العراقية.. بين أزمة الراهن ورهانات المستقبل

كما معروف، شهدت الأشهر الاخيرة احتجاجات طلابية في عدد من الجامعات، وخصوصا في جامعتي واسط والقادسية. جرى خلالها اطلاق الرصاص داخل الحرم الجامعي من قبل حمايات مدججة بالسلاح لمسؤولين وقادة سياسيين، اضافة الى اعتقال طلبة وفصل بعضهم، الأمر الذي يستوجب الاستنكار والإدانة بقوة وشدّة. وجاءت هذه التطورات ارتباطا بمطالب طلابية مشروعة تتعلق بظروف حياة الطلبة وتراجع متسارع في العملية التعليمية وتدهور اوضاع المؤسسات التعليمية للدولة في جميع المراحل، هذا اضافة إلى التجاوزات على استقلالية الجامعات والتضييق على الحريات الأكاديمية والتوسع في خصخصة التعليم.
نشير الى الملاحظات في اعلاه، وفي الذهن حقيقة أن الجامعة قد أصبحت، في عالمنا المعاصر، واحدة من أهم وأخطر المؤسسات، نظرا لما يناط بها من مهام تربوية وعلمية وسياسية واقتصادية متعددة... من بينها وفي مقدمتها، ربما، تكوين وتأهيل العنصر البشري والنخب الثقافية، ورفد مختلف القطاعات الإنتاجية والخدمية في المجتمع بما تحتاجه من قوى بشرية مؤهلة للإسهام في عملية التنمية ومشاريعها.
وعلى الرغم من الاستثمارات الموظفة، فإن الجامعة العراقية - في الوقت الراهن وليس وحده – لا تستجيب لمتطلبات اللحظة الراهنة أو المستقبل، ولا تتماشى مع ما مرَّ ويمرّ به المجتمع العراقي من تطورات اجتماعية - اقتصادية ثقافية سريعة وعاصفة. كما أنها أصبحت نسقا شديد التعقيد يضم مؤسسات متشظية وغير متجانسة تتسم بانعدام التنسيق والترابط بين مختلف تخصصاتها، وتخلف المناهج وطرق التدريس المعتمدة وبعدم تحرر قطاع من الهيئة التدريسية من نزعات المحافظة وتأبيد الواقع، وبغياب روح المبادرة، وبتباطؤ وبيروقراطية الأجهزة والهياكل الإدارية، التي أصبحت في معظمها متقادمة، وفي حاجة إلى إعادة هيكلة تستهدف عصرنتها وتفعيلها لتكون بمستوى تحديات الواقع الجديد محليا وعالميا، حيث التطورات العلمية والتكنولوجية العاصفة.
أزمة الجامعة.. أم أزمة النظام الطوائفي/ المحاصصي؟
ومن جهة أخرى، فإن أزمة الجامعة مسألة لا يمكن فهمها، بالعمق الكافي، إلا في إطار ربطها بالأزمة البنيوية التي يعيشها النظام التربوي – التعليمي في بلادنا حاليا، والذي يحتاج الى اصلاح جذري، وكذلك بشروط وآليات نظام محاصصي/ طوائفي/ اثني مأزوم ومخترق بالعديد من عناصر ومظاهر التأزم والتفكك، على صُعد ومستويات مختلفة ومتعددة.
وبعيدا، عما تروجه بعض الخطابات المنطلقة من مقاربات تحصر أزمة النظام التربوي بجوانب تقنية صرفة، يمكن القول إن أزمة الجامعة العراقية هي – كما أزمة النظام المحاصصي/ الطوائفي الحاكم - ازمة بنيوية مركبة ومتعددة الأبعاد. وتتجلى هذه الأزمة في كونها لم تقم ومنذ عقود على رؤية واضحة المعالم لأهدافها وتوجهاتها ووظائفها العلمية والتربوية والاجتماعية. وقد ساعد على ان تأخذ الجامعة العراقية هذا المسار، هيمنة نظم دكتاتورية متعاقبة ونظام ريعي وعدم التمكن من بناء دولة وطنية ديمقراطية عصرية حاملة لمشروع مجتمعي واضح المعالم والأبعاد، يراهن على الجامعة باعتبارها قطبا للحداثة والديمقراطية والتقدم المجتمعي.
وفي إطار السيرورة الصعبة والمعقدة لتطور الجامعة العراقية تنامت أزمتها وتفاقمت عبر السنين، مكرسة في ذلك بتراكم مجموعة من المشكلات والمصاعب والعوائق التي اعترضت هذه السيرورة من بينها: تراجع القدرة الاستيعابية للمؤسسات الجامعية، والتناقض بين مدخلات ومخرجات العملية التربوية، مما أدى الى تضاؤل فرص ادماج الخريجين الجامعيين في سوق العمل، وبالتالي تنامي ظاهرة بطالة هؤلاء، الأمر الذي يمكن اعتباره بداية القطيعة بين الجامعة وبين بعض مكونات محيطها الاجتماعي - الاقتصادي والثقافي، يضاف إلى ذلك ما عرفته الجامعة، وخصوصا فترة بعد 2003 وليس وحدها، من توترات وصراعات سياسية وثقافية وفكرية عامة، وما عانت منه من محاصصات وحروب طائفية.. الخ.
الحراك الطلابي.. رد فعل طبيعي على واقع متردٍ
ولعل الحراك الذي تشهده الجامعة وما يقوم به الطلبة من حركات احتجاجية بين حين وآخر، تنبغي قراءتها باعتبارها ردود فعل تتمرد على واقع متردي. وهي إذن بمثابة تعبيرات حقيقية عن طموحات وآمال تريد جعل الجامعة ميدانا للفكر الحر، لا يجوز تقييدها بانتماء عقائدي او ايديولوجي محدد يخضعها للشعار العتيد: "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"! او أي غطاء آخر بل قطب جاذب ومحرك للتجديد والتغيير والتنمية والعصرنة. فقد لاحظنا وبالملموس كيف تم التعامل مع هذه التحركات ومع المشاركين فيها، فقد تم النظر إليهم، من زاوية المقاربة الامنية اللعينة، كمتمردين أو مشاغبين مزعجين للنظام المحاصصي، ومحاصرتهم بترسانة من التدابير القمعية (ضرب المتظاهرين، الاعتقال، التوقيع على تعهدات بعدم القيام بأية نشاطات في المستقبل، مراقبة تحركات النشطاء منهم، وتوجت أخيرا في أحداث الديوانية بفصل مجموعة من طلبة الجامعة هناك تحت تهم باطلة). وبقرار الفصل هذا تكون بعض السلطات الجامعية في هذه الجامعة، قد خضعت لمنطق المقاربة الأمنية، متخلية بذلك عن دورها التربوي، لتسجل بذلك سابقة "سيخلدها" التاريخ وسيشار بالبنان لمن اقدم عليها!!
هكذا اذن، وبدلا من أن يتم تفعيل مبدأ استقلالية الجامعات وصيانة الحريات العامة فيها، خصوصا حرية الطلبة في التعبير عن مطالبهم وطرح مشاكلهم، وفي اختيار ممثليهم، وعلى ترسيخ ثقافة التعدد واحترام الرأي الآخر، ونبذ الاقصاء والتهميش، ورفض التعصب والتطرف بكافة أشكالهما واحترام الحريات الأكاديمية، ها هي الجامعة تعاني اليوم من هيمنة بعض المجموعات والقوى المتحاصصة التي تحاول أن تجعل من الجامعة معقلا مطلقا لها، ومنطلقا لترويج طروحاتها ومواقفها وفرض "رؤيتها" للعالم على الآخرين حتى لو تطلب الامر استخدام السلاح!
احد المخارج من أزمة الجامعة العراقية.. إعادة بناء العلاقة مع محيطها
ولا بد من الاشارة ايضا الى ان العلاقة المتبادلة بين المؤسسة الجامعية ومحيطها ما تزال ضعيفة، بل منعدمة في العديد من الاحيان. إن هذا هو ما يؤكد كون أزمة الجامعة ليست أزمة خاصة بها، وإنما هي أزمة مركبة تطول النسق الاقتصادي - الاجتماعي برمته. فما يخترق هذا النسق والجامعة من علاقات من قبيل: تضارب المرجعيات، المحسوبية والزبائنية والقرابة، والتهميش واعتماد المحاصصة في التوظيف، أزمة المناهج، الترقيات العلمية... الخ، كل هذا أصبح يشكل عوائق حقيقية أمام انفتاح المؤسسة الجامعية عموما على محيطها الاقتصادي والثقافي والاجتماعي، ليجعل من أزمة النظام التعليمي، وخصوصا الجامعي منه، أزمة مركبة متعددة الأبعاد.
ولتجاوز هذا الواقع المُرّ لا بد من اعتماد استراتيجية تقوم على قيم المواطنة وتعزيز الفكر التنويري والجدل الفكري الحر، الأمر الذي يتطلب اعادة النظر في نظام ومناهج التعليم وطرق التدريس بما يتفق وتأمين مستلزمات التقدم العلمي والمادي وإرساء قاعدة تعليمية متطورة وتشجيع البحث والابتكار وحث الطالب على التفكير النقدي واعتماد العقل الناقد كبديل عن العقل الناسخ الذي هيمن لقرون، وربط العملية التعليمية بعملية التنمية الشاملة في البلاد، وضمان وضع الطالب في مركز العملية التربوية، وترسيخ احترام الهيئات التدريسية ودورها، وضمان الاجواء السليمة لإشاعة العلم والممارسة الديمقراطية في الحياة الجامعية.
ومن جهة اخرى، فان الاستثمار في قطاع البحث العلمي والتقني من الأمور التي لا تحتمل التأجيل تحت أية ذريعة كانت، لأنه يشكل بالإضافة إلى تربية وتكوين الكوادر، أحد الأعمدة الضرورية لأية سياسة تنموية. ويمكن للجامعة العراقية أن تقوم بمهمتها كقاطرة للتنمية شريطة أن تخضع تصوراتها وفلسفتها ومناهجها وآليات اشتغالها وممارساتها إلى إصلاح جذري شامل وليس شكليا.
وأخيرا، لا بد من التأكيد مجددا على وجوب مراعاة خصوصية الجامعة ودورها في المجتمع من قبل جميع الشركاء الاجتماعيين ـ برلمانا وحكومة وأحزابا سياسية ومنظمات المجتمع المدني ـ ففي حالة فقدانها لاستقلاليتها، وعدم ابقائها مفتوحة على كافة العراقيين والعراقيات من دون قيد او شرط، ستعجز عن اداء رسالتها المهمة والمؤثرة في المجتمع، وفي إعداد الكادر المؤهل والمسلح بالعلم والمعرفة والثقافة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجلة "الثقافة الجديدة"
العد 389
آيار 2017